الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

عثمان أحمد عثمان ..المعلم..بقلم سناء البيسي

في استراحته بالإسماعيلية تحلقنا حول السادات علي مدي يوم كامل في استضافته السلسة التي نأكل فيها معه ونشرب معه ونضحك معه ونقف معه علي شاطئ القناة نتفرج معه علي روعة فنون بنايات السفن العالمية الضخمة التي تعبر أمامنا شريان الملاحة الاستراتيجي الذي تم تنظيفه وتوسيعه وإعادته للحياة‏..‏ ويحكي لنا السادات شريط الذكريات فيمسك بخيوط حب استطلاعنا ملك يمينه وهو الحكاء القدير والمضيف الكريم‏,‏ حتي ظننت من حسن استقبالنا في أجوائه المنفتحة ومائدته العائلية وكأنني توءم لابنته همت مصطفي فوق فرن ميت أبوالكوم‏..‏
ويومها في تجوالنا وقعدتنا وطعامنا وشرابنا وضحكاتنا وإنصاتنا ظل علي يمينه عثمان‏..‏ عثمان أحمد عثمان‏..‏ مؤانسا موافقا مداعبا مقرظا مرابطا مستشارا وخبيرا‏..‏ ويومها تجول السادات بعينيه فينا يستشف جوهرنا نحن مجموعة الصحفيين والكتاب الذين وقع اختياره علينا لتحقيق حلمه في إصدار جريدة مايو التي أسند رئاسة تحريرها للكاتب الصحفي القدير إبراهيم سعدة‏..‏ وبعدما اطمأن إلي حسن اختياره مال علي عثمان ليقول له بصوت مدو كان رجعه في آذاننا زغاريد موكب العروس القادم‏:‏ أنا رأيي يا عثمان إنك تبني لكل واحد منهم فيللا بجنينة‏..‏ سامع يا عثمان‏..‏ وسمع عثمان ساعتها‏,‏ لكنه لم يسمع بعدها‏,‏ فهناك أوامر يصدرها الناس الكبار لها نفس وقع إمضاءاتهم علي نوعية من الطلبات يذيلونها بعبارة للأهمية ليتعرف عليها طاقم التنفيذ كي تنام في عسل رفوف الأرشيف‏,‏ والظاهر أن جملة سامع يا عثمان كانت من تلك الفصيلة‏.!‏
عثمان‏..‏ المهندس‏..‏ صبي الميكانيكي‏..‏ المعلم‏..‏ المقاول‏..‏ الوزير‏..‏ أستاذ التعمير‏..‏ رئيس النادي الإسماعيلي‏..‏ النقيب‏..‏ والد محمود وأحمد وإبراهيم ومحمد وهادية‏..‏ عاشق صوت أم كلثوم الذي دخل كلية الهندسة بشهادة فقر مقاوما الحقد علي الأغنياء بترديده حكمة أمه‏:‏ غير‏..‏ ومتحسدشي‏..‏ ابن برج الحمل في‏6‏ إبريل عام‏1917‏ الذي بدأ حياته العملية في مجال المقاولات ببناء جراج لطبيب يوناني مستعيرا أدوات البناء التي لا تخرج عن ستة عروق خشب ولوح وسقالة وكان مكسبه منها‏6‏ جنيهات‏,‏ ومنها بدأت العجلة تدور وتزداد سرعة دورانها‏,‏ ويمتد العمل خارج الإسماعيلية لبناء سور مصنع السماد بالسويس‏,‏ ويجرب حظه عام‏1950‏ في السعودية ليرسو عليه عطاء تنفيذ الكلية الحربية بالرياض‏,‏
وفيها يعرف الملايين ليوقع بعدها باسمه بالخرسانة المسلحة علي الرخام والصخر والأسمنت في الكويت والإمارات والعراق والأردن وليبيا ولبنان ثم إلي مصر إلي التحدي الأكبر‏..‏ السد العالي‏..‏ عثمان المقاتل بطبعه‏.‏ من لا حد لطموحه‏.‏ العنيد الذي لا يقبل تقهقرا أو هزيمة‏.‏ عاشق الصعب المتعالي علي السهل الميسور‏.‏ المصمم علي إثبات وجوده‏.‏ من لا يقبل بأقل من درجة الامتياز مع مرتبة الريادة‏.‏ من لا يقنع بأقل من تشييد مملكة لا بالمعني الحرفي‏,‏ وإنما بمعني المشروع بالغ الضخامة والفخامة والأنشطة والتسميات الذي يعترف به الجميع ولا يستمر فقط لمدي حياة مؤسسه بل ينتقل من الأب للإبن للحفيد ليشمل عائلة كبيرة يرتع فيها الأبناء والأحفاد تحت لواء الجد المؤسس لمملكة الرخاء‏..‏
وتلك الشخصية قلما تتوافر إلا فيمن يمتلك إرادة حديدية‏,‏ وثقة مفرطة بالنفس‏,‏ وذكاء علي درجة أكبر بكثير من الذكاء العادي‏,‏ واهتماما بالتفاصيل الصغيرة لصالح الأساسيات الكبيرة‏,‏ وجينات ماسية لها خاصية الاستشعار عن بعد لتقويم مزايا الناس وعيوبهم بمجرد نظرة وكلمة وسؤال‏,‏ ومعاملة كل منهم بالأسلوب الذي يؤثر فيه مستخرجا منه أفضل ما فيه‏..‏ وذلك هو طراز رب العمل المثالي الذي تشكل داخل قالبه أمثال عثمان أحمد عثمان‏.‏
و‏..‏ ولقد وقع اختيار كل منهما عليه بالذات لتنفيذ مبتغاه‏..‏ ووجد هو في كل منهما بذكائه الفطري والمدرب‏,‏ ووصية أمه في الصغر التي كانت كالنقش علي الحجر اللي مالوش كبير يشتري له كبير‏,‏ وجد في كل من الكبيرين هدفه وسكته‏,‏ فاشتراه في ضميره ليخلص له العمل ويفني النفس لإرضائه‏..‏ ناصر من كان في أشد الحاجة ــ لتنفيذ مشروعه الطموح لبناء السد العالي ــ إلي رجل له من القوة والجلد والقدرة علي التحمل والتصدي والطموح والصبر ما لعثمان أحمد عثمان‏,‏ وكان عثمان في الستينيات يرسي قواعد مجده وفي حاجة ماسة إلي ناصر الكبير بما له من سلطان وسيطرة وإرادة تهد جبال ومنزلة عالمية تهز الخمس قارات‏…‏
وأتي السادات ليغدو في حاجة إلي حنكة عثمان وهو ينتزع السلطة من رواسي وشعاب تغلغل نفوذ رجال عبدالناصر في الأرض والبحر والجو‏..‏ وهو يشيد دولة الانفتاح الجديدة‏..‏ وهو يعيد تعمير مدنه المهجرة المنتهكة‏..‏ وهو يبني مدنا جديدة ــ مدينة العاشر من رمضان‏,‏ ومدينة السادات‏,‏ ومدينة الملك خالد‏,‏ ومدينة العبور‏,‏ ومدينة‏15‏ مايو ــ مدنا جديدة لملايين جديدة تضخها الأرحام هدرا وغباء وتسيبا‏..‏ كان السادات في حاجة لعثمان لينظف ويوسع قناته الملغمة الواقفة في حلق الملاحة الدولية ليسير فيها مراكب أضخم الموارد الاقتصادية المصرية للعملات الأجنبية‏..‏
وعلي الجانب الآخر تطلع عثمان إلي عطف ومودة ومظلة أمن السادات ليرأب صدع إحباطات نجاحاته العملية عندما تعاونت‏11‏ شركة مقاولات مصرية في تكوين اتحاد لتنفيذ بناء السد العالي بعرض بلغ‏27‏ مليون جنيه‏,‏ في الوقت الذي تقدمت فيه شركة عثمان وحدها لتنفيذ العمل المطروح بـ‏15‏مليونا فقط‏..‏ ولم يصدق المسئولون أن هذا المقاول يمكن أن يقوم بالعمل وحده وبأقل‏12‏ مليونا عن منافسيه فقرروا أن تشترك معه شركة قطاع عام بنسبة‏30%,‏ ورفض عثمان المبدأ وقرر بدلا من أن تشترك معه شركة لا يعرف عنها شيئا أن يتنازل عن‏50%‏ من شركته للدولة ولكن الدولة رفضت هذا العرض‏,‏
وعندما عرف السوفييت أن شركة مصرية واحدة هي التي ستقوم بالعمل اعترضت بانزعاج وأعلنت أن المشروع لا تقوم به شركة أو شركتان أو ثلاث‏,‏ بل كل الشركات العربية‏,‏ وقد ألهم هذا الاعتراض من جانب الروس عثمان لتغيير اسم الشركة وتسميتها الاسم الذي حمل شهرتها المقاولون العرب ــ عثمان أحمد عثمان‏..‏ وبعد ستة أشهر من توليه بناء السد صدر قرار بتأميم الشركة بعد أن أصبحت تساوي الملايين ــ أربعة ملايين ونصف المليون جنيه ــ ولم يفقد عثمان توازنه بل بقي مكانه يقوم بدوره كاملا كما لو كان صاحب الشركة رافضا عرض الملك خالد التجنس بالجنسية السعودية وتقديم ما يبغي من أموال‏,‏ وتحمل نفقات معيشته مع أسرته في أي مكان في العالم‏,‏
وعرض آخر قدمه له ديلنج هام رابع مليونير في العالم لمشاركته في بناء شركة في بيروت ميزانيتها خمسة آلاف مليون دولار‏..‏ ويسأله المشير عامر بعد التأميم إذا ما كان متأثرا مما حدث‏,‏ ذاكرا أنه ليس مقصودا بالقرار وحده وإنما القانون فوق رأس الجميع‏..‏ وكان عثمان قد ذهب للسادات ــ صديقه ــ قبل التأميم بأيام فلم يشأ الأخير أن يفاتحه بما سوف يصيبه باعتبار ذلك سرا ملكا لناصر وحده‏..‏ ويسأله عثمان بعدها‏:‏ لماذا أمموني؟ وأنا لست من النوعيات التي ينطبق عليها مثل هذا القرار‏,‏ فلا أنا إقطاعي ولا رأسمالي ولا مستغل ولا محتكر ولا ذنب للاستعمار وما لدي من أموال كونت بها الشركة وحصلت عليها بعرقي من خارج مصر‏,‏
وأتيت بها لتستثمر لصالحها فيها‏,‏ ويجيبه السادات‏:‏ هذه أشياء سوف تنتهي وعليك بالصبر‏..‏ ويتم عثمان دوره في بناء السد‏,‏ في الوقت الذي أصبح لكل عامل في الشركة راتب بينما نسوا أن يحددوا له أجرا ليظل ثلاث سنوات رئيسا لمجلس إدارة شركة المقاولون العرب بلا راتب ليتولي الإنفاق علي أسرته من قليل تبقي له بعدما أخذوا وقتها كل شيء‏..‏ وهكذا كان الاعتماد متبادلا بين عثمان والسلطة في كل العهدين‏..‏ الناصري والساداتي‏..‏ وإذا ما كان عثمان قد قام بتنفيذ حلم ناصر في بناء السد وظل حتي النهاية مؤيدا ومناصرا ومتعاونا معه‏,‏ فإنه من بعد رحيله بدا واضحا نفوره من سياسته حتي ظل يشير إليه بتعبير نظام الحكم بدلا من ذكر اسمه الحقيقي‏..‏
أما مع السادات فكأن كلا منهما قد عثر علي ضالته‏,‏ علي توءمه وشقيق روحه علي حد تعبير الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين أو كأننا أمام شخصين تربطهما علاقة كأنها نابعة من أعماق نفسية متشابهة تماما أو متكاملة إلي أقصي حد‏..‏ فالنظر إلي الأمور واحد‏,‏ والآمال واحدة‏,‏ والتخطيط واحد‏,‏ والمصالح أيضا واحدة‏..‏ ومن بعد نسب وزواج الأرواح تم نسب وشائج الدماء ليتزوج محمود ابن عثمان الأكبر بجيهان صغري بنات أنور السادات‏.‏
وإذا ما كانت معركة بناء السد العالي قد عشناها جميعا بالصوت والصورة والأغنية التي كتبها صلاح جاهين لنحفظ تاريخها بصوت عبدالحليم‏:‏ قلنا حنبني وآدي احنا بنينا السد العالي يا استعمار بنيناه بإيدينا السد العالي فقد كانت هناك معارك أخري أشد بأسا وضراوة‏,‏ فعقب هزيمة يونيو‏1967‏ لم يعد لإسرائيل هم سوي استخدام طيرانها بشكل مكثف لا لضرب الأهداف العسكرية وحدها وإنما لضرب المنشآت المدنية والمدنيين أيضا‏,‏ وفيها كان الاعتداء الآثم علي مدرسة بحر البقر‏,‏ ومن جراء عدوانها البربري ماتت شيماء‏..‏
كان ذراعها الطويل يمتد إلي كل شبر من أرض مصر ليغدو هدفا سهل المنال للسلاح الجوي الإسرائيلي فوسائل دفاعنا شبه مشلولة للتصدي لاختراقات تعود بعدها القاذفات الإسرائيلية لأوكارها كأنها طلعت ياللا بينا فسحة‏..‏ ولم يكن بد من الصواريخ المضادة التي لابد بالتالي من بناء قواعد لها‏..‏ وكان شرط موسكو لتعجيزنا أن يتم بناء القواعد في شهرين لا غير وإلا‏..‏ و‏..‏ إلا سحبت موافقتها علي إمدادنا بوسيلة الدفاع عن أراضينا‏,‏ مقدرة أن سلاح الطيران الإسرائيلي أبدا لن يسمح بإقامة القواعد مهما يكن الثمن‏
لأن معركته مع البنائين بمثابة معركة حياة أو موت لإسرائيل‏..‏ ودخلت مصر معركتي التحدي‏..‏ مواجهة الروس للحصول بالقطارة علي السلاح‏,‏ ومعركة تلقي القذف الإسرائيلي بأطنان القنابل التي تلقي بغير حساب أثناء مباشرة العمل‏..‏ ونجح عثمان ونجح جنود المقاولين في بناء دشم الطائرات وقواعد الصواريخ علي امتداد الجبهة كلها ليسقط في محنة التحدي‏500‏ شهيد في يوم واحد علي الضفة الغربية في القناة‏,‏ حيث وصل التحدي الإسرائيلي مداه عندما كان يهدم القواعد أكثر من خمس مرات بعد بنائها‏,‏ وفي كل مرة تعجن المونة بدم الشهداء‏…‏ و‏..‏ وسط موجات العدوان الإسرائيلي علي رجال عثمان يتم القبض علي عثمان‏..‏ و‏..‏ بماذا؟‏!..‏ بتهمة خيانة الوطن والتآمر‏!!‏ مع من؟‏!‏ مع إسرائيل‏!!..‏
لقد أتي إليه في مكتب غرفة عملياته لبناء السواتر الدفاعية فحلين‏,‏ طول كل فحل منهما متران وعرضه متر‏,‏ قدما لأخذه بسيارة النظام للتحقيق معه‏,‏ ليظل وحيدا في حجرة صامتة الجدران في حراسة جندي مسلح من الحادية عشرة صباحا إلي السابعة مساء دون أن أجد من يسألني من أنت؟‏!‏ وكانت المرة الوحيدة في حياتي التي تمنيت فيها أن أجد من يسألني من أنت؟‏..‏ التهمة أن مهندسا كهربائيا ــ محمد متولي مندور ــ سرق رسما هندسيا لإحدي حظائر الطائرات التي تقوم شركة المقاولين العرب بتصميمها وتنفيذها وسلمه للمخابرات الإسرائيلية‏,‏ وعند مواجهة المتهم بعثمان أمام رجال التحقيق أشاد بعثمان قائلا‏:‏ من أنظف من تعاملت معهم في حياتي وليست له أية صلة أو أدني علم بتصرفاتي‏..‏ وأنقذني السادات من كارثة محققة‏,‏ حيث كان من السهل جدا أن تكون تلك الواقعة التي لا ذنب لي فيها سببا يحتمون وراءه ليضعونني وراء الشمس دون أن يدري عني أحد شيئا كما حدث للكثيرين غيري من الأبرياء‏….‏ وإذا ما كان عثمان في زمانه قد انقذته براءته ــ قبل علاقته بالسادات ــ فهناك الآن من تنقذه العلاقة وليست البراءة‏!!‏
المعلم عثمان‏..‏ الذي رفض بيع قطعة أرض تطل علي النيل خلف قصر العيني أثناء توليه وزارة الإسكان والتعمير لشركة شباب الكويت لإقامة فندق عليها بمبلغ أربعين مليون دولار‏,‏ في وقت من أحرج الأوقات الاقتصادية العصيبة في تاريخ مصر‏,‏ وقد كان عثمان وراء صدور قانون منع بيع الأراضي للأجانب‏,‏ فمبدأه الأرض بالنسبة لمصر كالعرض‏,‏ وسياسة الانفتاح لخير مصر وليس لبيعها‏,‏ ولقد ضاعت فلسطين بهذه الطريقة وبدلا من أن نستفيد من تجربتها نسعي لأن نحول مصر إلي فلسطين أخري‏..‏ وقال لوزير مالية الكويت القادم بالعرض المغري أمام رئيس الوزراء المصري‏:‏ إن كل ما عندك وما عند العرب جميعا‏,‏ وكل أموال العالم لا يمكن أن تشتري قطرة دم من دماء أولادنا الذين استشهدوا من أجل كرامة العرب‏,‏ وان أرواحهم التي صعدت إلي السماء ومعها إرادة مصر عالية لا تقبل أن تركع إلا لله وحده‏,‏ فكيف بالله نسجد أمام كومة فلوس كانت تلك الأرواح هي السبب في ارتفاعها عشرة أضعاف؟‏!.‏
ومازلت أذكر ما رواه لي يوما الأستاذ الصديق الراحل عبدالله عبدالباري رئيس مجلس إدارة الأهرام الأسبق عن شهامة عثمان معه‏,‏ حيث لم يتخل عثمان عن أسرة عبدالباري طوال فترة اعتقاله في السجن لثبوت تهمة لقائه بأحمد أبوالفتح صاحب جريدة المصري في الخارج‏,‏ وكان لقاء المصادفة الذي اعتبرته الأجهزة جريمة لابد من أن ينال مرتكبها العقاب الرادع‏..‏ ومثلما ذكر عبدالله عن موقف عثمان الإنساني جاءت شهادة الكاتب محمود السعدني في مجلة المصور في العدد‏7‏ مايو‏1999‏ حول شهامة عثمان مع الجميع‏,‏ والتي احتوته شخصيا عند سجنه في قضية مراكز القوي‏,‏ حيث أرسل أحد كبار موظفي شركته بمظروف يحتوي علي خمسمائة جنيه‏,‏ ولكن السيدة زوجته رفضت تسلم المظروف‏,‏ وعندما أبلغته بالنبأ أثناء زيارتها له في سجنه عاتبها بشدة علي رفضها متأثرا بموقف عثمان‏,‏
فتلك المبادرة من جانبه كانت تعني الكثير بعد أن أشاع عملاء الحكومة أنهم عثروا في بيته لحظة التفتيش علي أربعة ملايين جنيه‏,‏ وكان عثمان يعلم الحقيقة‏,‏ وما تلك المبادرة سوي تبرئته من التهمة‏,‏ هذا وقد توسط عثمان لدي السادات ليعفو عن السعدني ويسامحه بعد تطاوله عليه سنوات في البلاد العربية خلاص يا واد يا محمود والله ما في حاجة في نفسي من ناحيتك أبدا‏..‏ ارجع يا وله وكل شيء ح ينحل ووعده بالعودة وكانت المرة الوحيدة التي تدخل فيها عثمان بالحديث عندما قال الرئيس أنور السادات لمحمود السعدني‏:‏ بس انت لسانك وسخ يا وله وعاوز قطعه‏..‏ فعقب عثمان قائلا‏:‏ ده يستاهل قطع رقبته‏..‏ وضحك‏!‏ فقال محمود له بحدة‏:‏ انت ماتشتمش خالص يا عم عثمان اللي يشتم الرئيس وبس‏!!‏ وضحك السادات وتم الصلح‏..‏
ويعقب المعلقون ذوي وجهات النظر الخاصة بأن شهامة عثمان ما هي ميزة فيه وحده وإنما هي صفة أصيلة في الفلاح المصري عامة تنطوي علي مزيج من الشعور بالواجب‏,‏ واعتقاد راسخ في أن ما يقدمه الشخص لغيره اليوم سيلقي مثله في الغد‏,‏ وكله سلف ودين‏,‏ وأن من الحماقة ألا تؤدي لشخص ما خدمة في وسعك تقديمها له بسهولة‏,‏ إذ أنك إن فعلت فسوف تكسب نصيرا لابد وأن يكون في كسبه منفعة لك في يوم قادم‏..‏ و‏..‏ حتي عمل عثمان الخير لوجه الله جعلوه حاجة عادية خالص‏,‏ وكلهم بيعملوها ومش شيء يستاهل نعمله زفة وزيطة وزنبليطة في الصالون‏,‏ وعموما ده سلو الفلاحين في بلدنا‏!!‏
عثمان‏..‏ من عاش حياته بالطول والعرض وبالعمق أيضا‏,‏ وقد أصاب‏,‏ وقد أخطأ‏,‏ ولكنه كان مؤثرا في كل حين‏..‏ قال في تجربة السنين‏:‏ رحل والدي وأنا في الثالثة وتركني بلا موارد مع ثلاثة أشقاء وشقيقتين‏.‏ أكبرنا لم يتجاوز الثانية عشرة وحسين الصغير لم يزل رضيعا‏,‏ وعندما حاولوا إقناع والدتي بالزواج أجابت لن أسعد نفسي‏,‏ وأشقي أولادي‏..‏ كان والدي يمتلك محلا للبقالة وبعد وفاته ترك محمد المدرسة ليدير المحل‏..‏ كان عندنا عنزة ننظر إليها كأحد أفراد العائلة اسمها عيدة وكانت توفر لنا بعض مصادر غذائنا‏..‏ كانت أمي التي تقوم بتربية الطيور وبيعها لتغطي التزاماتنا لا تقرأ ولا تكتب لكنها علمتنا الكثير‏..‏
عندما قمت بزرع حوش البيت وبيع محصوله قالت‏:‏ عثمان إيده خضرة‏..‏ كان بيتنا في شارع مكة‏,‏ بحارة عبدالعزيز في حي العرب بمدينة الإسماعيلية من طابق واحد مبني بالدبش والطين بسقف تعريشة من الخشب والعروق والجريد مكون من أودتين واحدة للخزين والثانية لنومنا فوق الحصير ع الأرض فلم يكن عندنا سرير أو دولاب‏..‏ يوم الخميس موعدي الأسبوعي مع النعيم‏,‏ مع رغيف خارج لتوه من الفرن ساخنا وطزاجته أفتح لها قلبي وقلبه لأضع فيه عددا من البيض تحتفظ به أمي لمثل تلك المناسبات الوضاءة‏,‏ ثم أقفله وأعيده للفرن مرة أخري حتي يكتمل نضجه مع البيض بداخله‏,‏ وأنفرد به أقضم لأتلذذ بأشهي وجبة أحببتها في حياتي‏..‏
عم عثمان الطحان الذي التحق بكلية الهندسة في عام‏1935‏ بالاستعانة بشهادة فقر فقد كانت المصروفات المقررة أربعين جنيها‏,‏ وقرر الزواج في عام‏1948‏ عندما رصد‏30‏ جنيها شهريا لفتح بيت وكانت العروس سامية هي الشقيقة الثالثة لزوجتي شقيقيه إبراهيم وحسين بنات إسماعيل وهبي المحامي‏,‏ وفي الصباحية نهض من فراشه في الخامسة صباحا ليذهب إلي عمله كالمعتاد‏..‏ ذلك المنضبط ــ الذي أعاد بناء كفر عبده بالقرب من السويس في شهرين‏,‏ وشق في الجبل نفق الشهيد أحمد حمدي‏,‏ وزرع الجبل خضرة للنادي الإسماعيلي‏,‏ وأقام فوق الجبل مستشفي المقاولين‏,‏ الذي أفرد في سيرته الذاتية مكانا لتفاصيل كثيرة عن علاقته بالإخوان المسلمين‏,‏
حيث كان حسن البنا مؤسس الجماعة ومرشدها الأول هو في الوقت نفسه مدرس اللغة العربية والدين في مدرسة عثمان الإسماعيلية الابتدائية‏,‏ وكان البنا وقتها لم يزل في العشرينيات‏,‏ وتعلق به عثمان‏,‏ وكان يحرص علي سماع أحاديثه في مندرة خاله الشيخ محمود حسين‏..‏ عثمان كان من رأيه في القوي العاملة أنها مقبرة للشباب ونظام لم تضعه الدولة لتحقيق مصلحة الشباب وإنما لأنها كانت في وقت من الأوقات في حاجة لحماية كرسي الحاكم‏,‏ فأرادت أن تربط الناس بها وتعطيهم لقمة العيش من يدها‏,‏ ليس لكي تطعمهم وإنما ليدوروا في فلكها‏..‏ ومن معتقداته الراسخة أن ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب‏..‏ وأن العمالة المصرية لها الفضل في نهضة البلاد العربية كلها‏..‏
وأن الأعمال العظيمة لا يسمع عنها أحد إلا إذا وجدت طريقها في وسائل الإعلام التي يعود‏30%‏ من نجاح الشركة إليها‏..‏ عثمان الذي قدم فكرة وتخطيط كوبري أكتوبر لعبدالناصر ليرفضها تخوفا من أن تقوم إسرائيل بتدميره ليتم إنشاؤه في عهد السادات تماشيا مع مهمة تعمير منطقة القناة‏..‏ الذي قام بتصنيع دراجة بستين قرشا لتنقذه من مشكلة المواصلات وقطع المسافة من باب الخلق إلي مبني كلية الهندسة بالجيزة سيرا علي الأقدام مرتين في اليوم فلم يكن باستطاعته دفع ثمن تذكرة الترماي‏..‏ عثمان الذي وافق له ناصر علي أن يلقي كلمة ترحيب به في نادي المعلمين عندما قام بزيارة لمواقع العمل في السد العالي بشرط أن تعرض الكلمة عليه قبل إلقائها‏..‏
ورغم موافقته عليها انتزعت من عثمان ليلقيها أحد العاملين‏,‏ وكان في البرنامج أن يرافقه ليشرح له ما يحدث في الموقع الذي لا يعرفه أحد غيره‏,‏ لكن الأوامر صدرت بأن يقف صامتا بعد خلع نظارته‏,‏ ويسأل عثمان بنية سليمة عن سبب خلع النظارة فتصفعه الإجابة‏:‏ لا داعي لها‏,‏ ولا يصح المصافحة وأنت تضع فوق عينيك نظارة‏..‏ ويتصل المستشار الهندسي بمنزل عثمان طالبا مقابلته‏,‏ ويسأله عثمان عن السبب فتأتي الإجابة‏:‏ اليفط يا عثمان؟‏!..‏ ويسأله عثمان‏:‏ مالها؟‏!..‏ فيبلغه الأوامر‏:‏ مطلوب تغييرها لأن اسمك فيها مكتوب بحجم بارز وكبير‏..‏ ويرد المتلقي صاحب الاسم الكبير‏:‏ حاضر‏..‏ حاضر‏..‏
ويحسن عثمان الظن بمآل جهده وثمرة كفاحه وعظيم إنجازه فيذكر أن عبدالناصر بعدما انتهي من زيارة مواقع العمل في السد العالي‏,‏ الإعجاز والإنجاز‏,‏ الذي تصنعه سواعد مصر السمراء بعد ستة أشهر فقط‏,‏ لم يستطع سوي أن يشد علي يد عثمان بحرارة شديدة تعبر عن انبهاره بما رآه ورأيته ينحني لأول وآخر مرة في حياته‏,‏ فما رآه قد أجبره علي أن يخرج عن طبيعته‏..‏ ويأتي من لا يريد للرجل الفذ الذي أمم فأكمل العمل‏,‏ وانتزعت نظارته أدبا له‏,‏ وقلص اسمه في لافتاته حتي لا يظن نفسه أحسن من مين؟‏!!..‏ يأت من لا يريد له أن يهنأ حتي في قبره ويروي غليل صدره وصده بذكر رواية تلك الانحناءة العابرة التي ينحني فيها عبدالناصر بعض الشيء إلي أسفل في وضع غير مألوف بالنسبة له‏,‏ إذ يفسرونها لا بأنها تحية تقدير للعمل ومنفذه‏,‏ وإنما بقولهم بأن المتأمل جيدا للصورة المسجلة في نهاية مذكرات عثمان سوف يلاحظ أن ابتسامة عبدالناصر العريضة التي صاحبتها تلك الانحناءة ما هي إلا تعبير عن شعور بالحياء من فرط إطراء عثمان وثنائه علي ناصر مما جعله يومئ بنظره إلي الأرض‏,‏ أو قد يكون التفسير شيئا قريبا من هذا‏..‏ أو غير هذا‏!!!‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق