الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

أسمر ملك روحي ..بقلم سناء البيسي

بالأمس اشتقت له‏..‏ افتقدته بشدة‏..‏ شعرت بهوة الفراغ الكبير الذي تركه ليتركنا وسط الفن ــ لا مؤاخذة ــ الذي انحدرنا إليه‏,‏ أو لاجئين لفن أبيض وأسود المفروض أنه راحت عليه‏..‏ بالأمس شاهدته وزيرا يمرق موكبه الرسمي العظيم في جميع إشارات المرور الخضراء كما السكين في الزبدة‏,‏ بلا اصفرار أو احمرار‏,‏ ليصل إلي مبتغاه عند بوابة مطعم الأسماك الأبهة لتصطك أبواب المارسيديسات‏,‏ ويهبط طاقم التشريفة والحراسة والسنيدة وذيول الركب‏,‏ يهرولون أمامه ومن حوله في زوبعة هادرة يفسحون الطريق‏,‏ ويقصون الزوائد‏,‏ ويقهقرون للخلف كل من تسول له نفسه بأن يمد يدا أو لسانا أو عينا أو حبا للاستطلاع‏,‏ ليهل معاليه في الوسط طاووسا لامعا متبخترا متهاديا‏,‏ وكأنه قلب الأرض وبلغ الجبال طولا‏,‏ لاصقا علي فمه ابتسامة المسئولين الكبار التي لا تحمل تواضعا‏,‏ ولا رضا‏,‏ ولا هي تفتح الطريق‏,‏ وأيضا لا تغلقه بالضبة والمفتاح‏.‏ ابتسامة ينساها أو يتناساها علي وجهه كل من أتيح له الجلوس علي كرسي عال أو حلف اليمين وأتاه كشك الحراسة المكين‏..‏
بالأمس سهرت مع معالي الوزير أحمد زكي المطارد بأشباح السلطة الذي لا يأتيه النوم إلا في غرفة الحجز بقسم البوليس أو في صحن الجامع‏.‏ الفيلم رفيع المستوي الذي ذكرني برائعته البرئ أحمد سبع الليل عسكري الأمن المركزي من كان يحمل نايه الشجي الملئ بالشجن فألقي به ليمسك بالرشاش يدور به بعشوائية ليردي أعداء الوطن‏,‏ الفيلم الذي لم تحتمل السلطات وقتها رسالته المقلقة التي حولها أداء أحمد زكي العبقري إلي رسالة مرعبة كانت في مصاف النبوءة بأحداث الأمن المركزي من بعدها‏,‏ وتم بتر النهاية بعد انعقاد لجنة ثلاثية علي أعلي مستوي‏..‏ ومع التداعي التذكري للعبقري الأحمدي من العسكري المقهور إلي ضابط أمن الدولة المستبد المريض بداء السلطة في فيلم زوجة رجل مهم‏,‏ والمحامي البوهيمي في ضد الحكومة‏,‏ والبواب الأخطبوط في البيه البواب‏,‏ وتاجر المخدرات الفاجر في الإمبراطور وفيلم أربعة في مهمة رسمية الذي جري فيه نصف عار ليعانق قردا وسط الشارع‏,‏ والهروب‏,‏ والحب فوق هضبة الهرم والنمر الأسود وأحلام هند وكاميليا‏,‏ وموعد علي العشاء‏,‏ والراقصة والطبال
و‏..‏ عشرات الأفلام آخرها حليم وكنت أتمني أن يكون آخرها معالي الوزير فقد استثمر أحمد زكي بطل أبطال البطولة المطلقة في حليم ضمن أحداث الفيلم‏!..‏ أحمد زكي آل باتشينو السينما المصرية الفلاح اليتيم اللطيم الذي مات أبوه قبل أن يراه‏,‏ وتزوجت أمه قبل أن يأخذ حقه في أمومتها‏,‏ ونشأ وحيدا لا أحد يفرح لنجاحه‏,‏ ولا أحد يخفف عنه أتراحه‏,‏ فاعتاد أن يحزن لنفسه في غياهب نفسه‏,‏ وأن يصادر أفراحه ليظل عاقدا محاكمة مضنية للنفس بعد كل عمل ليشفي غليله الوحداوي في العمل الجديد‏..‏ أحمد‏..‏ العاطفي المقبل والانطوائي المدبر‏..‏ الفنان غير المدرب علي فن الخطاب الجماهيري‏..‏ البسيط الذي كان ينفر من كل شيء يضعه في مقعد النجم كأن يدلي بحديث صحفي‏,‏ أو يقيم مؤتمرا‏,‏ أو تستقبله مذيعة قبالتها وتفتح عليه تمثيلية خطوط تليفونات الجمهور‏..‏
من كان واعيا بأن صاحب الموهبة الأصيلة إذا وقع في فخ النجومية ضلت موهبته وتضاءلت‏,‏ ولهذا لم يتأثر بأي من النجوم الذين شكلوا وجدان وعقليات الجماهير من أبناء جيله‏..‏ وكان حذرا في التلقي يدرس أساليبهم ولا يدخر منها شيئا يحاكيه فيما بعد أو يقتدي به‏..‏ أحمد زكي استاكوزا وكابوريا وشادر السمك الذي نزل بنفسه إلي الترعة المليئة بقواقع البلهارسيا رافضا الدوبلير في فيلم البرئ‏..‏ الأسمر المسمسم النحيل القادم من الزقازيق يلتمس رصيفا في زقاق وسط القاهرة الزاخرة‏..‏ من لم يقع في هوي المسرح رغم دراسته المسرحية وأحب السينما لدرجة الوله واستقر علي ضفافها ليعكس بأدائه العبوات الناسفة الراقدة في أعماق كل منا‏..‏ جمرة النار الفنية بين الأشولة البشرية التي تتحرك في بطء قاتل إلي اللاهدف واللاخطة واللاعجلة‏,‏ ولتصنع في النهاية اللاشيء‏..‏ السخونة التي تتصاعد إلي أعلي مراتب الفن لتذيب أنماطا متحجرة ليفد الإبداع بسهولة‏,‏ وينطق بسهولة‏,‏ ويبدو المستحيل مع أحمد زكي ممكنا‏.‏
أحمد زكي الفندقي‏,‏ ليس من كونه يعمل في سلك الفنادق وإنما لهويته كنزيل فنادق‏..‏ أحمد عنده بيت يدعونا إليه‏..‏ معقولة‏!!..‏ أخيرا النجم القلق الأرق الأعزب المتأجج الذي يحيا ليمثل لا يمثل ليحيا‏..‏ الذي يقف أمام الكاميرا مثل الطبيب إذا دخل غرفة العمليات ليجري عملية للمريض أمامه بلا تفكير في التهنئة التي يحصل عليها بعد نجاح العملية‏,‏ فربما يصرفه ذلك عن الاهتمام بحياة المريض بين يديه فيموت بين يديه‏..‏ أحمد له عنوان بيت بتليفون مثل بقية الخلق تتوقف أمامه العجلات وتصعد إليه في طابق وتدق الجرس أمام باب شقة فيلاقيك شيخ العرب الأسمراني مرحبا ليقودك إلي حجرة صالون‏,‏ ويستأذن ليأتي لك بصور حميمة من حجرة النوم‏,‏ ويدعوك للعشاء ضاحكا من أنه سيكون عشاء عمل في حجرة المائدة‏,‏ أي نأكل علي لقمة ونسيب لقمة‏,‏ أو نأكل شوية ونتكلم شويتين‏,‏ ويقسم ويلح ويعزم ويكدس طبقك بالريش البتللو وورق العنب والكفتة والنيفة والسمبوسة والثومية المشطشطة وبابا غنوج والطحينة‏..‏ وينتقي لك هبرة من هنا ونسيرة من هنا وعصاية شيش طاووك ملغمة من هناك كي تأكل حتي تشبع وتدعي لرب البيت‏,‏ فإذا ما فاض بك وامتلأت ونهجت يقول لك‏,‏ وإن كانت أول مرة تشاركه فيها طعاما علي مائدته‏:‏ لا أنا زعلان وواخد علي خاطري دي مش أكلتك‏..‏ و‏..‏ في بيت أحمد بالمهندسين تغسل يديك في حمام يضم موس حلاقته وزجاجات عطره ومعجون أسنانه الذي قاربت أنبوبته علي الانتهاء دليلا علي استخدامه لها أياما طويلة مسبقة‏,‏ أي أن أحمد يسكن هنا ويغسل وجهه هنا ويدعك أسنانه هنا‏,‏ في محل إقامته هنا‏..‏ وفي عودتك لصالونه الصاخب حيث يتحدث الجميع في وقت واحد‏..‏ أحمد وضيوفه والتليفزيون‏..‏ في عبورك إليهم تلمح عبر الأنتريه والطرقة رفوف مكتبة ثرية المؤلفات الأدبية والسياسية وتليفزيون جانبي مفتوح علي مسرحية وأطفال يستمتعون بالمشاهدة‏,‏ وكاسيت جانبي يرتل قرآنا‏,‏ وآيات بينات معلقة علي الحوائط‏,‏ وتلمح من خلال باب المطبخ وجوها تعكس مظهر عائلة متكاملة بأفرادها واقفة تطبخ وتغسل وتقشر وتثرثر وتخرج من الفرن لضيوف الأستاذ صينية كنافة بيتي بالسمن البلدي‏,‏ ومن الطاسة فوق العين الكبيرة تسمع طشة قلي لقمة القاضي وهلالات القطايف‏,‏ وتقودك لمائدة الحلو شابة متضخمة بوجه سمح وترحيب ودود يشعرك بأنك في بيتك‏..‏ الله‏..‏ أحمد عنده بيت‏.‏
يومها كان أحمد زكي لم يخلع عنه بعد كيان أنور السادات‏..‏ الحقيقة والاستنساخ كلاهما لم يزل يرتدي الآخر رغم الشعيرات التي عادت لتنبت في مقدمة رأس النجم بعدما كان برنامجه الاستيقاظ فجرا للقيام بحلاقة تلك المقدمة إلي نقطة ما تحت الزيرو لتغدو صلعاء طبيعية ناعمة لامعة تتوسطها زبيبة الصلاة الشهيرة‏..‏ الشارب الكث أيضا تلاشي وعادت لوجه أحمد ملامحه المعهودة بعدما يزيد علي سبعة أشهر ساداتية‏,‏ وإن تركت رواسب في نظرة تنحو للدهاء‏,‏ وكشف غور الطرف الآخر‏,‏ مع ظلال ابتسامة تتكور فيها الشفاة عند الإنصات كمن يلوك في فمه ما يقال يتذوقه ليبتلعه أو ليبصقه‏..‏ و‏..‏ وأرنو عن قرب للوجه الصديق فألحظ تعب الأيام الذي بدأ يسور شفتيه‏..‏ و‏..‏ ألمح آثار التفكير العميق التي حفرها الإرهاق علي جبهته‏..‏ و‏..‏ أستشعر في عيونه حزنا ليس عليه وعلينا بغريب‏,‏ إنه دمنا ولحمنا وطعامنا وشرابنا نحفظه ونرعاه ونعتنقه ونحتفظ به كما نحفظ ونقدس التراث‏..‏
أحمد السادات معنا بعدما جلسنا إليه مسبقا وهو أحمد ناصر‏..‏ نفس التقمص والتلاشي والذوبان في الآخر‏..‏ الملامح‏.‏ اللازمة‏.‏ التقطيبة‏.‏ الضحكة‏.‏ صنع القرار والنطق به‏.‏ حديث الأصابع ومراوح العيون في النظرة الثاقبة‏.‏ الرأس عندما تنحني منصتة وتشمخ مترئسة‏.‏ الاستغراق في شرح ما هو مغلق‏,‏ وغلق ما فهم علي سبيل الخطأ‏,‏ وحظر الكلام من أصله لصالح أمن الوطن‏.‏ تعبيرات المديح والتهديد والتنكيل ونتف الذقن ومخاطبة المختبئ في غيطان الذرة ومغارات الجبل‏..‏ الحضور والكاريزما‏..‏ والمذهل أن ابن زكي الصعيدي القدير بفعل التلاحم الداخلي كان في استطاعته الاقتراب بوجهه من طلعة وطلة شخصيات تاريخ مصر‏,‏ بأن يطيل وجهه ويبرز ذقنه ويشمخ بأنفه ويعرض أكتافه ويسكن عينه نظرة الفهد وينطق‏:‏ أيها المواطنون لتصدق أن عبدالناصر عاد ليصعد منبر الأزهر بعد النكسة يجر ساقين متخاذلتين يتساند بذراعيه علي جانبي درابزين المنبر وقد سقطت الأكتاف وتهدلت الثياب فوق قامة منهكة‏,‏ ويستدير ناصر للحضور الغفير في أركان الجامع المكدس ببشر علي رؤوسهم الطير يعلن بصوته خافتا كآخر حشرجات النهاية أننا ضربنا‏,‏ ويسري الحزن في كيان مصر تجاوبا‏..‏ خطبة تاريخية مقدمتها الاعتراف الواجف الراجف بالوضع المؤسف‏,‏ ثم استقرار لحبال الحنجرة في شرح لتحركات الجيش الصامد الذي لم يرفع راية الفناء‏,‏ ثم عودة طبيعية لرنين صوت يستعرض نماذج للكر والفر في تاريخ أرض النيل‏..‏ بعدها الطبقة العالية يهيب بها ناصر المصريين‏:‏ لن نستسلم‏..‏ حنحارب‏..‏ ويدوي الهدير‏..‏ ويهبط ناصر ــ أحمد زكي ــ بفعل الحماس الوليد بألا تراخي ولا استسلام‏..‏ يهبط متوثبا من فوق المنبر يرفع ذراعيه علامة النصر والصمود ووضع الرؤوس علي الكفوف‏..‏‏*‏ ناصر ومن بعده السادات‏..‏ أيهما الأقرب لك؟‏-‏ أنا ابن الثورة مرددا أشعار جاهين ياما شفتك ع البعد عظيمة‏,‏ يا بلادي يا حرة يا كريمة‏,‏ وزعيمك خلاكي زعيمة في طريق الخير والعمران‏..‏ مع السادات لم أكن أتفهم جيدا أبعاد قراراته ومدي حنكتها‏,‏ لكنني بعدما عشت حوله وبداخله لألعب دوره تعرفت علي عملقته‏,‏ ووضعت يدي علي عمق نظره‏,‏ وارتويت بحكمة قناعاته‏.‏ كل منا له سلبياته وإيجابياته لكن لا تستطيع إلا القول بأن مصر بالنسبة لكليهما كانت العشق المقدس‏.‏ أيها المواطنون‏..‏ إخواني‏..‏ الديمقراطية يا ولاد لها أنياب‏..‏ أنا لما خطبت في الكنيست‏.‏‏*‏ رحلة السادات للكنيست في فيلم أحمد زكي؟‏-‏ صورنا لحظات الصراع النفسي قبل فتح باب الطائرة‏..‏ قدم السادات تصنع الصدمة التاريخية‏..‏ تطأ أرض العدو‏..‏ تهبط إلي إسرائيل لوضع اللمسات الأولي لمبادرة السلام‏..‏‏*‏ تقاسم مع بيجين جائزة نوبل للسلام؟‏!!‏‏-‏ أقام مائدة مبكرة جدا للمفاوضات في ميناهاوس من عشرين سنة‏,‏ لابد وأن الكيان الفلسطيني من وقتها للآن لو كان حضر لكان قد استفاد الكثير مما ينشده الآن‏..‏ أنا لم أتلمس وجهة نظر السادات إلا بعدما شرحها السادات الحقيقي بنفسه لحلاقه الخاص محمود لبيب‏,‏ وهذه اللقطة أدخلتها ضمن مشاهد الفيلم حيث يسأله لبيب عن مفهوم تلك المفاوضات فقام السادات بتبسيطها له بطريقة ضرب المثال القريب بقوله‏:‏ عارف يا محمود لما ناس أغراب يدخلوا دكانك ويستولوا علي كل الكراسي‏..‏ لأ ومش كده وبس دول من صفاقتهم يطردوك برة وانت صاحب المكان‏..‏ هي دي القضية يا محمود‏.‏ اغتصاب أرض ووطن وحق بدون وجه حق‏..‏ أنا بقي بترابيزة مفاوضات ميناهاوس دخلتك الدكان مرة ثانية وفرضتك تقعد معاهم تناقش قضيتك عيني عينك وراسي براسك‏..‏ حتاخد كرسي‏..‏ بعدها كرسي تاني وتالت ومين عارف يا محمود‏..‏ فهمت يا لبيب؟‏!..‏ وفهم لبيب‏..‏ وفهمت أنا‏.‏‏*‏ إجادة أحمد في ناصر أم في السادات؟‏-‏ في ناصر قمت فقط بتمثيل حقبة قصيرة للغاية في شباب ناصر‏.‏ فترة تأميم القنال وعام‏1976‏ التي لم يعايشها شباب الجيل الحالي‏.‏ نقطة من حياة صاخبة بعلاقاتها المتشعبة وشخوصها العالميين وأحداثها الزخمة‏..‏ أما فيلم السادات فأنا فيه أتمشي مصطحبا معي حجم قدراتي الفنية عبر أربعين عاما أحداثها مازالت بيننا علي قيد الحياة‏..‏ يعني بصريح العبارة أنا اتمرغت فنيا في هذا الدور‏..‏ هاربا وعتالا ومتخفيا وعاشقا وخلف القضبان في قضية أمين عثمان‏,‏ وأيضا عندما استجوب السادات عن سبب غيابه لحظة قيام الثورة فأجاب بأنه شيء طبيعي أن يذهب أي منا للسينما‏,‏ لأنه لم يكن عنده علم بتوقيتها الحقيقي‏,‏ لأنهم قالوا في الأول هانعملها يوم‏20‏ لكنهم ماعملوهاش‏..‏ و‏..‏ نجح فيلم السادات الذي استدان من أجله أحمد زكي من البنوك لأنه كان عليه عبء الإنتاج كاملا لكن خسارة المال لم تكن توازي لديه متعة أن يقدم الفنان دورا يحلم به‏..‏ ورغم الخسارة المادية رفض أحمد زكي العرض المغري الذي قدمه أحد المنتجين الأوروبيين أثناء عرض الفيلم في معهد العالم العربي بباريس بشراء الفيلم بملايين الدولارات بشرط حذف المشاهد التي تؤكد موقف مصر الدائم من القضية الفلسطينية‏.‏
مضيفنا البناء الذي يبني كل شخصية قام بأدائها طوبة طوبة ومشاعره هي المونة‏,‏ وعناصر البناء الأخري هي كلمات الحوار والحركة‏,‏ كل كلمة لها ما يؤيدها ويدعمها من الحركة والإيماءة والنظرة‏,‏ ولما كان كل ذلك صادرا عن نفس صادقة عاشقة للفن حتي النخاع فإن أحمد كان الوحيد الذي لا يحتاج لماكياج ليغير ملامحه‏,‏ ذلك أن ملامحه تتشكل وحدها من تلقاء المناخ الانفعالي للدور‏,‏ حتي لنري شخصا آخر غير أحمد زكي بلا ماكياج صناعي‏,‏ لهذا لا ننسي شخصياته كلها بل نتذكرها بالاسم ونشعر تجاهها بحميمية كأنها من رصيد تجاربنا الخاصة‏..‏ شخصيات مصرية حقيقية من دم ولحم ومشاعر‏..‏ شخصيات متباينة في مستوياتها الاجتماعية استطاع هذا الفنان بكفاءة نادرة أن يكون كلا منها‏,‏ ومن هنا كان يكره التمثيل في الإذاعة لأنه يستبعد الأداء بتقاسيم الوجه‏.‏
مضيفنا أحمد زكي في صحبته قال وقلنا ولم ينته الكلام كله رغم امتداد السهر علي راحته‏,‏ فالصحبة حميمة والكلام علي عواهنه والعواهن تحمل ذكرياته لزمان مضي في زمن سيمضي ليترك الذكريات و‏..‏ واحنا النهاردة إيه في أيام السنة‏..‏ شتا ولا صيف‏..‏ وفين أنا‏..‏ إيه اللي وصلني هنا‏..‏ أنا صاحب البيت ولا ضيف؟‏!..‏‏*‏ قول يا أحمد قول لي حاجة من جاهين؟‏-‏ يا بخت من يقدر يقول واللي ف ضميره يطلعه‏..‏ يا بخت من يقدر يفضفض بالكلام وكل واحد يسمعه‏..‏ يقف في وسط الناس ويصرخ‏:‏ آه يا ناس ولا مجيب‏..‏ ييجي الطبيب يحكي له ع اللي بيوجعه‏..‏ يكشف مكان الجرح ويحط الدوا ولو انكوي يقدر ينوح‏..‏ وأنا اللي مليان بالجروح ما أقدر أبوح‏..‏ والسهم يسكن صدري ما أقدرشي أنزعه‏..‏‏*‏ فاكر يا أحمد في مسلسل هو وهي عندما استبد بك الغضب فجأة بعد اكتشافك أن غالبية أبطال الحلقات من الرجال قد ظهرت خيانتهم‏..‏ قلت لصلاح جاهين لقد استطاعت
سناء من وراء ظهورنا نحن المشتركين من الرجال التسلل بنظريتها تلك بمنتهي النعومة والخباثة لننقاد جميعا خلفها دون وعي لنحقق وجهة نظرها‏..‏ يا نهار أسود‏..‏ لا وأبدا‏..‏ أنا ماشي‏..‏ لن أكمل هذا العمل المسيء للرجال‏..‏ يومها استطاع جاهين تهدئتك بعدما قدم لك أغنية تشفي غليل الرجال من كل صنف النسا‏:‏ لا‏..‏ لا‏..‏ اثبت‏..‏
ماتخليش ولا واحد يشمت‏..‏ ارسم علي وشك تكشيرة واوعي تلف بجرحك تشحت‏..‏ البنت في تفسير الأحلام‏..‏ دنيا سبحان العلام‏..‏
الأنثي خلاص‏..‏ إلغاء‏..‏ إعدام‏..‏ غشاشة من ضلع أعوج‏,‏ وزي البحر في قلبه ضلام‏..‏ اثبت‏..‏ اثبت
فاكر يا أحمد أنك كنت مرشح لأداء دور واحد من بطانة مشايخ الأزهر أثناء البحث عن نجم يؤدي دور طه حسين ووقع الاختيار عليك‏,‏ وحفرت شخصيته في الوجدان وحققت له حضورا شعبيا حيا بين الأجيال التي لم تكن عاصرته‏..‏ نجحت بتفوق وبعدها قعدت تستعرض أمامنا أكثر من أربعين شخصية أعمي قمت بدراستها قبل القيام بالدور الصعب‏,‏ منها الضرير الذي يولد فاقدا البصر وكيف يتصرف داخل حيز المكان الذي اعتاده‏,‏ والأعمي الذي فقد نظره بعد أن رأي النور وطريقة سيره في الحارة مائلا برقبته تخوفا من أن تلقي إحداهن بمياه قذرة علي أم رأسه والضرير الذي عاش مبصرا وأصابه المرض في كهولته‏,‏ وسيد مكاوي الذي أعجبه صوت منشد ضرير فاستحسنه بقوله‏:‏ يا سيدي اللي عماك يعمينا و‏..‏ ومن هنا جاء صدقك وأدائك المتفرد‏..‏
فاكر يا أحمد لما أخذت تشرح مشاعر اليتم صغيرا‏,‏ وعندما تربيت في بيت خالك‏,‏ وحبك الصامت أيامها‏..‏ وصدمتك الكبري لما شفت عريس حبيبتك بالفانلة طالع من الحمام‏,‏ وخرجت شايل طاجن ستك وبعدها مارجعتش‏..‏ فاكر يا أحمد عندما حكيت عن سقوطك في الامتحان وخجلك من الرجوع للبيت‏,‏ يومها أخذت في وشك وفضلت ماشي ماشي علي شريط السكة الحديد وانت بتعيط بتعيط‏,‏ وبعدين واحد بيه كبير معاه بيه صغير قاعدين علي القهوة‏,‏ نادي عليك وسألك عن سبب دموعك‏,‏ وبمجرد ما عرف أنك حزين وخجلان وخايف ترجع بنتيجتك الخايبة نزل في ابنه البيه الصغير تأنيب وزغد وتبكيت ليأخذك عبرة فهو الآخر قد رسب لكن جتته منحسة وقاعد بمنتهي التلاحة‏.‏‏-‏ يومها صممت أنهي حياتي التعسة بإيدي فقلعت الجزمة ورميت روحي في الترعة‏..‏‏*‏ ها‏..‏ ومت يا أحمد؟‏!‏‏-‏ طلعت الترعة ناشفة وما نابني إلا أني غرست في الطين‏….‏ وعلي ذكر الجزمة عاد أحمد زكي لأيام الطفولة في ليلة العيد عندما كان يرتدي قبل النوم ملابسه الجديدة كاملة‏,‏ أي ينام أيضا بالحذاء والشراب لينطلق لحظة أن يصحو لا يعطله شيء عن اللحاق بالعيد‏..‏
في جلستنا سامرنا طبيب أحمد زكي الخاص الدكتور حسن البنا أخصائي أمراض الباطنة والقلب‏..‏ اندفعت أسأله يومها عن علة أحمد فأجابني‏:‏ علته في معدته‏..‏ في أعصابه‏..‏ الضغط المرتفع‏.‏ جزء من جسم أحمد من شدة توتره تغدو حرارته فوق الأربعين‏,‏ يلاصقه ويجاوره جزء من جسمه أيضا في برودة ما تحت الصفر‏..‏ العصبية تجعله في حاجة دائمة إلي المهدئ‏..‏ سلك عاري مشدود لا ينام ولا يهدأ له بال‏..‏ عندما سمع نبأ وفاة والده الروحي صلاح جاهين اندفع بهستيريا يجري في شوارع لندن وسقط مصابا بمرض مزمن في جهازه الهضمي لم تفلح معه محاولات الأطباء الإنجليز‏..‏ وأستدير لأحمد لأسأله‏:‏ ألم تشعر وأنت تمثل شخصية أنور السادات أنه يمثل في بعض الأوقات‏,‏ وهو الذي عشق التمثيل في أول حياته؟‏!..‏ هنا أتت لحظة غضب أسقط فيها أحمد زكي ما بيننا من حبال الود الطويل‏,‏ مشيحا وكأننا جيشان كل منهما يرفع سلاح العركة‏:‏ أنا يا سادة لا أقوم بالتمثيل‏..‏ ما أعمله في حياتي ليس سوي تنفيذ اتفاق بيني وبين جمهوري‏,‏ وهذا الاتفاق ينص علي الالتزام بقيامي بتقمص الدور الفلاني أو العلاني‏.‏ أي أن أرتدي الشخصية التي أؤديها له بأبعادها كاملة وبصدق خالص‏..‏ التمثيل كما ترونه أنتم وكما أشعر بكم تجاهه يحمل محتوي الكذب أو الزيف‏,‏ وهذا ما لا أرتضيه لعملي أن يكون‏..‏ فاهمين قصدي‏.‏‏*‏ لماذا يا أحمد تتوقف أزرار الريموت عند أفلام زمان؟‏!‏‏-‏ لسبب بسيط إنك عايزة تتمشي بعدما أصبحت الحياة جري ولهاث‏..‏ عايزة شوارع فاضية وشادية بتغني وماجدة غضبانة وفاتن قاعدة سرحانة في مركب بعيد بتشرب حاجة ساقعة في كازينو رومانسي رواده اتنين عاشقين‏,‏ وحلوة في انتظار حبيبها اللامع المسبسب القادم من بعيد الذي يلمحها فيمشي علي أطراف أصابعه يغمي عينيها بكفيه يمتحنها حذري فزري أنا مين‏..‏ أنا أجيب لك كل ده منين دلوقت‏.‏ أنا أنقل لك علي الشاشة الآن صدق الواقع‏..‏ الآن لغاية ما أوصل لحبيبتي في تاكسي أو أوتوبيس أو مواصلة نايمة علي جنبها حيكون عرقي مرقي متبهدل ومنكوش وطلعت منافيسي‏,‏ وهي بدورها مستحيل تقعد علي ترابيزة في كازينو وحدها من غير سخافات ومضايقات‏..‏ و‏..‏ زمان كان الشرير معروف مسبقا أبعاده كماركة مسجلة‏,‏ واحد بيزغر ورافع حاجبه وغاوي خراب بيوت‏,‏ بينما الطيب الحليوة أمير وأهبل وينضحك عليه ويطب زي الجردل‏,‏ وكان الصراع بينهما لابد وأن ينتصر للخير ويهزم الشر حتي ولو بالقضاء والقدر‏..‏ صدقوني الصدق الفني السينمائي الآن يقدم الإنسان الطبيعي‏..‏ الإنسان صاحب الشخصية المركبة حيث لا خير ولا شر علي طول الوقت‏.‏
و‏..‏ يتسرب أحمد زكي من خلال أصابعي ولا أستطيع ضم أصابعي‏..‏ وتوارت ساعة الأنس في أعماق الزمن‏..‏ أسمر ملك روحي‏..‏ قمنا لنودعه فإذا بالمتسيد يعود طفلا يتيما يناشدنا ألا نتركه وحده‏..‏ لكن يا أحمد عندك بالداخل طاقم شغالين و‏..‏ كلهم رحلوا‏..‏ راحوا بيوتهم‏..‏ حتي البنت سيدة أخذها السائق في سيارتي مع زوجها لأنها علي وشك الوضع‏..‏ يعني إذا أنتم روحتم أنا حامشي أنا كمان‏..‏ تروح فين يا أحمد هنا بيتك وعنوانك‏..‏ أرجع اللوكاندة‏..‏ و‏..‏ تذكرت أن مهندسة الديكور عندما أرادت للنجم الفندقي أن يلزم بيته ويهجر ماما الأوتيل وضعت له علي باب غرفة النوم رقم غرفته بفندق رمسيس‏,‏ لكن أحمد كان عندما تستدعيه نداهة رمسيس يقوم علي سبيل المثال بخلخلة حنفية حمام بيته ليصرخ‏:‏ الحنفيات بايظة‏..‏ دي مش عيشة‏..‏ ده مش بيت‏..‏ اللوكاندة أرحم مليون مرة‏..‏ وفي فترة إقامة أحمد زكي بفندق رمسيس تلقي خلال الـ‏15‏سنة إقامة‏25‏ ألف رسالة بالبريد الإلكتروني جميعها عروض زواج من مصر والعالم العربي وأوروبا جميع صاحباتها يعرضن عليه ترك رمسيس والعودة مع العروس بجميع أدوات إغرائها للبيت‏..‏ لكن ولا الـ‏15‏ ألف عرض جعلته يعرض عن الإقامة في الفندق‏..‏ وحتي لا يقوم بخلخلة الحنفيات أو بقطع توصيلات الكهرباء مضينا من أجله نطفئ أنوار بيت بلا زوجة‏,‏ ونتأكد من سلامة إغلاق مفتاح الغاز‏,‏ وأن أحمد أخذ في جيبه الموبايل والمفاتيح والنظارة‏..‏ وقبل أن تكدسنا السيارة الواحدة عاد أحمد يستفسر بإلحاح فيما إذا كنا قد رأيناه بالفعل يغلق باب الشقة‏..‏ وأمام باب فندق رمسيس الخلفي بملابسه الكاجوال وصندل أسود مفتوح يعطي حرية لأصابع القدم هبط النجم الوحيد يغادرنا‏..‏ أعطانا ظهره بعدما ألقي تحية باترة لا تواكب زمنا حميما قريبا للغاية كان يجمعنا‏..‏ ولست أدري لماذا قفز مشهد قام بأدائه أحمد زكي لظهر جمال عبدالناصر عندما بدي علي أرض المطار منكفئا ينوء بأحمال جسام‏..‏ و‏..‏ لما عديت يا أحمد بوابات الرحيل وخرجت من العتبات ومرقت زي السهم في السماوات لنجمك العالي‏..‏ قلبي انفطر‏..‏ أصل الضني غالي‏..‏ يا بوابات الرحيل عداك نجم النجوم‏..‏ أحمد‏..‏ مثله قليل‏!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق