الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

الكاريزما..بقلم سناء البيسي

في غرفة مكتبه الأثرية ذات السقف الفريد بطرازه الإسلامي بوزارة الأوقاف بباب اللوق التي مضي علي إنشائها أكثر من‏170‏ عاما وقفت أتطلع مع وزيرها المخضرم الدكتور محمود حمدي زقزوق أستاذ الفلسفة وصاحب رسالة الدكتوراه في فلسفة الغزالي مع مقارنتها بفلسفة ديكارت‏,‏ الذي تولي منصبه لأول مرة في وزارة الجنزوري عام‏1999,‏ وبعدها في وزارتي عاطف عبيد ووزارتي أحمد نظيف حتي الآن‏..‏ وقفنا أمام لوحة كبيرة بعرض الحائط تعكس تاريخ الحكم في مصر‏..‏ أكثر من‏89‏ صورة لكبار مسئولي الوزارة منذ أن كان يرأسها المدير محمد سعيد أفندي عام‏1835‏ إلي أن أصبحت نظارة في عام‏1851‏ ليحولها السلطان حسين كامل في عام‏1918‏ إلي وزارة‏..‏ تجولت بناظري فوق لوحة التاريخ برجالاته في بدلة التشريفة والعمامة والطربوش بارتفاعاته المختلفة‏,‏ والشارب المعبر الذي يمتد ويغلظ ليأكل الوجه أو يتقلص وينحف كخط أسود لا يبين‏,‏ تبعا لحلاقة الأوان‏..‏ أصحاب وجاهة وألقاب جلسوا علي مقعد وزارة بلغت أوقافها في عام‏1935‏ أكثر من‏700‏ ألف فدان قبل تسليمها لهيئة الإصلاح الزراعي والمجالس المحلية في عام‏1952..‏
عبرت الأسماء والألقاب والسنوات التي كان فيها أصحاب تلك الصور يدخلون إلي هذه الغرفة وفي ركابهم التعظيم والتبجيل وضيوف الانتظار وكشوف التوقيع ومتظلمو الوقف و‏..‏ معالي الوزير يدوبك عنده هنا ربع ساعة يشرب فيها فنجان قهوته‏,‏ وبعدها اجتماع هناك في الرياسة‏,‏ أو في استقبال وتوديع المطار‏..‏ عبرت‏..‏ لكن العبور لم يشمل الجميع فقد أضاءت فوق الخريطة إطلالات وجوه لا تستطيع إلا التوقف عندها ظل لها الحضور الذي لا يغيب‏..‏ علي باشا مبارك‏.‏ محمود سامي البارودي‏.‏ إسماعيل صدقي‏.‏ الشيخ مصطفي عبدالرازق‏.‏ عدلي يكن‏.‏ الشيخ فرج السنهوري‏.‏ عبدالرحمن عزام‏.‏ عبدالحميد عبدالحق‏.‏ كمال الدين رفعت‏.‏ حسين الشافعي‏.‏ الشيخ أحمد حسن الباقوري‏.‏ الشيخ محمد متولي الشعراوي‏.‏ الشيخ الدكتور عبدالحليم محمود‏.‏ الشيخ جاد الحق‏..‏ الدكتور محمود حمدي زقزوق‏..‏
شخصيات تعكس مفهوم أن ليس كل من لبس العمامة يزينها ولا كل من ركب الحصان خيال‏,‏ ولا كل من قعد علي كرسي وزارة في المحروسة ترك له بصمة‏,‏ ولا كل واحد يقدر يدخل التاريخ‏,‏ فغربال التاريخ لا يرحم وثقوبه واسعة‏,‏ والكثيرون الآن ممن يملأون الدنيا صخبا ويصنعهم إلحاح الإعلام يدخلون التليفزيون ولا يدخلون التاريخ‏,‏ وإذا طلعوا من التليفزيون طلعوا من التاريخ‏,‏ والناس لا تري التاريخ لأنهم يعيشون الحاضر‏,‏ لكن لوحة الـ‏89‏وزيرا لوزارة الأوقاف مثال لنافذة علي التاريخ‏..‏ لمن إذا غاب حضر‏.‏ لمن تمتع بتلك الصفة النادرة الكاريزما الموجودة عند البعض دون الآخر‏..‏ لصاحب الشخصية الآسرة التي تفجر فيمن حولها طاقات من المشاعر الإيجابية الخلاقة‏.‏ لمن يأتي بالفكرة الجديدة واللمحة الجديدة ويفتح آفاقا جديدة نضيفها إلي رصيدنا من المعارف الجديدة‏..‏ و‏..‏ قد لاتكون الكاريزما صفة‏,‏ وقد يصح القول بأنها موهبة‏,‏ وإن كانت لفظة الموهبة أيضا لا تعبر عنها تماما‏,‏ ونقدر نقول إنها إشعاع ذاتي‏,‏ أو حضور مكثف‏,‏ أو قوة التأثير‏,‏ أو القدرة علي التواصل‏,‏ أو الوهج‏,‏
أو الإبهار أو‏..‏ أو‏..‏ حاجة كده ليست في حاجة إلي كتالوج ولا خريطة‏,‏ ولا ممكن أبدا اكتسابها من إرشادات الكتب الأمريكاني الأكثر مبيعا من أمثال كيف تغدو رئيسا‏,‏ فأصحابها ــ الكاريزما ــ بمثابة النبات الفطري اللي بيطلع بدون سقاية أو رعاية في وسط الصحراء أو في وسط الثلج‏,‏ كما أنها ليست استجابة لدعوة الست الوالدة بأن يحبب الله فينا خلقه‏,‏ ولا هي في الدماثة والطعامة والظرف وحسن المعاملة وحسن الجوار‏,‏ وأيضا ليست في الشطارة والفهلوة والرقص علي الحبال واللعب بالسبع ورقات‏,‏ ومحال توارثها كقيراطي أرض أبا عن جد‏..‏ وأقرب مثال للكاريزما تلك عندما تعقد المقارنة ما بين الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من ظل متوهجا في بؤرة الأحداث وتحت الأضواء يسرق الكاميرات حيا وميتا ليظل مقدرا من الجميع حتي ممن اختلفوا معه‏,‏ ليذكر اسمه مجردا بلا ألقاب أو بالتعريف به بذكر كنيته لا غير أبوعمار‏,‏ بينما لابد وأن يقال شارحا الوضع والمهام الموكلة لـأبومازن رئيس السلطة الوطنية‏…‏ ناس قامتهم طويلة وحدها‏,‏ وناس بحاجة إلي سلم تطلع عليه‏,‏ وفي هذا لا ينسي الناس في أمريكا جون كيندي‏,‏
ونسيت خلاص نيكسون وفورد وجونسون وكارتر‏,‏ وستدفن قريبا وبكامل إرادتها في غياهب الشطب بوش وأبو بوش‏,‏ فليس كل من يجلس علي مقعد رئاسي ز
عيما ولديه تلك الكاريزما‏,‏ واللي مات لسه عايش واللي عايش مات‏,‏ وعندنا شارل ديجول عندما كان رئيسا لوزراء فرنسا نسينا من هو رئيس الجمهورية‏,‏ وعندما كان رئيسا للجمهورية غاب عن الذهن تماما من هو رئيس الوزراء‏,‏ وقد ظل نيلسون مانديلا أهم واحد في أفريقيا عشرات السنين وهو من وراء القضبان‏..‏ ولعل أشهر نموذج في عصرنا لطغيان الكاريزما هو جيفارا‏..‏
أرنستو تشي جيفارا الثائر اللاتيني الأشهر‏,‏ والبطل الأسطوري الذي لم يزل يكتنفه الغموض ويسعي الشباب إلي تقليده‏,‏ وتبحث الصبايا عن فتي أحلام بمواصفاته‏..‏ صاحب قضية الحرية الذي غامر بحياته في دول لا ينتمي إليها‏,‏ وقضي نحبه فيها دفاعا عن أفكاره التي دعا فيها للبحث عن إنسان جديد‏,‏ تحركه دوافع أخلاقية وليس رغبات مادية‏..‏ الطبيب الذي بدأ مشوار تجواله من فوق البسكلتة‏,‏ ورحل ما بين جواتيمالا وكوبا والمكسيك وبيرو وأفريقيا يستنشق الثورات ويؤججها‏..‏ ويتنازل زاهدا عن مناصبه في حكومة الثورة في كوبا مفضلا أن يكون الثائر المتجول علي أجواء المكاتب البيروقراطية الخانقة‏:‏ إن الثورة تجمد والثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون فوق الكراسي‏,‏ وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة داخلي‏..‏ المناضل منذ الثانية من عمره عندما أصيب بالربو الحاد مما أفقد الأطباء الأمل في شفائه وحددوا له عمرا بسبع سنوات‏,‏ لكنه لم يستسلم‏,‏ وحتي في قمة نضاله الثوري كان يطلب من رفاقه عندما تعتريه نوبة الربو تعليقه بالمقلوب من ساقيه لزيادة طاقة قفصه الصدري علي التنفس‏,‏ وكان لا يري إلا والسيجار بين أصابعه‏…‏
ولقد كان هناك نضال أشد وطأة وذلك في التعامل مع أهم امرأتين في حياته‏..‏ أمه الصخرية العواطف التي لم تسمعه يوما كلمة رقيقة أو تضمه إلي صدرها‏,‏ وزوجته المتحفظة إليدا التي سقط التجاوب معها رغم إنجابها له الأبناء الأربعة‏:‏ الطبيبة إيليدنا‏,‏ ومهندس الإلكترونيات كاميللو‏,‏ وسيليا الطبيبة البيطرية‏,‏ وأرنستو المحامي‏,‏ الزوجة التي كانت الثورة ضرتها الحقيقية‏,‏ وكان جيفارا قد سبق له الزواج قبلها من هيلدا جاديا ورزق منها بابنة اسمها هيلدا بياتريس‏..‏ وربما كان من تأثير القوة الطاردة في محيطه ما دفع بجيفارا ليشد الرحال مندمجا بثورته في ثورات الآخرين والتي عبر عنها بقوله في خطابه لأمه‏:‏ أنا دائما كما أنا‏..‏ رجل يعيش في عزلة يبحث عن طريقه دون طلب مساعدة من أحد‏..‏ وقبل مغادرته الأخيرة للقتال ترك ثلاثة خطابات وداع أحدها لصديق عمره فيدل كاسترو‏,‏ والثاني لوالديه‏,‏ والثالث لأبنائه‏,‏ ولا كلمة واحدة لزوجته‏!..‏
عرفت الأيام المظلمة طريقها إلي حياة المناضل من أجل فكرة ــ ليست دينية ــ تصبغ الآخرين إلي حد الانتحار ففشل في قيادة ثورة في الكونغو‏,‏ ومثلها في بوليفيا حيث ظل يحارب في وديانها الضيقة ومعه‏16‏ ثائرا بينما قوات جيش بوليفيا تصل إلي‏1500‏ مقاتل‏,‏ ومات الجميع من حوله ليتم أسره وإطلاق الرصاص عليه تحت خط الخصر تبعا للأوامر الصارمة بعدم توجيه النيران إلي القلب والرأس ليطول عذاب الاحتضار‏..‏ وقطعت الأوصال للتأكد من صحة البصمات و‏..‏ بقيت أسطورة كاريزما النضال‏:‏ لا يهمني في أي أرض أموت ولكن ما يهمني أن يبقي الثوار يملأون الأرض ضجيجا كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق أجساد المظلومين‏..‏ يموت ليعيش وتبقي صورته بمثابة الأيقونة لتحتل وسائل الإعلام والأغلفة وواجهة الدولار بدلا من صورة إبراهام لنكولن‏..‏ الصورة التي التقطها المصور الكوبي ألبرتو كوردا في‏5‏ من مارس‏1960‏ في احتفال وطني وسط النخيل‏,‏ لكن كوردا بنظرته الفنية الثاقبة ألغي ظلال السعف من الخلفية ليبرز الملامح المعبرة في أشهر صورة في تاريخ الثقافة الشعبية العالمية‏,‏ والتي غدت بمثابة راية ترفرف فوق رءوس الاحتجاجات والتظاهرات في العالم‏..
‏ وظل كوردا يغض الطرف عن ظهور الصورة فوق القمصان والملصقات‏,‏ ولا يعطي اهتماما للمفارقة في أن عدو الرأسمالية في العالم قد أصبح بصورته ماركة تجارية لكثير من السلع الرأسمالية‏,‏ إلا أنه تصدي أخيرا وبعنف لسلسلة متلاحقة من العروض الأجنبية للحصول علي حق استغلال الصورة فيما يهين صاحبها‏,‏ وقد نجح في العام الماضي فقط في كسب قضية ضد وكالتي ركسي فيتشر‏,‏ ولولينس البريطانيتين للدعاية والإعلان لقيامهما باستخدام صورة جيفارا في حملة دعائية لمشروب الفودكا قائلا‏:‏ إنها وصمة عار في ذكري وتاريخ نضال الرجل الذي لم يحتس الخمور قط في حياته ومن هنا يجب ألا تقرن بذكره أبدا‏.‏
وتزور القاهرة هذا الأسبوع في ذكري وفاة جيفارا ابنته الطبيبة إيليدنا جيفارا ــ‏48‏ عاما ــ بدعوة من أحمد حمروش رئيس منظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية في إطار جولاتها التي لا ترفض فيها دعوة من بلد محب لوالدها ليظل جيفارا الرمز والمعني عالقا في الأذهان‏,‏ وهو الذي سبق له زيارة مصر مرتين في عامي‏1959‏ و‏1965‏ حيث التقي فيهما جمال عبدالناصر ليعقب بعد الزيارة الأولي بأنه التقي ثائرا عظيما من العالم الثالث‏,‏ وبعد زيارته الثانية صرح بأنه اجتمع بسياسي مهم في منطقة الشرق الأوسط‏,‏ وكان جيفارا في الزيارة الثانية يشغل منصب وزير الصناعة الكوبية ولم يكن في شرف استقباله ــ كما كتب الصحفي القدير ومراسل الأهرام آنذاك في موسكو عبدالملك خليل ــ في المطار في ساعة وصوله المتأخرة من الليل سوي السفير الكوبي وسكرتيره‏,‏ ونظيره وزير الصناعة المصرية الخفيفة‏,‏ حيث أتي تبرير وزارة الخارجية وقتها بأن الوزير جيفارا هو المسئول عن الصناعة الكوبية‏,‏ وهي في مجملها صناعة التبغ‏,‏ وبالتالي فإن نظيره المصري الذي يستقبله يكون وزير الصناعة الخفيفة لأنه يشرف علي مؤسسة ماتوسيان للسجائر‏..‏
ويكتب شاعر المشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدته البليغة جيفارا مات ردا علي التساؤلات حول طريقة موت الثائر التي اكتنفها الكثير من الغموض‏:‏ صور كتير ملو الخيال‏/‏ وألف مليون احتمال‏..‏ لكن أكيد ولا جدال‏/‏ جيفارا مات موتة الرجال‏!‏
وإذا ما كان جيفارا مات هناك فقد عشنا هنا مع أبلغ مثال للكاريزما في أيامنا‏..‏ جمال عبدالناصر‏..‏ من كان مجرد سماع صوته منبعثا من جهاز راديو ترانزستور علي رف كشك سجائر علي الناصية يستهل خطابه فيه بترنيمته المميزة ذات الصدي الممتد السابح في بحر الفولاذ أيها المواطنون حتي يثبت المرء مكانه‏,‏ وتتوقف الكرة الشراب في الهواء‏,‏ ويتحول المرور مسيرا لا مخيرا تجاه الكشك‏,‏ ويأخذ البائع المطاوع الثمن من غير فصال‏,‏ وتخرس الأم حنجرة وليدها بكلوة يدها كي لا يعيقها بكاوه عن الإنصات لما هو أهم‏..‏ وإذا ما راجعنا سجلات المواليد في بر مصر في فترة حكم ناصر سنلتقي باسم جمال متسيدا في الريف والحضر وكأنه الفرمان‏,‏ ويهز والدي رأسه إعجابا ومعلقا‏:‏ قول كمان يا صلاح الدين‏..‏ ومازلت أذكر زيارتي لبيروت ــ قبل النكسة ــ عندما كانت جميع مواصلاتي بالمجان تعبيرا من أبو زلمة عن إعجابه بأبوخالد‏,‏ ولا يغيب عن الذاكرة تلك الحساسية المرضية التي كانت تجاه الكيان الناصري في أخبار اليوم التي قضيت فيها سنوات بداياتي العملية عندما استدعاني أستاذي مصطفي أمين علي عجل
وقد خلا صوته المعهود من تلك النبرة المنعشة المشجعة الحانية التي اعتدتها لتجعلني أستميت في الأداء والعطاء والسهر و‏..‏ هرعت إليه لأفاجأ عند دخولي مكتبه بدائرة عمالقة علي أكبر مستوي من مسئولي الجريدة كلهم كلهم في انتظار شخصي الضعيف للتحقيق معي وصب جام غضبهم علي أم رأسي حول الرسم المصاحب ليوميات هذا الصباح ــ وكنت أيامها أقوم كهاوية برسم الموتيفات المصاحبة لمقالات كبار الكتاب أمثال العقاد وطه حسين والتابعي والشناوي وأحمد الصاوي محمد ــ وتدافعت الأسئلة من كل صوب‏:‏ تقصدي مين من الرسم اللي مناخيره طويلة؟‏!‏ ومين اللي أوحي لك بهذا الرسم؟‏!‏ وهل وجدت في المقال ما يرمي علي صاحبنا؟‏!‏ و‏..‏ يأتي تعقيب علي أمين وفي الرنة جزع‏:‏ والله أنا خايف يفهمونا خطأ‏..‏ ولأني محصنة بدعاء الوالدين لم يكن الرسم لي فقد شاء المولي الرحيم أن أسقط مريضة قبلها بيوم واحد فقط وبطني توجعني وأطلع إجازة مرضية فيضطر سكرتير التحرير استعارة أحد رسوم الأستاذ كمال الملاخ القديمة من الأرشيف وكان يسبقني في رسم اليوميات‏,‏ وعدت علي خير دون إصابات‏,‏ والجماعة فهموها زي ما هم عايزين بدليل فصل التوءم أمين‏:‏ علي للأهرام ومصطفي لقراميدان‏..‏ و‏..‏ يوكل إلي وأنا في الأهرام بعدها بسنوات طويلة مصاحبة الكاتب القدير يوسف إدريس في مهمة تغط
ية مشاعر الجماهير التي خرجت في وداع جمال‏,‏ ويومها أصبت بجلطة في الساق في جنازة حارة رصدتها الوكالات العالمية في الأسبوع الماضي علي أنها كانت أكبر جنازة في التاريخ فقد شارك فيها‏6‏ ملايين مصري‏!..‏
و‏..‏ من نجوم الكاريزما علي أرض مصر الكاتب الجرنالجي الأستاذ محمد حسنين هيكل من لا يستجدي الأضواء وإنما تختزنه الأضواء‏..‏ منين ما يمشي واخد الضوء معاه وطول ما هو موجود يشع‏,‏ وبدون ما يقولك أحد تعرف أنه حضر من دوران الرءوس للقطب‏..‏ يبعد ما يبعد‏..‏ يبطل كتابة‏..‏ يلوح بالاعتزال‏..‏ لكن يظل القول‏:‏ الأستاذ جه والأستاذ راح‏!‏
الكاريزما التي يحمل صاحبها نظرات لا تعلق بها الأبصار فحسب بل تستقر في ذاكرة المتلقي لا تبرحه إلي الأبد‏..‏ وقد ينسي وجوها كثيرة يراها من حولها وفي حياته لكنه أبدا لا ينسي هذا الوجه الذي يجذبك إليه بخيوط من حرير فتشعر في الحال بوجوب مسئوليتك نحو صاحبه‏..‏ مثال له عبدالحليم حافظ‏..‏ ابنك الحبيب وشقيقك الوديع الذي لابد وأن تعمل بكل وسيلة لإدخال السعادة إلي قلبه والاحتفاظ له بابتسامته المشرقة‏,‏ لهذا لم يكن غريبا أن جميع الناس رجالا ونساء كبارا وصغار في مصر وأوطان العرب أحبوا حليم حبا استثنائيا‏,‏ فلم يكن لأي منهم مجرد مطرب بصوت قطيفة ينعش عواطفهم‏,‏ بل كان كل واحد يشعر به كابنه وأخيه الصغير‏,‏ وتعاظم الحب ليغدو حليم رمزا تاريخيا‏..‏ ابن الشعب يغني للشعب غناء يردده الشعب بسهولة ويلتحمون به من أول نغمة عاطفية وثورجية وظلموه والناجح يرفع إيده وآدي إحنا بنينا السد العالي‏!
..‏ و‏..‏ ذلك الكاريزمي المشع الذي من قبل أن يهل فوق خشبة مسرحه إلا وتستشعر بأنه آت في التو واللحظة فمخيلتك المتوثبة نحوه تصطاده من خلف الكواليس لتجسده أمامك قبل أن يقف بحقيقته ليواجهك بهيئته العادية التي تلقي مثيلتها من طلعة الشمس لآخر النهار في طابور العيش وفوق سطح القطار وتحت شاسيه الميكانيكي وعلي سلم الترماي وفوق موتوسيكل التيك آوي ووراء شباك صندوق عربة المساجين وفي القسم ضابطا أو حرامي غسيل‏..‏ ينظر إليك بوجهه المتصخر بلا أدني خلجة ــ ربما للاطمئنان علي أن الحضور كامل العدد ــ فتتفجر الضحكات موجات وراء موجات‏,‏ ويمتد عرض المسرحية سنوات‏,‏ وربما يهد الهم والغم حيلك فتسوق عيالك أمامك لتشاهد المسرحية مرة أخري‏..‏ وأخري‏..‏ وتضحك مع عادل إمام الكاريزما‏!!‏
الكاريزما التي هبطت بحاكم جزيرة ألبا من فوق حصانه ليتلقي وعده من نابليون بونابرت المنفي تحت إمارته‏,‏ والذي أصبح لا حول له ولا قوة يقضي ملل أوقات فراغه في زراعة شتلات الزهور‏..‏ اصطادت عين النسر الحبيس نظرة السخرية في عين الحاكم فانبري يأمره‏:‏ إذا وقفت أمام الإمبراطور فلابد أن تهبط من فوق حصانك‏..‏ وأطاع الحاكم تحت تأثير الهيمنة التي لا تمحوها المحنة ليتلقي عقابه علي وجهه بالكرباج الذي اختطفه بونابرت من تحت ذراعه‏!.‏
الكاريزما التي صعد بها عمر مكرم إلي القلعة ينزع علمها الذي أسمته العامة البيرق النبوي ينشره بين يديه من القلعة لبولاق وأمامه ومن حوله الألوف‏,‏ إن شاء جمعها وإن شاء فرقها‏,‏ علي رأس المقاومة الشعبية ضد جيش الحملة الفرنسية‏..‏
الكاريزما التي دفعت بخالد بن الوليد صارخا في الأعداء‏:‏ لقد أتيت إليكم برجال يحبون الموت كما تحبون الحياة‏..‏ فألقوا بأسلحتهم ليسوي سيف الإسلام المسلول عرشي فارس والروم بالتراب‏,‏ ويقطع الأرض وثبا في العراق وفي بلاد الشام حتي فتحها للإسلام‏,‏ ليقول عنه أبوبكر وهو بالرجال عليم‏:‏ خالد لها‏,‏ ويقول عمر‏:‏ عجزت النساء أن يلدن مثل خالد‏….‏ الكاريزما التي جعلت الناس يثنون علي الخليفة عمر بن عبدالعزيز علي مدي أكثر من ثلاثة عشر قرنا‏,‏ وهو الذي لم يحكم سوي‏27‏ شهرا فقط‏,‏ حول فيها البلاد إلي مجتمع العدل‏,‏ حتي إن الأغنياء كانوا لا يجدون من يأخذ الزكاة‏,‏ بادئا بنفسه‏,‏ فارضا وجوده‏,‏ ضاربا النموذج‏,‏ ومن هنا سمي خامس الخلفاء‏.‏
الكاريزما التي ارتفعت بقدر جمال الدين الأفغاني لتغدو له سلطة أعلي من سلطة السلاطين‏,‏ وعندما يطلب منه السلطان عبدالحميد وقف الهجوم علي آلشاه ناصر الدين المستبد بإيران يجيبه بما يفزعه إذ قال‏:‏ امتثالا لإشارة أمير المؤمنين فإني الآن قد عفوت عن الشاه ناصر الدين‏..‏ وتخففا من أعباء الأسرة وتفرغا للنضال لم يتزوج الأفغاني‏,‏ وعندما يهديه السلطان إحدي جواريه الجميلات ليقيد حريته بالزواج رفض‏,‏ وعندما أحس بضغط الحاشية هدد بأن يزيل من نفسه مؤهلات الرجل للزواج‏!‏ وعندما قال له الطبيب إنك بذلك تعاند الطبيعة‏,‏ أجاب‏:‏ إن الطبيعة أقدر منك علي تنظيم نفسها بنفسها‏..‏ ويعرض عليه الإنجليز بعد ثورة المهدي في السودان أن يتوجوه سلطانا عليها فيجيبهم بأنه تكليف غريب وسفه في السياسة ما بعده سفه ويعنف اللورد ساليسبري مقدم العرض بقوله‏:‏ اسمح لي ياحضرة اللورد أن أسألك‏:‏ هل تملكون السودان حتي تريدون أن تبعثوا إليه بسلطان؟‏!!‏
و‏..‏ في أمور الكاريزما ناس فيها الوهج وضوؤها سابقها‏,‏ وناس شموعها مطفية ودهنها خنزير‏..‏ وناس تولد فوق الكراسي‏,‏ وناس بلاغتها تقنعك وهي لسه في اللفة‏..‏ ونجوم تشع وتفضل منورة بداخلها كلوب رباني‏,‏ ونجوم مضروبة تايواني‏..‏ وناس تقف في وسط الميدان مراد الخلق تحملها بهتاف فوق الأكتاف‏,‏ وناس تقف في الزور تنفر الخلق منها تقول يا فكيك‏..‏ ناس بدفع الصدق والإخلاص تجري علي ملو وشها تنتخب من طلعة الفجر‏,‏ وناس تدوس نص الجنيه المقطوع زاهدة في زيف نصه التاني‏..‏ وناس أخذت وضعها بحكم خبرتها وتاريخها وثقافتها وحنكتها وأدوارها وتأثيرها‏,‏ وناس هبطت بباراشوت علي مناصبها بقرار من فوق‏..‏ وناس تستمد سمعتها الطيبة من أدائها الصح‏,‏ وناس تؤديها غلط فتخسر السمعة‏..‏ ناس مولودة لتقود المسيرة‏,‏ وناس دلاديل‏,‏ وناس هي الأساس والعصب والجوهر والنخاع‏,‏ وناس علي رأي الكاريزمي يوسف إدريس فرافير‏..‏ وناس إذاما تركت مكانها تتصدع الجدران ويترمل القلم وتشعر أنك اتعريت‏,‏ وناس وجودها زي عدمه‏..‏ وناس تقدر وناس تكدر‏..‏ وناس وجودها يقول أنا هنا‏,‏ وناس ماكانشي هنا ومشي‏..‏ وناس لها شذي وصدي ومنطق وائتلاف فواح‏,
‏ وناس تقدم بسببها طلب هجرة وتترك لها بلاد‏..‏ وناس تتسبب لك في لقمة عيش‏,‏ وناس تقطع الخميرة من البيت‏..‏ وناس مكان ما يتكلموا تحب تسمعهم‏,‏ ومكان ما يقعدوا طالبة معاك تروح جنبهم‏,‏ ومطرح ما يروحوا تسأل هم ليه اتأخروا‏..‏ وناس تحب تجيب اسمهم علي لسانك سهوا وعمدا‏,‏ وناس بمجرد ذكرهم تستعيذ بالله‏..‏ وناس لهم وزنهم‏,‏ وناس طراطير‏..‏ وناس متبوعين‏,‏ وناس مجرد قفف‏..‏ وناس تنشال‏,‏ وناس تنحط‏,‏ وناس تركب‏,‏ ونازل تنزل‏,‏ وناس تدفع‏,‏ وناس تلهط‏,‏ وناس تدوس‏,‏ وناس تنداس وناس تتشال فوق الراس‏,‏ وناس تزرع في أول الصف‏,‏ وناس امشي انت وهو إجري إلعب بعيد‏,‏ وناس تولع حريقة‏,‏ وناس تاكلها والعة‏,‏ وفلوس ناس تتجوز فلوس ناس‏,‏ وناس تموت في الغريق‏,‏ وناس تعيش في اليخت‏,‏ وناس تؤذن في مالطة‏,‏ وناس تكفر ناس‏,‏ وناس تطلع براءة‏,‏ وناس تطلع دبي‏,‏ وناس لهم دستور‏,‏ وناس دستور يا اسيادي‏..‏ وتعبت يا ناس‏!‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق