الأربعاء، 19 أغسطس 2009

السـرير النحـاس..بقلم سناء البيسي


السرير النحاس المرتفع بالبلتكانة والأعمدة الأربعة التي تعلوها حلقات مزركشة ودوائر لامعة اسمها عرايس لعب دورا رئيسيا في حياته‏..‏ قالت له أمه إنها حملت به وولدته فوقه‏,‏ ولا يذكر أباه وأمه إلا وهما شيخان يرقدان فوق هذا السرير يغطان في النوم معظم الوقت ليرد شخير أحدهما علي الآخر في معارك ضجيج حامية الوطيس قد تتداخل في رتم هادئ بعد الغداء لعزف سيمفونية التفاهم اللاإرادي‏..‏ يعدل من خلفهما وضع المخدات الطويلة والشلت المربعة‏ويحكم من حولهما الغطاء‏,‏ كل منهما بلحافه الخاص بعدما كانت أنانية جذب اللحاف الواحد كل إلي ناحيته قد أوقعت فيما بينهما شبه الضغينة التي كادت أن تؤدي إلي الاشتباك بالأيدي‏..‏ ويدهن المفاصل كل علي حدة بالمرهم المختص الذي يمتص علي الفور‏,‏ أو بـأبو فاس الذي تمنحه تركيبته الجهنمية صفاقة رائحة نفاذة لا تغادر المكان أو الأيدي مهما نقعت في الماء أو فتحت جميع النوافذ لتيارات الهواء وذلك لعلاجات متعددة علي رأسها الروماتيزم والهشاشة والالتواء‏,‏ولأسباب أخري علي رأسها أن الدهان إذا لم ينفع لا يضر‏..‏ و‏..‏ أصبحت له مهارة مشهودة في سرعة انتزاع جوانب اللزقة وإحلالها مكان الألم بالضبط سواء كانت الشكوي الأبوية فوق عند الضلوع علي جنب‏,‏ أو الأموية تحت كمان كمان كمان أيوه عند العصعوص‏..‏ و‏..‏ لكل منهما سلطانيته الخاصة لطاقم أسنانه فوق الكومودينو ناحيته وإن كانت الأم لم تزل تحتفظ بالفك السفلي الطبيعي داخل فوهة فمها وتقرف موت من سلطانية الوالد‏و‏..‏ لا سهو ولا نسيان لمواعيد الأقراص والبلابيع والكمادات والعلاج الطبيعي وكاسات الهواء وقياسات الضغط ومعدلات السكر وضبط السيولة في الدم وتصلب الشرايين وتنامي الأكسدة و‏..‏ صواني الطعام خالي الملح والدسم ومكسبات الرائحة والألياف والتوابل والمعلبات بموادها الحافظة‏..‏ فوق السرير النحاس تعقد محاكماته اليومية‏..‏ قاضيان في الجنة يحكمان بالعدل حتي لا يكونا مع قاضي النار‏,‏ يصدران الأوامر والقوانين الملزمة والمواد الإضافية الملحقة والتفسيرية من فوق المنصة الذهبية‏..‏ يا ابني ندهت عليك لما صوتي انحبس‏.‏ كنت فين‏.‏ غبت ليه‏.‏ مش سامعني‏.‏ ادعك لي ضهري‏.‏ شد لي وسطي‏.‏ طلعني فوق‏.‏ نزلني تحت‏.‏ شد الغطا‏.‏ خدني يمين شوية‏.‏ افتح الراديو‏.‏ اقفل التليفزيون‏.‏ هات لي السماعات‏.‏ فين النضارة‏.‏ أنا مش مرتاح كده‏.‏ اللهم طولك يا روح‏.‏ خللي أبوك يبطل‏.‏ قول لأمك تبطل‏.‏ واجب عليكيا ضنايا ياما تعبت لك‏.‏ بر الوالدين‏.‏ وبالوالدين إحسانا‏.‏ صدري مبلول‏.‏ رجلي بتوجعني من عند السمانة‏.‏ ضهري متخشب‏.‏ المخدة ناشفة‏.‏ وقل ارحمهما كما ربياني صغيرا‏.‏ يا ستي اسمه يحيي عليه السلام ما تلخبطيش ده قرآن‏:‏ وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وده غير عيسي عليه السلام اللي قال‏:‏ وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا‏..‏ ولا تقل لهما أف‏..‏ ولا يفتح الباب إلا لاستقبال طبيب أو تمرجي للحقن أو صبي الأجزاخانة أو المحامي أو قريب لم تزل تحمله أقدامه لزيارة الناس الكبار البركة من باب صلة الرحم‏.‏أنجباه وقد تجاوزا الأربعين‏,‏ وقبل أن يصل بسنوات عمره تجاه العشرين كانا قد همدا وصعدا المنصة الذهبية لتوزيع الآهات والزفرات‏.‏ عاش طفولته وحيدا في أجواء أمراض زحف الشيخوخة والتذمر‏,‏ وعندما أصبح رجلا وجد نفسه حبيسا ملتزما غير عاق بين طفلين تكسوهما التجاعيد‏..‏ أنانية المسنين التي لا يستطيع الابن البار ردعها أو عصيانها‏.‏ يكذب نفسه عندما يستسلم لظنون يستعيذ بالله من الشيطان منها‏,‏ عندما تبدو له كحقائق في أنهما يحقران شبابه‏,‏ يحسدانه‏,‏ يحقدان عليه السن الطازج الذي بلغه بلا كفاح أو مصاعب أو عقبات معافي لا يشكو من مرض ومعدته تبلع الزلط وطلع لقي روحه عنده كل حاجة‏.‏
يسفهان آراءه في مونولوج محفوظ لأنه صغير بدون خبرة مايفهمش حاجة ولقاها جاهزة علي صينية من دهب وروح يا شيخ إلعب بعيد فاكر روحك كبرت علينا‏..‏ يتفاخران عليه وكأن شيخوختهما امتياز لأنها زاخرة بتجارب الحياة وحنكة الاحتكاك ووضوح الرؤية‏,‏ حتي أمراضهما كانت ثمنا لما أضفته عليهما الحياة من حكمة وامتحان وقدرة علي الاحتمال‏..‏ لا يذكر أن كان له أصدقاء يذهب إليهم أو يحضرون إلي بيته‏.‏ المرة الوحيدة التي زاره فيها من هم في مثل عمره‏,‏كانت عندما تغيب عن المدرسة أسبوعا لإصابته بالغدة النكفية فسألت مجموعة النشاط والأصدقاء في المدرسة عن عنوانه وجاءت لزيارته تحمل باقة من الزهور من حصيلة صندوق الإدخار للمناسبات‏.‏ قادهم لتحية أمه وأبيه فوق السرير النحاس الأصفر فلفت فارق السن نظر أحدهم ليسأله عند توديعهم علي الباب لماذا يعيش مع جده وجدته؟‏!..‏ لم تكمل أي شغالة شهرا في الخدمة فسرعان ما تبدأ في خبط المواعين بالمطبخ لاعنة العيشة والمذلة والقهر والدنيا الكلبة التي ساقتها لخدمة البيوت وذل عجوزين لا يرحمان ولا نهاية لطلباتهما‏وسرعان ما يعلو من مركز تصدير الإهانات فوق المنصة الذهبية أصوات الصوصوة والحشرجات الثائرة والتأوهات بلا ألم في اتهامات غليظة وإدانات حاسمة تنهيها الأم بموافقة الأب الموافق علي طول وعرض الخط عندما تناديه لطرد المجرمة بنت الأبالسة الحرامية الكدابة النصابة الصنف الخسيس اللي مايطمرش فيه ربيبة الأكل والمرعي وقلة الصنعة‏,‏ ولابد بالطبع من إسدال صفة الكلبية علي الأب أي أنها بنت كلب‏,‏ وأن منبتها ليس في أرض حلال أي أنها بنت حرام‏,‏ وأن قدمها يمنع الخير أي تقطع الخميرة من البيت‏,‏ وأن في عينها قوة إبصار غير طبيعية بمعني وقحة‏,‏ وأن سلسالها غير طاهر أي أنها نجسة‏..‏ و‏..‏ و‏..‏ ويذكر تقلص تجاعيد وجه أمه عندما وقفت أمامها البت فتحية الفلاحة الصبية التي جاءت من البلد لخدمتهم‏..‏ نظرت ودققت وتفحصت وتمعنت ودرست وأفتت‏:‏ إدوري يا بت‏..‏ البت استدارت‏.‏ شيلي الطرحة يا زفتة الطين‏..‏ أزاحت البت الطرحة‏.‏ شعرك ده يا بت‏.‏ مالها ضفيرتي يا ست‏.‏ مالك سايباها ترعي علي ضهرك‏..‏ غصب عني بتتزحلق‏.‏ قربي‏..‏ قربت البت‏.‏ ميلي ناحيتي‏.‏ مالت البت‏.‏ انت حاطة في خدك حاجة حمراء‏..‏ ورسول الله ما أنا حاطة ولا حاجة أنا اللي دمي كده يا ست‏..‏ يا دمك ومالك كده واقفة لي مش علي بعضك‏..‏ إزاي يا ست‏.‏ البت مش عاجباني مش مريحاني مش اللي في مخي ومايطلعشي منها حاجة‏..‏ ويومها سلطت نظرات الاتهام عليها وعليه وأصرت ألا يصبح علي البت صبح في البيت وهو وهي تحت سقف واحد‏,‏ فهي لا تريد عكننة ولا قلبة دماغ ولا فضايح ولا حاوريني يا طيطة‏,‏ وابعد ده عن ده يرتاح ده من ده واللي قبلنا قالوا ماتحطوش البنزين جنب الكبريت‏..‏ ويعود ليحمل علي عاتقه جميع المهام إلي جانب دراسته‏..‏ ويتسامر الشيخان بصوت عال للتغلب علي وهن السمع وعيب يا راجل‏,‏ حناخد زماننا وزمان غيرنا‏.‏خلاص سلمت النمر وبقيت بركة‏..‏ وتأتيه ذكريات الماضي المعاد مخترقة انغلاق باب حجرته لتدمر حكايات فرح صفية وتأخر الترقية وجنازة النحاس باشا ومقتل النقراشي وليلة الدخلة‏..‏ تدمر نظرية الهندسة‏,‏ وتبعثر أبيات قصيدة كتاب البلاغة‏,‏ وتقضي علي ترتيب عناصر البحث‏,‏ والغريب أن كانت طبلة الأذن المعطوبة تلك تغدو مصقولة تسمع دبيب النملة وموسيقي الكاسيت المكتومة عندما يستقطر علي وقعها رتم الشباب في عروقه‏,‏ فيصرخان عليه من حجرة السرير النحاس أن يرحمهما من هوس الضجيج و‏..‏ ارحمنا يا ابني وبعدها لك يا ابني وطي المدعوق بتاعك ده شوية‏.‏لم يخطر بباله أبدا حملهما إلي بيت المسنين فهو الدخيل علي حياتهما‏.‏ الزائر بعد فوات الأوان‏.‏ الواجب‏.‏ الدين‏.‏ جزاء الإحسان‏..‏ لكنه فكر ألف مرة في أن يهرب يهاجر يتبدد ينتحر يولع في روحه يروح في ستين داهية يتزوج لتشاركه أخري في حمل المسئولية‏,‏ لكنه كان واعيا تماما بأنه سيخلق بقدومها مشكلته الثالثة وحرب الاستنزاف‏.‏ لن تحتمل وحتما سيطلقها لتأخذ ابنها معها أو تتركه له زيادة في الغلب‏..‏ يبتعد بها عنهما في عيشة مستقلة‏..‏ ولمن يترك من لا حول ولا قوة لهما‏.‏ الابن وصلة الرحم‏.‏ ألا يقول لهما أف وأن يرحمهما‏,‏ من يتذمران ويصوصوان ويناديان إذا لم يطل عليها مرات في ساعات يومه‏..‏عاشا حتي بلغ هو مشارف الثلاثين وهما في كامل وعيهما ليواكبهما في أواخر أيامهما وقد ازدادا سخطا علي الحياة وتشبثا بها‏.‏ لا شيء يرضيهما ولا وضع يريحهما والدواء لا يجلب شفاء وطاقم الأسنان يضغط علي الفك والسماعات تشوشر علي السمع ومقاس النضارة ليس مطابقا والقطرة حارقة والجو في عز الحر قارص البرد وقطن اللحاف مكلكع لم ينفض جيدا ومن حلق الشباك صاروخ هواء وخراج تحت اللسان ودمل تحت منابت الشعر وفسفوسة تحت الجفن وتراب تحت الدولاب والإمساك ملعون والإسهال ملعون والقولون طالع فوق ونازل تحت وبطني مطبلة‏..‏الدكتور حمار والأخصائي جحش والمعمل موالس والتحاليل كلشنكان‏..‏ اقفل يا ابني الشباك‏.,‏ افتح يا ابني الشباك ومين قالك تفتح الشباك أنا قلت لك اقفله‏.‏ اطفي النور‏.‏ الدنيا ضلمة‏.‏ الشبشب ضاع‏.‏ السبحة ضاعت‏.‏ الترانزستور ضاع‏.‏ الساعة راحت‏.‏ المحفظة كانت هنا‏.‏ النضارة راحت‏.‏ مش لاقي الفوار‏.‏ معلقة واحدة مش معلقتين‏.‏ قبل الأكل‏.‏ ماليش نفس دلوقت‏.‏ استني شوية‏.‏ الدنيا مارحتش‏.‏ بعد الأكل‏.‏ مش لما أبقي آكل‏.‏ الطاقية واسعة‏.‏ اربط لي راسي‏.‏ آه يا راسي‏.‏ الحقنة الشرجية‏.‏ صدري مبلول‏.‏ الحزام مفكوك‏.‏ المخدة ساقطة‏.‏النضارة راحت‏.‏ المسلوق يسد النفس شوف لي حاجة حرشة‏.‏ الطبيب ربنا‏.‏ حزام الفتق‏.‏ نفسي في حباية مانجة‏.‏ نفسي مسدودة‏.‏ كيس الفلوس عندك هناك في الضلفة الشمال‏.‏ المفتاح في الشنطة السوداء في البقجة البيضاء في تالت درج علي اليمين تحت الصور والشرابات واقفل كويس وهات المفتاح‏.‏ شخير أبوك‏.‏ شخير أمك‏..‏ صاحية طول الليل ماغمضليش جفن‏.....‏ وذهبت أمه بعد أن ظل شهورا يغفو لحظات ناحيتها بجوار السرير النحاس ليهب فزعا لأدني حركة‏,‏ وما كادت تنقضي أيام حتي أصيب الشيخ بالتهاب رئوي ليمكث بجواره حتي تسلم الله وديعته‏...‏ ليلتها عندما صافح آخر المشيعين وجد نفسه وحيدا بين الجدران‏.‏ماذا يفعل بعد أن تبين له لأول مرة في حياته أن ليس هناك من يطلب منه شيئا‏.‏ وقف وسط الصالة يطل عليه السرير النحاس الأصفر رابضا في ظلام الحجرة الفارغة كضرس بطربوش ذهبي وحيد بقي في فم جمجمة هتماء‏..‏ أعطي ظهره له وأغلق عليه باب الحجرة وأطفأ المصباح واستسلم لأحضان التعب تحمله في إغفاءة نوم طويل طويل‏..‏ استيقظ فجأة يرهف السمع‏.‏ الوهم يكاد يصبح حقيقة‏.‏ اهتزاز ملة السرير الأصفر النحاس هناك‏.‏ سعال والده الأجش‏.‏ آهات أمه المنغمة‏.‏ حفيف سدادة زجاجة دواء‏.‏ الهمسات الخفية‏.‏ الشخير الذي يتصاعد فجأة‏.‏ الأصوات تعلو‏.‏ تخترق وسادة ضغطها فوق رأسه‏..‏في الصباح رفع عنوة جفونا وارمة لم تنم شاعرا بلزوم واجبات لابد من تأديتها بحكم الروتين‏.‏ حاول بجهد بالغ تذكرها‏..‏ أي نعم موعد تنظيم حجرتهما‏..‏ ذهب أولا للمطبخ وابتلع كوبا كبيرا من القهوة السادة‏,‏ وفي طريقه للمهمة العفوية توقف متسائلا‏:‏ لماذا يجب عليه دخول تلك الحجرة ليواجه ذلك السرير النحاس الأصفر؟‏!‏ من حقه ألا ينظمها أو ينظفها‏.‏ ألا يدخلها من أساسه وأصله‏..‏ قبل أن يتراجع في عزمه أسرع وأغلق الباب بالمفتاح وطوح به بعيدا من نافذة المطبخ و‏..‏ مع الوقت تلاشت الأصوات وسكن الهمس وطويت الصفحات وطالت فروع الياسمينة لتغطي زهراتها البيضاء من الخارج نافذة الحجرة الموصدة‏,‏ وخرج هو إلي الحياة‏..‏ إلي الشرفة طفلا يقترب من الأربعين‏..‏منحنيا شعر بالخطر وهو يسقي الزرع المنغلق علي نفسه‏.‏ شجرة الست المستحية‏.‏ إلي أذنيه ترامت من بعيد أغنية عسل وسكر‏.‏ عيون حبيبي عسل وضحكة حبيبي سكر‏.‏ منشغلا متجاهلا دخل وخرج أكثر من مرة يدعي انهماكا بما بين يديه‏..‏ أتي بفنجان قهوته وعلبة سجائره ونظارته وجريدته وقرأ سطورا لم يعرف لها معني‏.‏ كعادته سكب تنوة البن عند جذور الفل الهندي لأجل يرعرع ويزهر‏.‏ أخذ يعد مربعات البلاط بالطول والعرض والورب يصنع منها مكعبات ومثلثات ومتوازي مستطيلات‏..‏ هرش رأسه وما بين كتفيه وقام بإحصاء أصابع يديه واحدا إثر الآخر متوقفا عند السبابة والخنصر بلا سبب‏.‏ مسح ترابا عن السور الحديدي مرة وأخري أيضا بلا سبب‏..‏مازال الجو مشحونا بالتوتر‏.‏ حاول أن ينظر بعيدا تجاه الميدان‏.‏ تجاه ياسمينة شرفة المراحيم‏.‏ حاول العودة لذكراهما‏..‏ نظرته المتكررة حركها هذه المرة في شكل نصف دائرة يتجاهل بها منظرا معينا أمامه وانحرف بها في النهاية إلي الخلف لتسقط داخل حجرته كأبعد نقطة عن مركز الخطر‏..‏ جارته‏.‏ خيالها مازال في المرآة واقفة تطل من شرفتها القريبة‏.‏ يشعر بوخز دبيب عينيها تجاهه‏.‏ جسدها يحيط به أسوأ الألوان إلي نفسه‏.‏البنفسجي المكتوم ينتشر بمساحة واسعة تتمشي فوقه زهور صفراء من نفس لون الزهور التي يصحبها معه عندما يطلع القرافة علي والديه‏..‏ جارته‏..‏ من النوعية التي يخشاها‏..‏ لا يدرك سببا لانجذاب النساء إليه‏..‏ ليست كل النساء ولكن من لهن وجه دائري متسع وعيون جاحظة كعيون تماثيل بجفون منفرجة لا تتشابك ولا تلتقي فيها الرموش‏..‏ لها نظرة وصبر الطيور الجارحة المثابرة المتحفزة فوق الشجر في تأهبها للانقضاض‏..‏انجذاب طاغ ناحيته يشفع له عند تلك النوعية عزوبيته ووحدته من بعد وفاة الوالدة والوالد وتركهما ميراثهما له وحده‏,‏ ثم عربة لامعة يطأ بنزينها فتنطلق‏ هذه النوعية من النساء شباكها دائما معدة لاقتناصه ولا تمل في محاولاتها جذبه نحوها فيتجاهلها‏,‏ وكان من الممكن أن تحمله أمواج نهره ليمضي بحياته لشاطئ السلام لولا أن وقف في شرفته يسقي نبات الست المستحية‏..‏ أغلق المصاريع وتحاشي حائط النافذة كله‏.‏فجأة صوت خافت لطرقة صغيرة علي الخشب‏.‏ فتح فوجد قطعة حلوي مستوردة ملفوفة بورق مذهب‏.‏ دون تفكير ألقي بها في فمه يلوكها ثم عاود الابتعاد‏..‏ في إحدي الليالي تكاثرت المفرقعات حتي أوشكت كسر الزجاج‏..‏ ترك غرفته وذهب لينام علي كنبة الصالة‏,‏ لكن مسار الشحنة المغناطيسية يجعل الفأر بداخله يتجه نحو مركز الإرسال‏..‏ اندفع إلي الشرفة وأطل علي الروب البنفسجي ولم يندهش كثيرا عندما رآه في موقعه لم يزل‏,‏ فترك نفسه طويلا معرضا لدبيب إشعاع النظرات‏..‏ منحته ابتسامة وجلة كمن ضبطت متلبسة‏,‏ ثم أضافت إلي المخطط أسلوب هزة بتحية صغيرة مرتبكة‏..‏وتتسع الابتسامة بضحكة وسؤال عن الأحوال والصحة والساعة‏,‏ وأصبح لا يعرف توقيت لحظة الهجوم‏,‏ وظل في حالة استنفار وتوقع مشوب بذعر إلي أن وجدها تصنع الصدفة وتعترض طريقه أمام البيت تطلب منه أن يأخذها معه في طريقه‏..‏ وتتلاقي نظراتهما داخل مشوار الصدفة السابقة التجهيز‏..‏ هذه العيون لا يثق فيها ولا يستريح لها ولديه إحساس بأن صاحبتها سواء كانت غضة في شرخ الشباب أو مترهلة عجوزا فإن تكوينها ليس سوي بحر من الرمال المتحركة التي تسحب فريستها للأغوار‏,‏ وإن كانت تعومها علي السطح برهة كحلاوة الروح ثم تمتصها لتبتلعها‏,‏ ومرة أخري يبدو السطح لامعا نظيفا بريئا بلا دماء كصفحة مرآة مصقولة ملساء‏.‏ولأنه مسير مشدود للخطوط التي تنسج حوله بإصرار لم يعد صعودها إلي جواره صدفة‏,‏ ولا حتي عندما وجد نفسه أمامها في الكافيتريا وهي تخترق مواقع الحديث كمشرط يمزق شرنقته في أي موضع يحلو لها‏,‏ لتقوده إلي حيث تشاء‏,‏ وبالقطع في الاتجاه الذي يخشاه‏..‏ تأكل بشراهة وتضحك بنهم وتريق في جوفها زجاجة في طرفة عين وتنهي ما في وسط الطبق لتلف حول نهاياته تمسحها ولا تترك آثارا‏..‏ كل ما تقع عليه عيناها وتمسكه أصابعها يذبل وينتهي بسرعة‏.‏ زهرة ندية شامخة سحبتها من الزهرية الصغيرة واستنشقتها بلهفة جوعي فذبلت وتهدلت أوراقها وسقطت مجعدة خامدة علي الفور‏..‏ سيجارة أشعلتها انتحرت مغروسة بين أصابعها وتطاول عمود الرماد لتهرب سحب الدخان في ثوان في ثنيات الفضاء‏..‏ المناديل الورقية الرقيقة تحولت مع لمسة من قوتها التدميرية إلي نتف ملتوية بيضاء تلوذ فوق المفرش بجوانب الأطباق‏..‏ يري كل ما يعيبها لكنها تحدق فيه بعيون كوبرا تثبته أمامها ساكنا منصتا مطيعا ملتصقا كشمبانزي وليد متشبث بجلد غوريللا لا يستطيع فكاكا ولا هروبا‏.‏قالت إنها أحبته لأنه خاطب كل كيانها‏..‏ لأنه يتيم من بعد طلعة نعش أمه وأبيه‏.‏ لأن مشاعرها فياضة تجاهه‏.‏ كل هذا الحب له وحده‏.‏ لا تري أحدا سواه في هذا المكان‏.‏ في هذا البلد‏.‏ في هذا العالم‏.‏ انت كنزي وأنا مفتاحك الضائع‏.‏ كيف يا عمري تحتمل الحياة باردة‏.‏ لمن تشكو ولمن يحلو لك أن تفصح عن أحلامك وآمالك وأشجانك‏..‏ تشرب من غير هنيئا وتعطس بلا يرحمكم الله وتصلي من غير حرما وتأكل بدون هناء ولا شفاء وتدخل ولا سلام وتغادر ولا كلام وتمرض من غير سلامتك وبعد الشر عنك وفداك الدنيا وما فيها‏.‏ تسمع من غير مشاركة وتشوف بلا شراكة وتضحك بلا رفقة وتقرأ بلا تعليق وتنتشي بلا تجاوب وتصرخ بلا مجيب وتجري بلا لحاق‏..‏ وتتغطي بلا لحاف وتصوم بلا إفطار وتستحم بلا مناولة بشكير‏..‏ وألف بعد الشر وانشالله يومي قبل يومك تموت من غير جنازة حارة وعيل يترحم عليك‏..‏ خلاص يا روحي‏..‏ متفقين‏.‏أكثر من مرة حاول أن يفتح فمه‏.‏ أن يعترض‏.‏ كان رفضه يزلزل داخله وعندما تخرجه حنجرته لا يتجاوز الهمهمات‏.‏ شعر بقواه ترحل عنه وتخبو إلي حد اقتراب الإغماء‏..‏ الرمال المتحركة تسحب فريستها‏..‏ و‏..‏ وجد نفسه عريسا مصلوبا برباط رقبة يطبق خناقه علي تفاحة آدم مزروعا بجوارها في كوشة زهور وحشية متراكمة وقد اتسعت فتحة صدرها الجريئة‏,‏ ثم دفوف كرعود تقوده إلي هاوية العيون المنفرجة بجفون لا تلتقي فيها الرموش‏..‏ أزاح الطرحة وساعدها علي تغيير ملابسها وحمل إليها طبق التفاح وارتدي بيجامته الحريرية الجديدة وصعد معها إلي المنصة الشاغرة‏..‏ أزاحا معا غطاء ناموسية السرير النحاس ذي الأعمدة الأربعة التي تعلوها حلقات مزركشة تتوسطها دائرة نحاسية علي الجانبين تسمي عرايس و‏..‏ أتت بزرعاتها إلي شرفته لتنزوي جانبا الست المستحية المتقوقعة والفل الهندي لتحتل نباتات ودن الفيل وخربوش القط وحنك السبع الجديدة مكان الصدارة‏.‏فك اشتباك جفنيه ومسح عدسة عقله واقترب من مرحلة حضور الوعي‏.‏ حاجز كالجبل يحجب النور فلا يبدو سوي شعاع أفقي تحت الشراعة‏..‏ جارته تلك التي أصبحت عروسه‏.‏ تلال وهضاب وسفوح ووديان وصدر هائل بفتحة مصيدة جريئة‏..‏ أصابعه بحثت عن سجائره ليشعل واحدة‏.‏ حركة يده جعلتها تتململ‏.‏ فتحت عينا جاحظة مسلطة لا ترمش كعيون تمثال‏,‏ وبصوت مثقل بالنعاس سألته عن الساعة‏.‏ لم يرد‏.‏ ذبابة انتشت لنور الفجر القادم فقفزت من بين عناقيد زميلاتها من فوق سلك النور‏.‏توقفت في الهواء ترف بجناحيها تجفف التصاقهما‏.‏ هبطت وسط دائرة ضوء صغيرة في حجم القرش فوق مربع بارز ترفعه خياطات اللحاف الساتان‏.‏ عاودت الطيران لتلف وتزن حول وجهه‏.‏ أزاحها مرة ثانية وثالثة وأخري‏.‏ استغرق في مراقبتها تزحف علي صدره‏,‏ وفجأة رفت في مخططها المقيت لتخبط وجهه فهشها بانتفاضة غاضبة استمع فيها لاصطكاك عظام يده‏,‏ فطارت لتحط هناك علي فتحة صدرها والتصقت بالخط الفاصل اللامع مع العرق لتجلجل الأساور الذهبية في يدها وهي تشد الغطاء‏.‏تعرت أقدامه‏.‏ تذكر أنه أحضر لكل من أبيه وأمه لحافا خاصا به‏..‏ فتح درجا بجانبه‏.‏ ابتلع قرص اسبرين بلا ماء فالتصقت المرارة بجدار حلقه ليغدو كباطن لوفة حمام لم تستخدم من قبل‏.‏ تمدد محدقا في رسوم ملائكة البلتكانة وخرج بسرحانه من حيز مستطيلها إلي لا شيء‏..‏ السكون أقلق نوم من بجواره فتململت‏.‏ فتحت عيون الكوبرا وعادت تسأله عن الساعة‏.‏ لم يرد‏.‏ اعتدلت تستأنف راحة نومها‏.‏ حركتها شدت جزءا جديدا من اللحاف‏.‏ الجذب كان هذه المرة طوليا مما أتاح له أن يري جسده مشطورا نصفين‏.‏ نصف مغطي بالساتان الأحمر المنجد‏,‏ والآخر بالساتان المقلم في بيجامة العريس بساق منفصلة آخرها صباع خنصر يعلوه كاللو داكن مزمن‏..‏ فجأة اعتدلت واستدارت إليه فاهتزت ملة السرير النحاس الأصفر وكادت ملائكة البلتكانة أن تسقط صرعي في الهواء المثقل‏..‏ فتحت عينيها‏.‏ أقبلت ناحيته‏..‏ الرمال المتحركة تسحب فريستها‏!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق