الأحد، 16 أغسطس 2009

بنت الشـاطـئ. بقلم سناء البيسي

ينظر الدكتور محمد سليم العوا خلفه بأسي بالغ بعد الصلاة الأخيرة عليها فلا يجد أمامه سوي صف صغير من المعزين, ومن خلفه لا يوجد أحد, ويحف جثمانها إلي مثواه الأخير قبل أن يواري الثري في مقابر مصرالجديدة نفر قليل من الرجال, ويجلس خارج المقبرة عدد أقل من النساء, وهو الذي توقع أن يكون في توديعها ألوف المسلمين ومئات المفكرين والكتاب والباحثين.. ويعزيه صاحبه: لا تبتئس فإنها تشيعها الملائكة... الدكتورة عائشة محمد عبدالرحمن.. بنت الشاطئ من تستقبلها أرواح علوية طاهرة من دار الفناء لدار البقاء, بعد أن خاضت في خدمة الدين والقرآن والحديث واللغة العربية ما لم تخضه كتيبة كاملة من العلماء الصادقين, بل من جيل علماء بأسره.. الراحلة العالمة عاشت ونصب عينيها الآية الكريمة إنما يخشي الله من عباده العلماء.. وقد خشيت بنت الشاطئ الله, وتصدت بشجاعة نادرة لتغدو من كبار العلماء والأمناء, وروي مسلم إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.عندما صادقني الكتاب طفلة, وقرظني مدرس اللغة العربية بعبارة لا بأس مذيلا بها موضوع الإنشاء الذي كتبت فيه عن قرص الشمس المدرج بدماء معركة الغروب بين جيوش النهار والليل ليسقط مجندلا خلف الأفق, مسح والدي علي رأسي مباركا تلك اللابأس, ودعا لي أن يراني يوما أسير علي درب بنت الشاطئ المعجب بها والمتابع لمؤلفاتها وكتاباتها في صفحات الأهرام. وبقي الاسم أمام ناظري هدفا أسعي للتمثل به لأحقق أمنية لمن أنجبني أنثي وكان يتمني وأتمني لو أنني كنت الذكر الذي يحمل الاسم ويمد الفرع ويشد الأزر ويذود عن حمي الأهل والديار, ويعمل حسابه أزواج الشقيقات.. طيف والدي عاد من الأغوار طاغيا, وملمس يده الحانية بعث كأنه مروحة النسيم العليل علي الجبين الملتهب لحظة أن قرأت خط الدكتورة بنت الشاطئ في إهدائها لي كتابها صور من حياتهن في طبعته الجديدة ضمن سلسلة أعمالها الكاملة. تحييني أستاذتي كابنتها وصديقتها وزميلتها متفضلة من مكانتها السامقة علي واحدة ممن يسرن علي خطاها ويتبعن هداها, وقلت في سري تعال يا والدي شوف الهنا اللي بنتك فيه بعدما كتبت لي بنت الشاطئ ذات نفسها وبخط يدها: عزيزتي!!المتفردة, أم المثقفين, سيدة نساء العرب في عصرنا, أحد معالم القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين والقرن العشرين الميلادي, فريدة عصرها.. وحيدة دهرها.. ودرة تاج زمانها.. أستاذة الأجيال المتتالية.. أول سيدة تحاضر وهي سافرة في أروقة الأزهر, وتترجم موسوعتها سيدات بيت النبوة إلي الفرنسية والإنجليزية والأردية والأندونيسية, وأسلمت اليابانية تيرو كوتوكو ماسو إثر ترجمتها لكتابها عن فاطمة الزهراء إلي اليابانية, وكان الملك عبدالعزيز آل سعود يلقبها بـأميرة الصحراء.. التي أنجبها بيت علي شاطئ النيل من فرع دمياط علي مقربة من ضريح الشيخ شطا في السادس من نوفمبر عام1913, وكان والدها الشيخ عبدالرحمن الذي يمتد نسبه إلي البيت الحسيني الشريف, ابن قرية شبرا نجوم مركز قويسنا محافظة المنوفية قد استقر به المقام في سوق الحسبة بدمياط بعد زواجه بدمياطية حفيدة شيخ الجامع الأزهر إبراهيم الدمهوجي, ليسبق مولد عائشة أختها البكرية ومن بعدها جاء شقيقات أربع وشقيقان..ترتع الصغيرة في ملاعب الطفولة تحت الصفصافة النامية في اعوجاج الجسر, وتصنع بأدواتها الساذجة حمامة بيضاء بفرد جناح تسيرها مركبا ورقيا صغيرا يتهادي علي سطح النيل الخالد, لتزامل مسيرتها من فوق البر فاردة جلبابها ليملؤه الريح فيغدو الشاطئ في مخيلة الطفولة الخصبة منصة الانطلاق للطيران للأعالي لفوق السحاب.. وتحكي عائشة للماء ويهمس الموج بالحكاوي وتتأصل أواصر المحبة, وتخاف الأم عشق الصغيرة للسطح اللامع المراوغ, فتروي لها مأساة جدتها في شرخ الشباب التي كانت تجلس طويلا تتأمل علي الشاطئ, وذهبت لتتوضأ لصلاة الفجر فلا أقامت صلاتها ولا لدارها عادت, فقد سحبتها أذرع الموج الهادر, وتاهت صيحة استغاثتها مع الهدير لتهبط لمرقدها في القاع, أو ليجرفها التيار للبعيد.. و.. مع الأيام غفرت عائشة لشاطئها ذنبا لا يغتفر, وتمادت بطبعها السمح في تسامحها معه بأن استعارت من اسمه اسمها الجديد بنت الشاطئ ائتناسا بأصدائه, وساترا تختفي من ورائه عن عيون التزمت المترصدة لكل من تخرج عن صف الحريم, وتوقع باللقب المستعار كلماتها التي تصيغها حروفا من نور وفيروز الشطآن.أستاذتي الجليلة.. حياتها التحدي.. كنت واحدة من جيل ضحايا شهيدات كتب عليه أن يعبر الصراط الخطر ما بين أسوار الحريم إلي آفاق الحرية تاركا في كل خطوة أشلاء شهيدة تعثرت خطواتها فوق المعبر الضيق وأغشي الضوء المباغت بصرها فضلت السبيل.. مشوار تعليمها الذي نحتته في الصخر سلسلة من التحديات الكبري, فقد جاء رفض والدها قاطعا في مسألة خروج البنات للتعليم, وظفرت لها الأم بالإذن ممن لا يملك الوالد أن يعصي له أمرا.. جدها لأمها الشيخ محمد الدمهوجي الذي دفع غاليا في سبيل تعليم حفيدته عندما أعيا جدي إقناع والدي في أول الأمر ذهب إلي جامع البحر يستعين بشيوخه علي عناد أبي, وإصراره علي حجزي في البيت, ولم أبلغ بعد سن الحجاب.. وطالت المجادلة بين جدي وأبي حتي صارت خصومة حادة, دون أن يتزحزح والدي عن موقفه. وخرج جدي منفعلا بالغيظ والغضب, فلم يلتفت إلي دابة كانت تعبر الطريق مسرعة أمام الجامع لحظة انصرافه, فألقت به علي الأرض المرصوفة بحجارة صخرية, فلم ينهض علي ساقيه بعد ذلك قط! ليمضي ما بقي من سنوات عمره كسيحا مقعدا.. و.. رق والدي للشيخ الكسيح في محنته, فتخلي له عني,أقوم علي خدمته وأعيش إلي جواره, وسكت علي مضض, حين أرسلني جدي إلي المدرسة الراقية.. وتختزل عائشة بإرادة حديدية كل مراحل التعليم, وعندما تقدمت للالتحاق بمدرسة المعلمات بالمنصورة سحب والدها أوراقها في الخفاء, وعندما قدم جدها أوراقها إلي مدرسة اللوزي بدمياط رفض الوالد, فنزلت عائشة علي رغبته لتتابع تحصيلها ودراستها المنزلية لتحصل علي كفاءة المعلمات كأولي الناجحات عام1929 وعلي البكالوريا القسم الأدبي عام1934.. و.. تلتحق بقسم اللغة العربية كلية الآداب جامعة فؤاد الأول, وتحصل علي الماجستير عام1941 والدكتوراه عام1950.بنت الشاطئ قلعة الفقه والفكر والتفسير والتحقيق التي قدمت للمكتبة الدينية أربعين كتابا والعديد من الأبحاث والمقالات والآراء اصطفت في رفوف المكتبة تسد عين الشمس, وكان من أشهر أعمالها في الاتجاه الديني كتبها حول سيدات بيت النبوة وقراءة واعية لفكر البهائية, وفي ميادين الكتابة الأخري طرقت جميع المجالات فكتبت الرواية سيد العزبة, وكتبت القصة القصيرة عن واقع المرأة في جيلها صور من حياتهن, ونال الكتاب القصصي جائزة مجمع اللغة العربية للقصة القصيرة عام1953, وكتبت بنت الشاطئ رسالتها العذبة التي تصور فيها مشاعر الحب والأنوثة عند المرأة الشاعر والملهمة عن ابن زيدون وولادة بنت المستكفي, وكان أول كتبها عن الريف المصري, أما أشهر كتبها فهو علي الجسر سيرة شخصية.وتتحدي الدكتورة صعوبة اختراق عالم أبي العلاء المعري, فحصلت علي رسالتيها للماجستير والدكتوراه عن حياته الإنسانية ومؤلفاته رسالة الغفران, الصاهل والشاحج, الفصول والغايات, وظلت عائشة لأكثر من نصف قرن من الزمان واهتمامها بأبي العلاء لا ينقطع, تجسده في خيالها لتحادثه وتحاوره وترنو نحوه وتخطو إليه, وتقول يوما عنه لو كان أبوالعلاء حيا لنافس زوجي في حبي له, ورغم عدم وفاق المعري مع المرأة ظلت عائشة تقول عنه: أحببت فيه الصدق.. لقد رفض كل شيء لتسلم له كلمته النقية, وقد اختلفت فيه مع الخولي ومع طه حسين, فأنا أعتقد أنه ركل الدنيا بإرادته, وهما كانا يريان أنه كان محصورا في أن يتزهد, وهناك جهل بأبي العلاء الذي كان عدوا للزيف والإتجار بالدين, وناقما علي الساسة فناصبوه العداء وقولوه ما لم يقله, مثل أنه في كتاب الفصول والغايات نقد القرآن الكريم, ولما قرأته وجدته وعظا من الدرجة الأولي ومواجد صوفية تسجد لله سبحانه وتعالي.وتحدت عائشة ابنة عبدالرحمن في القيام بتحقيق مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح, وهذا التحدي الكبير لا يشاركها فيه أحد, فالكتاب موسوعة في علم الحديث, تضم سبعين نوعا, وقد سبق عائشة عدد من المحققين لهذا الكتاب, ولكن أحدا لم يبذل الجهد الذي بذلته أو قام بالتصويب والترجيح والتراجم التي قامت بها, حتي بلغ عدد صفحات الكتاب بملحق تراجمه تسعمائة واثنتين وخمسين صفحة, وبتحقيق هذا الكتاب اقتحمت سيدتنا ميدان دراسات علم الحديث الذي نبغت فيه واجتمعت لها أدواته التي جعلت منها نابغة المحققين في عصرنا.وليس هناك أشجع من تحديها لصاحب السطوتين القلم واللسان العملاق عباس محمود العقاد, الذي دخلت معه بنت الشاطئ في جدل تاريخي خرج كل منهما من براثنه مثخن الجراح, لكنها كانت أمتع معركة أدبية بين هو وهي علي مستوي تاريخ الحوار الأدبي في مصر, الذي كتبت عنه بنت الشاطئ: بدأت مبكرا في الكتابة بجريدة الأهرام, وكان لي مكتب فيها, وفي أحد الأيام التقيت الأستاذ العقاد في مكتب رئيس التحرير, وأسمعني كلمات تشجيعية تحفيزا لكاتبة ناشئة!.. سألني: هل قرأت كتابي( سارة)؟, قلت: لم أجد نفسي فيه, والأنثي أقرب إلي فهم طبيعة الأنثي من الرجل. قام من المكتب وأسر في نفسه هذا الرأي السلبي, وبعدها كتب( المرأة في القرآن الكريم) وشاعت آراؤه التي تجعل من المرأة بطبيعتها( غانية), وحتي المهن التي ألفتها وأقرب إلي طبيعتها كالطبخ وتصميم الأزياء وتصفيف الشعر وحياكة الملابس لم تتفوق فيها, وتفوق فيها واشتهر الرجال, وهي آراء تنم عن عداء مبالغ فيه لجنس النساء, فهو كان يري أن المرأة بطبيعتها قذرة, وفي مجالس اللهو أو حينما تتعري فالمرأة عنده أقرب إلي الاستثارة الجنسية والخفة...وهنا رددت عليه آراءه في مقال لي كتبته تحت عنوان( اللهم إني صائمة) وقلت: إن المرأة التي يتحدث عنها العقاد والتي تتردد علي مجالسه لا نعرفها ولا نعرف الذين يعرفونها.. إضافة إلي ذلك.. من قال له إننا نتعلق بأن نكون طباخات أو مصممات أزياء أو نعمل مصففات شعر أو حائكات ملابس بعد أن وصلنا إلي ما وصلنا إليه من أستاذية في الجامعات؟!.. وقلت له: أنت لا تعرف المرأة لا زوجة ولا بنتا ولا أختا فهلا عرفتها أما؟!.. أما قولك بأن المرأة قذرة فالذي أعلمه أن أمهات الأنبياء جميعا نساء فهل هن كما قال؟!.. فرد علي كتابة: رأيي هو من رأي الله.. فكانت القاصمة الكبري, وعلقت علي كلامه قائلة: إن الرأي تردد وبين قبول وإيجاب,والكسبيات لا تسند إلي الله, فالله يحكم ولا يري وإنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون. فما قاله العقاد مناقض لأصول العقيدة, فالله لا تجوز عليه الكسبيات كما قلت, وانتهي بالنسبة لي الحوار مع العقاد عند هذه النقطة, لأن ما وقع فيه من أخطاء قاصمة تدل علي عدم معرفة فيما خاض فيه.. وانتهي شهر رمضان ليثير العقاد القضية ثانية, قائلا: إنني آخر من تتكلم عن جنس النساء لأني رضيت بتعدد الزوجات... فرددت عليه بمقالكان عنوانه( ما لم أقله في الصيام), وقلت إن هذا الجنس الذي أنا آخره أعتز بالانتماء إليه.. وعلي العموم كانت معركة فيها مماحكة وتلاسن, وماذا أنتظر من رجل يفخر بأنه لم يدخل مدارس؟!.وفي مسيرتها مع التحدي تتحدي بنت الشاطئ قلعة الصحافة لتدخلها من الباب الخلفي بعدما استشعرت الحاجة لبيبة محمد رئيس تحرير مجلة النهضة النسائية موهبتها فنشرت لها قصيدة بعنوان الحنين إلي دمياط وعدة مقالات, فقامت بدعوتها للقاهرة وقد حطت في مخها ما سوف يأتيها من خير أدبي ومادي بقدوم الدمياطية بأمشاط زينتها الدمياطي البراقة إليها, إلي جانب مساعدتها في حمل أعباء المجلة, فكانت دعوة ظاهرها حضارة وباطنها شطارة, لم تشر بطلتنا سوي لجهدها المبذول فيها: لبيت الدعوة علي استحياء متهيبة لقاء هذه السيدة التي تنتمي للطبقة الراقية, وكان قد بلغني من أنباء حياتها أنها تزوجت أول مرة من مرتضي باشا, ثم من أحد الأثرياء, وأن إحدي بناتها كانت زوجة لعبدالستار الباسل بك خلفا لفقيدة الأدب ملك حفني ناصف باحثة البادية, وحصل اللقاء وكررت الزيارة أحمل مقالاتي معي وأقوم بالمراجعة اللغوية لجميع مواد المجلة, وقد تكلفني السيدة الجليلة أحيانا بكتابة مقالها الافتتاحي, فأعد هذا التكليف شرفا لي وشهادة لقلمي,ثم بدا للسيدة الجليلة أن تستغني, لأسباب لم أسأل عنها, عن خدمات مدير التحرير الأستاذ محمد صادق عبدالرحمن ومدير الإدارة ا لسيد عقل, وعهدت إلي القيام بعملهما معا, وذلك من عدد أكتوبر1933, وقد أدركت السيدة الجليلة بفطنتها حاجتي إلي مورد إضافي أستعين به علي مواجهة نفقات تعليمي لكي أعفي أمي من المبلغ الذي تقتطعه لي من نفقات بيتنا المحدودة المتواضعة, فأصبح راتبي4 جنيهات في الشهر وهو في تقديري مكافأة سخية علي كتابة بريد المحلة, وإعداد موادها للطبع, وتصدير كل عدد منها بمقال افتتاحي أتفنن في إنشائه وأوقعه باسم السيدة الكبيرة الجليلة صاحبة المجلة, ثم أحمل المواد كل شهر إلي مطبعة حجازي في الجمالية لأعود مرة أخري فأصححها, وأخري لأتسلم أعدادها ــ نحو ألفي مطبوعة ــ وأنقلها في عربة خيل إلي مقر المجلة في حي عابدين, وأكتب عناوين المشتركين علي غلافها, ثم أحملها علي دفعات إلي صندوق بريد المطبوعات علي ناصية شارعي خيرت والمبتديان, وأتابع حركة البريد وتسديد الاشتراكات, وأحتفظ بالمرتجع حتي تعود السيدة الجليلة الحاجة من رحلتها السنوية إلي الحجاز, حيث اعتادت أن تقضي هناك نحو ستة أشهر..وتغري الموهبة ابنة دمياط للسباحة خارج مجري السيدة الحاجة الجليلة فترسل بقصصها القصيرة لتنشر في صحيفتي البلاغ وكوكب الشرق, أما مجلة الهلالفتعيد لها قصتها مع بطاقة اعتذار باسم إميل زيدان, وتبدأ مشوارها الصحفي مع الأهرام منذ عام1936 مع أنطون الجميل لتظل تكتب علي مدي ستين عاما بابها الشهير شاهدة عصر لتستمر تكتبه بلا انقطاع حتي الخميس السابق لوفاتها عصر الثلاثاء أول ديسمبر عام1998.التحدي جزء من فطرتها, وشطر من تكوينها, حتي أنها تحدت الغضب والشعور بالظلم لتسمو فوق الجحود وعدم الاعتراف بالجميل.. وعلي كثرة ما قدمت في حياتها العلمية, وعلي ضخامة ما أنارت سكة الباحثين, وعلي كثرة ما كرمها الملوك والروساء والأمراء والدول, فإن العارفين بفضلها وقدر منزلتها يهزهم الألم الدفين, فالموقعان اللذان كان ينبغي أن تشغلهما العظيمة الكبيرة العميقة الكريمة بنت الشاطئ في مجمع اللغة العربية ومجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف ظلا شاغرين حتي موتها, ومن عجب العجاب ألا تدخل عائشة مجمع اللغة وهي إمام اللغة.. وقد استحقت عن جدارة أن تتبوأ مكانها في مجمع الخالدين, ولكن أعضاءه آثروا أن يبقي مكانها أبدا شاغرا, ولم يتسع لها صدر مجمع الفقه الإسلامي الأزهري رغم مكتبتها الإسلامية التي لا حصر لها ولا مقارنة بها.. المترفعة دوما التي لم يتسع لها صدر مجامع تشرف بأن تكون نوارتها عائشة, فاتسع لها صدر المغرب العربي كله لتمكث في هجرتها المباركة لديه معززة مكرمة عشرين عاما, تفتحت فيها قلوب المغاربة لها, فأحبوها وعرفوا قدرها ونهلوا من فيض علومها, فأسلموا لها قياد التكريم والأستذة..وتظل بنت الشاطئ في تحديها.. حتي لأحزانها.. وفجأة, تتفرغ لكتابة كلمتها الأخيرة تكاشف الناس فيها قبل الرحيل بمأساة حياتها, وتذكر ما لم تذكره قبلا في سيرتها الذاتية, فتصرح ولا تلمح, وتواجه ولا تداري, فقد كانت في السابق تتعزي بفقد الزوج والحبيب والأستاذ وفقد الابن والبنت بالتجلد, وإذا بالتجلد ينقلب إلي تبلد, والشجاعة عندها التبست بالمكابرة, لكنها في أخرياتها بعدما تشققت قشرة التحدي وانهزم درع الاحتمال, تعترف بأن هذا كله كذب وزيف وغرور, وقد آن لها أن تسجل حقيقة انتمائها المؤلم لبيت الأحزان المسكون بالموت.. تقول: كنت أرقب ابنتي أمينة من بعيد وأحس بأنها لن تعيش منذ مات والدها, كانت تدرس الدكتوراه في فيينا, فأبت أن تخذل ذكراه وأتمتها, وعلي الرغم من اشتداد مرض السكر عليها كانت كلما أصابها منه الوهن تقول لنفسها( عيب يا أمينة بابا يزعل), كانت نابغة ومتفوقة بشكل غير عادي وحصلت علي الدكتوراه في الفلسفة والرياضيات والبحث والشخصية المقارنة بمرتبة امتياز,فكانت أول طالبة تحصل علي هذه الدرجة في تاريخ جامعة فيينا التي قررت أن من حق هذه الطالبة أن يسلمها رئيس الجمهورية شهادة الدكتوراه, فما كان من ابنتي أمينة إلا أن اعتذرت عن هذا الحق وطلبت أن يسلمها الشهادة مدير الجامعة, لأنه في رأيها أولي بها, فهو عالم في الرياضيات, ويمثل الشخصية العلمية في الجامعة, بينما هي لا تمثل لرئيس الجمهورية سوي طالبة أجنبية متفوقة.. و.. ذهب ابني( أكمل) إلي الموت في زهو شبابه جراء طلقة نارية اخترقت يده واستقرت في دماغه, ذهب إلي الموت عن طريق الخطأ بيده وببندقيته التي اشتراها حين انتشرت جرائم سطو علي البيوت, علي الرغم من أني كنت معترضة علي شرائها, لكن أحد الأشرار أمن له إحضارها, وهكذا صدق توجسي.. ولا أملك الآن سوي التجلد الذي استحال إلي تبلد...بنت الشاطئ تحدت كل شيء لكنها لم تستطع تحدي الحب. التقته في الجامعة لتوقن عن إيمان عميق بأن حياتها كانت قبل معرفتها به طريقا إليه, وبعد رحيله انتظارا للقاء الثاني به في الحياة الآخرة ــ أستاذها وزوجها وسيد قلبها الشيخ أمين الخولي1895 ـ1966 خريج مدرسة القضاء الشرعي, الذي ذهب في بعثة إلي أوروبا وتأثر بحركات التجديد الديني, وشغل منصب مدير عام الثقافة, وأصدر مجلة الأديب عام1956, وأنشأ جمعية الأمناء وكان أمينها, ومن مؤلفاته المجددون في الإسلام ــ الحبيب الذي تقول عنه: وتجلت فينا ولنا وبنا آية الله الكبري الذي خلقنا من نفس واحدة فكنا الواحد الذي لا يتعدد, والفرد الذي لا يتجزأ, وكانت قصتنا أسطورة الزمان, لم تسمع الدنيا بمثلها قبلنا, وهيهات أن تتكرر إلي آخر الدهر.... ولا تكتفي عائشة بلغة السرد في الحب بل تكتب الحب شعرا بلا قافية:اثنين, لكل منهما اسمه ونسبه ولقبه وصفته وصورته, وعمله وشخصيته.. وبهذه الثنائية العددية يتعاملان مع الناس والدنيا.. ولكنهما في جوهر حقيقتهما واحد لا يتعدد.. لا كما تخيلت الأساطير عن النفس والقرين.. ولا كما تغني الشعراء بالروح الواحدة في جسدين.. ولا كما تمثل الصوفية رؤيا الفناء في ذات الحبيب.. ولا كما تحدث العلماء عن الخلية الواحدة قبل أن تنقسم.. وإنما هو سر وراء ذلك كله.. سر تجلت فيه آية الله الذي خلقنا من نفس واحدة وخلق منها زوجهاويسألونها عن زواج الحب؟ فترد: الزواج من الطبيعي أن يسبقه حب, ولقد كنت أتمثله وأنا في الطريق إليه, وكنت ألقاه قبل أن ألقاه, وبالفعل فإني قد تزوجته علي ضرة, ولكني حينها نضجت علي هذه السن التي تمنعني ضرة من لقائه.. كنت أشب وأرتفع لأصل إليه, والحب والكره داخلان حتي في علوم أصول الفقه, ومما قاله الشاطبي في الموافقات:( القلوب بيد الله).. ولقد خضع أبي لرقابتي ستين سنة فلم يختل فيها سلوكه شعرة واحدة في ناظري, لكني وجدته في شيخوخته, وهو الشيخ المتصوف الذي أفني عمره في الطاعات والتقرب إلي الله بالعلم, يردد حينما يتذكر أمي:وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ولا موجعات القلب حتي تولتلقد مضي وبقيت..رحل الزوج الذي كان لا يناديني إلا بالأستاذة, ولا يجري ذكري علي لسانه إلا بالدكتورة.. وعلي عيني, حملوه من دارنا إلي غير عودة, ومضوا به إلي قريته شوشاي في ريف المنوفية فدفنوه في ترابها الذي جاء منه وإليه كان المآب.وترحل بنت الشاطئ إلي الشاطئ الآخر.. شاطئ الخلود.. رحلت وكتابها بيمينها.. ذهبت من وهبت حياتها بسخاء للإسلام دينا وعقيدة وفكرا وتراثا, ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام.. استدعتها الملائكة بأمر ربها يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلي ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي, وادخلي جنتي صدق الله العظيم.. ذهبت عائشة عبدالرحمن.. بنت الشاطئ.. ذهبت وبقيت كلماتها.{

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق