الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

رجـاء النقـاش‏..‏ صياد اللؤلؤ..بقلم سناء البيسي

مكثت أغار منه لقربه الشديد من الأستاذ أحمد بهاء الدين رئيس تحرير أخبار اليوم وقتها‏,‏ كان موقعه في الحجرة الملحقة لمكتب الأستاذ الذي يقوم إليه فجأة ليحادثه طويلا علي انفراد ثم يعود إلينا ليلقي علينا ملاحظاته المبتسرة كمجموعة‏..‏ ولم أمكث زمنا تحت مظلة غيرتي من رجاء النقاش بعدما اجتمعنا معا علي محبة بهاء وبعدما لمست فيه الحكاء الذي يجيد السرد ويمتلك ذاكرة تحتشد بحكايا الثقافة وطرائف المبدعين عبر الزمان‏,‏ ويسيل منه عذب الكلام عن الذين يملأون حياتنا أدبا وشعرا أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس ونزار قباني وكامل الشناوي وزكي نجيب محمود‏..‏ وغيرهم‏..‏ وغدونا أصدقاء‏,‏ فرجاء هو من يصادق ولا يعرف العداء‏.‏ من يثق في نفسه فيمجد مواهب الآخر‏.‏ من ينقد ولا يجرح‏.‏ من كلامه الهمس وصوته رنين العقل‏.‏ من يصيبك بالفرح كلما التقيت به ويترك لك أغلي الذكريات كلما غاب عنك‏.‏
من يقرأ بتجرد ويكتب بتجرد‏.‏ من ينقد فتتجدد طاقة الكتابة لدي من كتب عنه‏.‏ من له لغة مختلفة عن اللغة التي تتردد علي ألسنة المثقفين المتقعرين الذين يدججون كلماتهم بالشعارات‏.‏ من أعتذر عن أي جمع قبل أن أعلم بقدومه إليه وعندما أعلم أكون في مقدمة كشف الانتظار‏..‏ من تلقاني ابتسامته فأحظي بتوقيع الشطارة والمهارة والنجاح والفلاح واستمرار الكفاح‏.‏ من أسمعه وأقرأه فأشعر بطمأنينة الغريب العائد إلي وطنه‏.‏ من لم يكف عن صيد اللآلئ الحقيقية وأبدا لم تخدعه الشباك‏.‏ من يتحدث بنوع من الصدق أقرب ما يكون للتقوي‏.‏ من يمتلئ بطاقة هائلة من التواضع أمام النص الذي يتحدث عنه ويكشف أسراره مستخدما لغة لا يتعاظم فيها ولا يستعرض ولا يقحم الأسماء الأجنبية ولا يختلس مكان الكاتب‏..‏ من يعشق التاريخ فأعشق تفانيه في كشف كنوزه لأصبح علي رأس طابور زيارة متاحفه الثرية وحدائقه الغناء‏.‏
من ينقب عن الجمال فيكتشف عشق شكسبير لامرأة في لون الأبنوس وخطابات شعر الغرام بين أنور المعداوي وفدوي طوقان‏..‏ ابن النقاش ابن قرية منية سمنود بالدقهلية صاحب العيون الخضر الذي دعاه عبدالناصر عام‏1963‏ ضمن أعضاء المؤتمر الأول لكتاب آسيا وإفريقيا فدخل قصر عابدين للمرة الأولي لينبهر بناصر وبعابدين‏:‏ وقفنا في صفوف متراصة ومر علينا عبدالناصر وصافحنا واحدا واحدا فرأيناه من قرب وأدركنا صحة ما كان يقال عنه من أن له هيبة وسحرا وجاذبية وعينين مليئتين ببريق استثنائي يأسر القلوب‏..‏ كان هذا كله صحيحا‏,‏ فقد مستنا كهرباء عبدالناصر فاهتزت منا الأعصاب والمشاعر‏,‏ وأدركنا جميعا أننا في حضرة رجل عظيم‏..‏ وبعد أن انتهت المصافحات انتقلنا إلي قاعة العشاء التي تبهر العيون وتخطف الأبصار من فرط جمالها وبهائها‏,‏ وكان سقفها كله مطليا بالذهب‏,‏
وكلما نظرنا إلي هذا الجمال وهذا الجلال شعرنا كأننا نعيش ليلة من ليالي ألف ليلة‏,‏ مع فارق واحد‏,‏ هو أننا لم نكن أمراء ولا أصحاب مال أو سلطان‏,‏ بل كنا في معظمنا فقراء أبناء فقراء‏,‏ ومن كان منا أفضل من ذلك فهو في أحسن الفروض من متوسطي الحال‏,‏ وكنا ندرك جميعا أنه لولا عبدالناصر الذي فتح لنا الأبواب وقال لنا‏:‏ ادخلوا‏,‏ ما كان لنا أبدا أن ندخل هذه القاعة الذهبية في قصر عابدين‏,‏ ونحن آمنون بأن الشرطة لن تقبض علينا وتسيء بنا الظنون‏,‏ فقد كان قصاري ما نحلم به هو أن نري الأسوار الخارجية لقصر عابدين ثم نعود إلي بيوتنا سالمين غانمين‏.‏
رجاء‏..‏ الخجول الذي يشتد خجله كلما تكاثرت من حوله أمواج الثناء فيسقط فوق وجهه قناعا من الجدية والوقار لا يري ولا تسمع أصداء الإعجاب‏,‏ وينظر بعيدا وكأنه يبحث عن ذلك الشخص الذي يزجون إليه عبارات الثناء وكأنه ليس رجاء‏..‏ وكأنه ليس رجاء النقاش الذي غادر مقعده بجواري في مدينة دبي عام‏2005‏ متعثرا في خجله متقهقرا في سيره كطفل يساق عنوة إلي سبورة الامتحان ليحل مسألة حساب مستعصية‏,‏ وكان رجاء يومها مدعوا للصعود إلي منصة التكريم العربي الكبير‏,‏ حيث قام الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي العهد بتسليمه جائزة شخصية العام تقديرا لدوره الثقافي العربي الكبير‏..‏ ويومها بحثت عن صورة المحتفي به لنشرها فلم أجده سوي متواريا في آخر الصفوف لا يكاد يبين‏..‏ وتلك هي أخلاقياته وتصرفه ونهجه الذي لا يحيد عنه بالفعل أو بالقلم‏:‏ كن عبقريا في عملك أو شخصية مهمة هنا أو هناك بما تملك من ميزات وجهود تبذلها ولكن عليك أن تعيش كإنسان طبيعي يتعامل مع الذين حوله تعاملا هادئا يسيرا بسيطا لا تكلف فيه‏.‏
ونمت بيننا أنا ورجاء زهور الوداد زمنا أدفع فيه عنه أي قول يخدش شفافية الصفاء‏,‏ لكني عدت غصبا عني أغار ثانية منه بسبب اقترابه من نجيب محفوظ إلي حد الجلوس إليه لمدة عام‏1990‏ ـ‏1991‏ مع خيوط الصباح ثلاث ساعات يوميا ليسجل معه ما يقرب من خمسين ساعة كاملة في مقهي علي بابا الصغير بميدان التحرير في وسط القاهرة ليخرج بعدها بكتابه المذهل الذي حشد فيه الأفكار والآراء الجريئة بل والمثيرة أحيانا التي سمعها من نجيب محفوظ أضواء جديدة علي أدبه وحياته ورغم اقترابي من صاحب نوبل سنينا مديدة علي الجانب الآخر حيث خصني وحدي بجميع أعماله منذ عام‏1990‏ حتي عام‏2006,‏ وكان لي في مكتبه درج خاص بي‏,‏ وأحتفظ بكنوز لا مثيل لها من خطاباته ومسوداته وأوراقه‏,‏ إلا أنني من بعد أن أهداني رجاء النقاش كتابه المرجع الفريد عن محفوظ سامحته وعدت إلي موقعي منه شغوفة أبدا لحلو حديثه وعذوبة نقده وتجليات تواريخه واجتمعنا معا علي حب محفوظ‏.‏
وتعكس لفظة المشروع عند رجاء النقاش مفهوم الإيجاز في رؤيته للزعماء‏,‏ فيري أن المشروع الناصري كان في أن تصبح مصر الصغيرة بلدا آخر قويا له تأثير محسوس علي المحيط الذي تعيش فيه‏,‏ ومشروع السادات كان في نظرته الواقعية التي تقوم علي رفض الأفكار السابقة والاعتراف بالحقائق الموجودة أمام العين‏,‏ وفي تلك النظرة يري النقاش جوانب إيجابية لأنها تقلل من تأثير الأوهام والخيالات والأحلام علي المواقف والقرارات‏,‏ ولكن السادات فيما بدا للنقاش قد بالغ في واقعيته وأضاف إليها لزوم ما لا يلزم‏..‏ أما عن الرئيس مبارك فلا يملك النقاش أن يقول عنه شيئا‏:‏ لأنني من المحبين له والمقدرين لجهوده كما أنني أثق في وطنيته وإنسانيته وأنا مدين له كثيرا فلولا رعايته لي بعد محنة مرضي منذ أكثر من عامين لكنت الآن في عداد الموتي منذ وقت طويل‏,‏ والحمد لله الذي قدر لي أن أكون موضع رعاية الرئيس مبارك وعنايته‏..‏
ويأتي مشروع رجاء النقاش نفسه بدخوله عش الدبابير حيث يطالب بالإصلاح الديني وتحرير القرآن من قيود منها انعدام وجود تفسير عصري سهل للقرآن‏,‏ ومنها الإصرار علي عدم كتابة مصحف بالخط العصري المعروف‏,‏ والإصرار علي أن تكون كل المصاحف مكتوبة بالخط القديم مما يشكل عقبة رئيسية أمام كل الأجيال الجديدة التي تريد أن تقرأ فتجد في كتابته عناء شديدا قد يصرفها عن القراءة‏,‏ ففي المصاحف الحالية نقرأ هذه الكلمات‏:‏ الصرط بدلا من الصراط والصلوة بدلا من الصلاة والزكوة بدلا من الزكاة وأبصرهم بدلا من أبصارهم وظلمت بدلا من ظلمات والسموات بدلا من السماوات وجنت بدلا من جنات‏…‏ الخ‏..‏ ويري رجاء أنه من واجبنا ولاشك أن نحتفظ بالمصحف القديم بخطه المعروف‏
فذلك أثر عزيز من آثارنا لا يجوز أن نهمل في المحافظة عليه‏,‏ ولكن يجب أن تكون لدينا الشجاعة الدينية الكافية لكي نطبع مصحفا خاليا من هذه الحروف التي تجعل قراءته صعبة إلا عند المتخصصين في قراءة القرآن‏,‏ وليس هناك أي نص ديني مقدس يحرمنا من هذه الخطوة بل إن روح الدين تتمثل في أن الدين يسر وليس عسرا‏,‏ وكل ما ييسر الدين بدون الخروج علي جوهر مبادئه أمر مطلوب‏..‏ ويمضي رجاء في قوله‏:‏ إنني استفدت من القراءة المتأنية للقرآن الكثير من المعرفة باللغة العربية‏,‏ لا من حيث الألفاظ فقط‏,‏ ولكن من حيث التذوق والتصوير الفني القادر علي التأثير الكبير في النفس‏,‏ وكنت شغوفا بحفظ القرآن الكريم في السن المبكرة‏
وقد ساعدني والدي المرحوم عبدالمؤمن النقاش علي ذلك لأنني كنت أجد صعوبة في قراءة أي سورة وحدي‏,‏ ولا أتصور أن هناك من يحب الثقافة ويريد أن يكسب لنفسه ذوقا رفيعا سليما يمكنه من أن يصل إلي شيء من ذلك دون أن يقرأ القرآن قراءة فهم واستيعاب من الناحية اللغوية والأدبية والأخلاقية‏,‏ أما الناحية الدينية فمن البديهي أنها واجب علي الجميع‏…‏ ولقد ساعدني علي تذوق القرآن أن جدي كان مقرئا للقرآن في القرية وكان صاحب صوت جميل‏..‏ النقاش صياد اللآلئ في بحور الفن والثقافة من كان بالنسبة للشعراء والأدباء الشبان المثقفين الواعدين بمثابة الحبل السري الذي يربطهم بالحياة الأدبية فيطلون من خلاله عليها وعلي آخر منجزاتها‏,‏ ومن خلاله يتصلون بالقارئ‏..‏ صاحب النصيب الكبير في تلميع وتثبيت أقدام كل الكبار المشهورين علي الساحة الأدبية في مصر والعالم العربي والسودان ويكفيه حفنة من لآلئه خطفت الأبصار فيها جاهين والطيب صالح وحجازي ومحمود درويش‏.‏
رجاء الشقيق الأكبر في الأسرة الريفية الكبيرة العدد ــ ثمانية ــ التي حاربت من أجل تعليم أبنائها ولاحقتها البلهارسيا لتخطف الأم في شرخ الشباب‏,‏ ورغم أميتها فإنها كانت تميز اسم رجاء ابنها في قصاصات الصحف والمجلات فتلملمها لتضعها في خبيئتها تحت الوسادة لتنثرها زهورا من حولها ساعة الصفا‏,‏ وحين ماتت اكتشف الأنجال أنه ليس بحوزتهم لقطة تعكس ملامحها لتبقي صورتها القدسية في مخيلتهم خالدة محفورة علي جدران القلب‏..‏ ويحوم الموت بسبب البلاء المستوطن في ريفنا المصري الذي يسدد خنجره للكبد ليخطف وحيد الموهوب الشقيق الأثير لدي رجاء وتوءم روحه وجرحه الغائر الذي لم يندمل أبدا‏..‏ وتعبر الشقيقة الكاتبة الناقدة فريدة النقاش رئيس تحرير الأهالي عن مسارات العائلة المستنيرة‏:‏ زرع بؤس الفلاحين فينا وفي رجاء علي نحو خاص خوفا طاغيا من المستقبل وكان قد تراكم في الأصل من تجربتنا القاسية كأسرة فقيرة كبيرة العدد حاربت من أجل تعليم أبنائها‏..‏
وحين افترقنا علي الطريق كان من أجل أن يؤسس كل منا حياة مستقلة فاخترت أنا أن أخوض في عالم السياسة‏,‏ واختار رجاء أن يتفرغ للأدب‏,‏ وغضب مني لا لأنه يري ألا جدوي من السياسة وإنما خوفا علي من البطش‏,‏ ولهذا اعترض علي زواجي من حسين عبدالرازق لأنه هايوديني في داهية‏..‏ وسرعان ما أصبحا صديقين‏….‏ طالعني بين أوراق النقاش ورقة صفراء نيتها صفراء تاريخها يعود إلي الخامس من سبتمبر عام‏71‏ سطورها ثلاثة لا غير‏:‏ تقرر نقل رجاء النقاش رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون إلي وظيفة أخري بعيدا عن أجهزة الإعلام حيث إن كبار المتآمرين في مؤامرة مايو كانوا قد وضعوهم في مواقع رئيسية ليقوموا بتنفيذ خطة التآمر‏..‏ سطور تهد الجبال لكن النقاش الجبل ظل شامخا‏..‏ حاملا سلاحه‏..‏ قلمه الشريف‏..‏ ليشد الرحال إلي قطر ليؤسس ولو علي الضفة الأخري رواسخ المعارف التي ارتفعت بينها راية مجلة الدوحة‏..‏
وفي جميع المحن فالنقاش محظوظ رفعت والدته يوما يديها للسماء ودعت له أن يرزقه ببنت الحلال الهادية النادية فمنحه الله خيرة الزوجات طبيبة الأطفال الدكتورة هانية عمر التي أنجبت له سميح المخرج التليفزيوني‏,‏ والابنة لميس‏.‏
النقاش الغواص في بطون التاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي المصري البعيد والقريب من يلومون عليه انصرافه الآن عن الواقع الثقافي والأدبي المصري الراهن الذي في أشد الحاجة إلي قلمه الصادق لفرز الغث من الثمين‏..‏ لكنه يا سادة الغوص المطلوب أيضا بإلحاح وبشدة لمهارة صاحبه في اصطياد أحداث لها دلالاتها‏..‏ إنه الشوق إلي الماضي الذي يطابق الحاضر‏..‏ العودة لتراث خفي عنا بفعل فاعل‏,‏ وبجهل إلقاء الكراكيب القديمة بدعوي شغلها للمكان الذي سوف تزف إليه العرائس الجديدة‏,‏ والشقة زحمة‏,‏ والمطرح ضيق واحنا أولاد النهاردة‏..‏ بالله عليكم من كان منا بدون رجاء يعرف كمثال أن أم كلثوم التي صاحبها رجاء في أكثر من جولة فنية في السودان وليبيا ونسج من لقاءاتهما الحوارات أنها كانت أول فتاة تمشي بين الرجال في الشارع تشيع جنازة رجل من تسعين عاما عندما قررت أن تمشي خلف نعش أستاذها الشيخ العظيم أبوالعلا محمد‏..‏
أو أن الإمام محمد عبده كان في منفاه بباريس يدخل الأوبرا الفرنسية بصحبة الأميرة نازلي فاضل وهو بالعمامة‏..‏ أو أن الشيخ طه حسين في فترة تعليمه بالأزهر لم يجد حرجا من دينه ولا أخلاقه في كتابة أغنية يقدمها للموسيقار كامل الخلعي لتغنيها منيرة المهدية وتسجلها شركة الفونوغراف في اسطوانة مكتوب عليها من كلمات الشيخ طه حسين وتقول عباراتها الرقيقة‏:‏
أنا لولاك كنت ملاك‏,‏ غير مسموح‏,‏ أهوي سواك‏..‏ سامحنيفي العشاق أنا مشتاق أبكي وأنوح بالأشواق‏.‏ صدقنيعهدك فين يا نورالعين بالمفتوح تهوي اتنين‏..‏ جاوبني
واحد بس‏,‏ يهوي القلب‏,‏ قلبي يبوح له بالحب‏..‏ طاوعنيأنا أهواك ومين قساك أنا مجروح وغايتي رضاك‏..‏ واصلنيما أحلاك وقت رضاك‏,‏ لما تلوح ما أبهاك‏..‏ كلمني
ويقطع النقاش الشك باليقين في أمر تقبيل طه حسين ليد الملك فاروق بنشره رسالة طه إلي رئيس تحرير روزاليوسف‏:‏ أنت لا تعلم أن فاروق أرسل إلي الرسل بالمغريات سنة خمس وأربعين‏(1945)‏ فلم يجد إلي إغرائي سبيلا‏,‏ وإنما رددت رسله ردا رفيقا كريما فيه كثير من ارتفاع عن الصغائر‏,‏ ولو شئت لبلغت من فاروق وسلطانه وماله وجاهه ما أردت‏,‏ ولكني لم أرد‏,‏ لأني رأيت الكرامة والوفاء والصدق في خدمة الوطن أغلي من المال والسلطان‏,‏ ولأن الشيء بالشيء يذكر فقد شهد شاهدان أمام محكمة الثورة بأني قمت مع غيري من الوزراء بتقبيل يد فاروق‏,‏ والله يشهد ما قبلت يد فاروق ولا يد أبيه ولا يد عمه السلطان حسين ولا يد ابن عمه عباس حلمي الثاني حين كان أميرا لمصر‏,‏ ولا يد ملك من الملوك الذين لقيتهم قط والله يشهد أنني ما قمت بتقبيل يد أحد من الناس إلا أن تكون يدي أبوي أو يد بعض شيوخنا في الأزهر رحمهم الله‏,‏ ولا أستثني من ذلك إلا يد سيدة أجنبية كانت ترفع يدها بشفتي إلصاقا‏
واضحك من ذلك إن شئت‏,‏ واعبث به إن أحببت‏,‏ فليس عليك في الضحك والعبث جناح‏..‏ ومن كان سيعلم إذا لم يخبرنا رجاء بأن الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت عندما قام بزيارة جامعة القاهرة الأهلية التي يرأسها الأمير أحمد فؤاد في عام‏1910‏ اعترض في خطابه علي وضع دستور للبلاد بحجة أن المصريين ليسوا أهلا بعد لأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وأن يحمدوا الله علي نعمة الاحتلال الإنجليزي وعليهم الانتظار سنوات طويلة حتي يمكنهم التفكير في حكم أنفسهم‏..‏ واشتعلت البلاد بالغضب وقاد محمد فريد مظاهرة الاحتجاج إلي فندق شبرد محل إقامة روزفلت مطالبين بسقوطه‏,‏ وانهالت عليه رسائل السخط ومنها رسالة بالفرنسية كتبها ثلاثة من المحامين المصريين جاء فيها‏:‏ إنك أردت مجاملة الإنجليز علي حساب المصريين ومن كان خليفة واشنطن العظيم يجدر به أن يقدر الحرية حق قدرها‏..‏ وسارع روزفلت بالهرب‏,‏ ولم تكن الطائرة قد ظهرت حتي ذلك التاريخ‏1910‏ فاستقل القطار من محطة مصر الثائرة لمحطة الإسكندرية الهادرة إلي الباخرة حيث لم تستغرق زيارته للبلاد سوي ثلاثة أيام مهرولة ليغادرها غير مأسوف عليه‏.‏
وعمره بالعمر الصديق الغالي رجاء النقاش لا أسمع منه إلا كل جميل ولا يهديني كتابا جديدا له إلا مكللا بمشاعره العطرة‏..‏ المرة الوحيدة التي لم نتفق فيها كانت عندما كتبت في الأهرام بتاريخ‏2007/5/19‏ مقالا حول عرابي المفتري والمفتري عليه‏..‏ لقد عاد الصديق من أجازته المرضية ليجد في بريده رسالة عتاب من أحد قرائه الأفاضل حول ما كتبته مدعما بالوثائق والمراجع الموجودة في دار الكتب المصرية والتي لم تخرج إلي النور من قبل‏
فقام رجاء بنشر الرسالة معقبا بأن عرابي قد تعرض لاتهامات ظالمة وملفقة وحرب لا هوادة فيها وحرمان من ممتلكاته حتي عاش في سنواته الأخيرة في عسر عظيم ويكفي الإشارة إلي واقعة مرضه بسرطان المثانة وما أدي إليه هذا المرض من وفاة الزعيم الكبير‏,‏ ولم يكن لدي أولاده من المال ما يكفي لتجهيزه ودفنه فاضطروا إلي عدم إعلان نبأ وفاته إلي اليوم التالي حتي قبضوا معاشه‏…‏ الخ‏…‏
ولم أكن أعلم بأنني عندما جسرت علي الكتابة عن عرابي قد تعديت خطوط النقاش الحمراء وأنني بدون قصد قد دخلت عش دبابيره‏,‏ وأنني عن جهل قد لمست وترا حساسا لديه لم يكن لدي علم به حتي قرأت سيرة رجاء النقاش الشخصية وقوله علي لسانه‏:‏ عملت في مجلة الإذاعة الأسبوعية مراجعا لكل المادة التي تنشر وكنت لم أزل طالبا في السنة الثانية بكلية الآداب‏,‏ وكان أول رئيس تحرير لها اسمه عبدالعزيز أحمد عرابي وهو النجل الأصغر للزعيم عرابي‏,‏ وسبحان الله كان عبدالعزيز صورة طبق الأصل من والده العظيم‏,‏ وكنت كلما رأيته أهب واقفا وأحيانا مذعورا لأني كنت أتخيل أن ما أعيشه ليس حقيقة وإنما هو وهم وخيال‏,‏ وكان الرجل يسعد لمعاملتي له وإن ظل مندهشا من شدة مبالغتي في إجلالي واحترامي له‏!!‏
رجاء النقاش‏..‏ الذي كان يتمني أن يكون أكاديميا مثل أساتذته‏..‏ ورغم رسالة الماجستير التي قدمها في سكة الدكتوراه تحت إشراف الدكتورة سهير القلماوي إلا أن الصحافة سرقته من الحلم الذي ظل منطويا عليه لا يفارقه‏..‏ من بني لنفسه في جدية وصرامة مكانته كناقد أدبي حيث يقول تعبت علي نفسي‏..‏ جميل الخلق والخلقة صاحب الموهبة الفذة التي أفنت عمرها بين فكي المطبعة‏.‏ أحد الذين عشقوا الكلمة وأخلصوا لها‏.‏ من انطلق من منتصف الخمسينيات يقدم القصة والرواية والديوان الشعري والمسرحية والعمل السينمائي والتليفزيوني محتفيا بالجاد والأصيل والجديد لا يفرق في اهتماماته بين مكتمل الأدوات مثل نجيب محفوظ أو شاب يخطو أولي خطوات المسيرة‏..‏
الناقد المبدع الذي جلس عشرات مئات آلاف الساعات يكتب لننهل منه وننتظر رأيه وتقييمه العادل الذي لا يجامل‏,‏ ولا يخلط الخاص بالعام‏,‏ ولا يتعالي علي القارئ بعبارات اللوغاريتمات ويكتب بأسلوبه السهل الممتنع الذي يظهر الإيجابيات من قبل السلبيات‏,‏ الذي يتقي الله فيما يكتب‏,‏ المثقف المتواضع البسيط دون إفراط أو تفريط‏..‏ النقاش الذي عاش واقع صحافتنا المحنة وليست المهنة‏..‏ صحافة لا تقوم علي تقاليد راسخة مهما قيل فيها وعنها من مواثيق وعهود ولوائح‏..‏ مهنة محنة ليست مثل غيرها من المهن‏,‏ فلا مكان للسن أو الخبرة‏,‏ وليس هناك من يفرض عليها أن تحقق الراحة والوقت لمن بذلوا فيها جهدا كبيرا وأضاعوا عمرهم عليها‏,‏ فأنت في الجامعة كمثال إذا ما وصلت إلي منصب الأستاذ لا يستطيع كائنا ما كان أن يعيدك فجأة إلي منصب المعيد أو إلي مدرج الطلبة أو لتقديم صينية القهوة لسيادة العميد‏,‏ ولكننا في صحافتنا لا نتهيب من شيء أو نضع في عيوننا حصوة ملح‏,‏
فأنت تصل إلي منصب مرموق ثم فجأة تجد روحك خاضعا لشلوت اطلع لي برة‏..‏ فجأة تعود إلي مقاعد صغار المحررين‏,‏ فلا مكتب لك‏,‏ ولا تحية لك ولا سيارة لك‏,‏ بل إنك بعد الجهد المرير والعمر الطويل في خدمة المحنة قد تجد صعوبة بالغة في نشر كلمتك والتعبير عن نفسك‏..‏ إنها مهنة بلا وفاء لأهلها خاصة من بعد سقوطهم في جب التعب‏..‏ وتظل كلمات رجاء النقاش شاهدة علي هذه المحنة المهنة‏..‏ كلمات قالها وهو لم يزل في الستينيات في وقت لم يكن يعرف فيه أن مشوار التعب لم يزل طويلا طويلا ليدركه فيه المرض ويجعلنا جميعا في لهفة عليها نبتهل إلي الله له بالشفاء والعافية ليظل يتعب علي نفسه‏:‏ صدقوني إذا قلت إنني أعمل في الصحافة الآن كما كنت أعمل عندما بدأت حياتي الصحفية وأنا طالب في الجامعة‏..‏ نفس الجهد‏..‏ نفس التعب‏..‏ نفس المعاناة‏.‏ أبدا لم تحفظ لي هذه المهنة قيمة الجهد الكبير الذي بذلته بحيث أجد من حقي أن أعمل بهدوء وبكمية أقل ونوعية أرقي‏..‏
وليس هذا حالي وحدي فهو حال الكثيرين غيري‏..‏ ألهث في ساحة العمل الصحفي كما يجري أي شاب صغير من أجل لقمة العيش‏!..‏ و‏..‏ حق قولك فينا يا رجاء فهي المحنة التي تأكلنا لحما وترمينا عظما‏!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق