الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

سليمان بك نجيب الجنتلمان..بقلم سناء البيسي


مرزوق أفندي إديله حاجة‏..‏ مرزوق أفندي ماتديلوش حاجة‏..‏ جملتان لهما نكهة التعالي والسيادة‏,‏ وتنازل الطبقة العليوي لمستوي الناس اللي تحت عند المنح أو المنع‏,‏ بطريقة غير مباشرة لا تهز المقامات ولا تتعدي الحدود ولا تساوي بين الرؤوس ولا تلوث الأيدي أو تنقل جراثيم العدوي‏,‏ وتضع كل حي في حجمه الطبيعي‏..‏ جملتان بالغتا الدلالة حفرتهما الموهبة الفذة في الأداء علي جدران تاريخ الحوار السينمائي المصري عندما وجههما سعادة الباشا سليمان نجيب ـ مرتديا الأوفرول والصندل والقميص الكاروهات والبرنيطة الخوص حاملا في يده سبت الفاكهة ـ لسكرتيره الخاص عبدالوارث عسر بالبدلة الردنجوت والطربوش في أبلغ مشهد للمفارقة الكوميدية في فيلم غزل البنات ليضيف بتعالي الجهلاء لكان وأخواتها شقيقة غير شرعية من عندياته‏..‏ ويثور سليمان ويهدأ في ثوان في الحياة علي الطبيعة وفي الشاشة علي مدي‏60‏ فيلما بداية من الوردة البيضاء عام‏1932‏ حتي أحلام الربيع عام‏1955‏ مرورا بدور جعفر بن يحيي البرمكي في دنانير والباشا في فاطمة والجد المرح في لهاليبو‏,‏ وصاحب اسطبل الخيول في ورد الغرام‏,‏ وضابط البوليس في قطار الليل وساقط البكوية في الآنسة حنفي‏..‏
وأبدا لا تشعر لحظة أنك أمام ممثل يؤدي دورا تمليه الأوراق‏,‏ وإنما هو من يملي علي أي دور طريقة أدائه ومنهجه الخاص ليكتسب صفات صاحبه‏:‏ الروح الثائرة‏,‏ والشخصية المنبسطة‏,‏ والقلب الأخضر الطيب‏,‏ والتفاؤل المشرق‏,‏ والعواطف الجياشة‏,‏ وخفة الروح والظل والدم والبديهة الحاضرة و‏..‏ الفن العظيم‏..‏ سواء أكان دور صاحب القصر الفخيم أو المعلم أبو لاسة الواقع في غرام رداحة الحارة زينات صدقي‏..‏ وفي الأوبرا المصرية لوحة كاريكاتيرية خالدة للفنان محمد حسن تمثل الجنتلمان مدير الدار مستقبلا علي الباب بنت البلد بملاءتها اللف منحنيا يقبل يدها كإحدي أميرات الأسرة المالكة‏..‏ الجنتلمان هو سليمان مصطفي نجيب‏..‏
سليمان بك نجيب‏..‏ أول فنان مصري يخلع عليه الملك فاروق لقب البكوية وإن ظل يشاكسه مستمتعا بهزاره الثقيل ليهرع سليمان إلي صديقه الحميم محمد حسنين باشا رئيس الديوان يلوذ بحماه‏,‏ وربما كان أشرس هزار ملكي يوم اندفع فاروق بسيارته الحمراء مسرعا تجاهه وسط فناء سراي عابدين‏,‏ فقفز سليمان بكل ما استطاع من قوة لينجو من صدام محقق كاد يودي بحياته‏,‏ وعندما استدار ناحية السيارة لمح فاروق المتهور مقهقها ساخرا من مظاهر الذعر البالغ التي بدت علي وجه الهارب من الموت‏..‏ ويلحق سليمان بثورة يوليو‏,‏ حيث أحيل إلي المعاش في نفس السنة‏1952,‏ فقامت حكومة الثورة تقديرا لخدماته بمد فترة خدمته مديرا لدار الأوبرا لمدة عامين‏,‏ وقبل نهاية السنة الأولي انبري أحد الكتاب ــ من أقرب الأصدقاء ــ موجها إليه أبشع اتهام ــ في تلك الأيام ــ بأنه كان من أشد المخلصين للعرش في العهد البائد‏,‏ ولذا لا يستحق من رجالات الثورة المباركة أية مراعاة أو تكريم‏..‏ وبلغ من تأثر سليمان بتلك الوقيعة تقديم استقالته في حفل حضره رجال الثورة‏,‏ وأصر علي الاستقالة‏,‏
وعاد إلي شقته في عمارة شويكار بشارع قصر العيني مضمرا الانتقام‏,‏ ليقضي أياما جمع فيها ما كتبه نفس ا لكاتب في مديح الفاروق وتقبيل الأعتاب الملكية‏,‏ إلا أنه في النهاية ألقي بجميع ما جمع في النار مرددا‏:‏ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء‏..‏ خرج سليمان من الأوبرا لتتخطفه عدة وظائف اختار منها أن يكون سكرتيرا لنادي الفرسان المصري الجوكي كلوب الوظيفة الخارجة من رحم السباق الذي عشقه ليعيش حياة الرهان‏..‏ يخسر فلا تهزمه خسارة‏,‏ ويكسب فيشرك الآخرين معه في مكسبه‏..‏
و‏..‏ قبل الاستقالة والمد وثورة يوليو ومغادرة المليك البلاد علي ظهر المحروسة بملابس البحرية‏..‏ قبلها‏..‏ جلس سليمان نجيب في‏21‏ يونيو عام‏48‏ يحصي الأيام والليالي الباقيات علي موعد إحالته علي المعاش من منصب مدير دار الأوبرا‏,‏ فوجدها أربعة أيام بالضبط أي في عام‏1952‏ عندما يبلغ الستين فهو من مواليد‏21‏ يونيو‏1892..‏ يومها استعرض تاريخ حياته كموظف حكومي منذ أن لامس جبينه للمرة الأولي تراب الميري‏:‏ في شهر يوليو‏1917‏ في مدينة قنا الساخنة كنا ثلاثة نمثل علي مسرحها‏:‏ عبدالرحمن رشدي ومحمد عبدالقدوس والعبد لله‏,‏ وحمل إلي ساعي البريد برقية تنعي عمتي‏,‏ وكانت والدتي قد سبقتها بشهرين فاختفي عنصر الأمومة من حياتي‏,‏ وسارعت لأشارك في العزاء لأتلقي منذ البداية أوامر الأهل بضرورة الدخول في السلك الدوار‏..‏ الحكومي‏..‏ وكان علي رأس القائمين علي أمري خالي العزيز أحمد زيوار باشا رئيس الوزراء ذواقة الفن المدرك بانجذاب الواقعين في هواه‏:‏ اسمع يا ابني أنا معاك إن التمثيل صناعة لذيذة وشريفة وأحبها‏..‏ لكن هل في مصر كثيرون مثلي يقولون ذلك؟‏!..‏ لا أظن‏..‏ لهذا أفضل لك العمل الحكومي‏..‏ويغدو سليمان أفندي سكرتيرا لوزير الأوقاف حسين درويش باشا ثم توفيق نسيم باشا الذي أعطاه الإنذار الوحيد في حياته الحكومية‏,‏ ويأتي من بعده مدحت يكن باشا في عهده كان نصيبي مرمطة يهون بجانبها ألف إنذار‏,‏ وليس هناك أفظع عما نزل علي أم راسي من أنه مسح بي وبكرامتي الأرض ولم أكن أنا المقصود‏,‏ فقد كان بين يكن باشا ووكيله فتحي زغلول باشا صراع دام‏,‏ وكنت أنا الملطشة للاثنين معا‏,‏ ولك أن تفهم ما ينال الوسيط وهدوم الوسيط‏..‏ ويسرد سليمان إحدي وقائع الخلاف بينه وبين زغلول باشا شخصيا عندما وقف أمام مكتبي مارد أسود ألقي في وجهي بورقة تظلم كبيرة‏.‏
اكتفيت بقراءة سطورها الأخيرة وبناء علي هذه الأسباب ألتمس صرف شيء من الأموال الخيرية ألقيت بالورقة لأقول له في سخرية‏:‏ بدلا يا أخي من مد إيدك لطلب إحسان روح اشتغل وانت زي الشحط‏,‏ ثم إن من يطلب الصدقة يطلبها بأدب‏..‏ ولم أكد أفرغ من جملتي حتي هاج المارد وماج واستطعت بصعوبة أن أتبين جملا عابرة من قذائفة تناول فيهاوالدي ووالد معالي الوزير ووالد الوزارة ووالد أكبر راس عاقدا بين الجميع وبين فصائل الحيوانات مقارنات بذيئة‏, ‏ فصعد الدم إلي رأسي وصرخت بكل قوتي‏:‏ بتشتمني يا قليل الأ‏!‏ وفوجئت بالمارد الأسود يصرخ صرخة مدوية يقفز بعدها فوق المكتب مسددا لموقعي حربته المدببة‏,‏ فكنت أسرع منه للغوص تحت المكتب‏,‏
وأتي السعاة للقبض عليه‏,‏ وبعدها جاءني أحد الحجاب يجري‏:‏ سعادة وكيل الوزارة عايزك حالا‏..‏ فأسرعت إليه‏,‏ وكان محمد زغلول باشا كابتن فريق مصر الأول وأعظم اللاعبين قبل عهد حجازي‏,‏ وكان رياضيا شديد السمرة إلي حد السواد‏,‏ وسألني‏:‏ إيه الضجة دي يا سليمان؟ وبدأت في فورة الحماس أروي له ما وقع‏:‏ حتة عبد تنتون‏..‏ وفجأة تجمدت العبارة علي لساني وأنا أتأمل وجه زغلول باشا الذي كان هو الآخر أسود اللون‏..‏ وطال صمتي لأول في حشرجة‏:‏ ما تأخذناش يا سعادة الباشا‏!‏
وكانت هذه أكبر غلطة اقترفتها في حياتي‏,‏ فقد ساد الصمت طويلا بعدها ليقطعه زغلول باشا متسائلا‏:‏ وعمل لك إيه العبد التنتون يا سي سليمان؟‏!..‏ وانتهي سليمان من روايته وإذا بزغلول باشا ينهض للمارد الأسود في الخارج يربت علي كتفه معتذرا ويدخل به علي الوزير ليخرجا وقد حصلا علي تأشيرة مائة جنيه من أموال الخيرات تصرف حالا ليناول التأشيرة لسليمان قائلا‏:‏ نفذ الإمضاء وفورا‏..‏ وظهر أن المارد الأسود هو نجل ملك كردفان لجأ إلي مصر أخيرا‏,‏ وذهب سليمان يشكو لخاله زيوار باشا الذي قال له‏:‏ كانت أكبر غلطة في حياتك‏..‏ لو أنك واصلت كلامك دون أن تلفت نظر زغلول باشا بقولك ماتأخذناش يا سعادة الباشا‏,‏ لمر كل شيء بسلام‏.‏
ومن النار للنار انتقل سليمان نجيب من الأوقاف ليعين نائبا لقنصل مصر في استانبول حداية باشا الذي يصفه بقوله‏:‏ رجل محافظ صلب حاد الطباع يجرح كل ما يمسه رغم أن التمثيل السياسي يحتاج إلي نفوس ناعمة وألسنة يتساقط منها العسل‏,‏ وقد منحه الله نعمة الغلط في بحبحة‏,‏ وتتدفق كلمات الرصاص من فمه كالسيل من عل‏,‏ ولقد مثلنا مصر في تركيا أو مثلنا بمصر علي وجه أصح عامين كاملين لأعود من منصبي بقرار فصل لأن دولة ثروت باشا وزير الخارجية الجديد في وزارة عدلي يكن باشا قام بعملية تنظيف‏,‏ وكنت أنا بين القاذورات التي أخرجتها مقشة الوزير الداهية الذي ألقي بي في ستين داهية‏..‏ وقد جاء في خطاب فصل سليمان من السلك الدبلوماسي في‏11‏ ديسمبر‏1936:‏ حضرة سليمان نجيب أفندي‏..‏ بما أنه تقرر فصلكم من خدمة الوزارة ابتداء من التاريخ المبين بهذا للأسباب الواضحة‏,‏
وعلي رأسها شهادة حداية باشا واستمرار علاقتكم بالفن وأهله فقد كتب هذا لحضرتكم إعلانا بذلك والمرجو تسليم ما بعهدتكم إلي من كلف بذلك‏..‏ وإذا ما كان العمل الدبلوماسي مع حداية كله أشواك فقد كان لسليمان الدبلوماسي فيه ذكريات ملساء منها لقاؤه بالرئيس أتاتورك في إحدي الحفلات ليبدي سروره بالق بعة التي ارتداها سليمان بدلا من الطربوش الذي ألغاه فعقب الدبلوماسي المصري بقوله‏:‏ إنني أعمل بالمثل القائل حينما تكون في روما أفعل ما يفعله الرومان فضحك أتاتورك واسترسل معه في الحديث ليسأله عن أصدقائه من المصريين وعلي رأسهم محمد الشريعي باشا والشاعر أحمد شوقي والمطربة صاحبة البحة الذهبية منيرة المهدية‏..‏ و‏..‏ يعود المفصول من استانبول ليتلقي نبأ تعيينه سكرتيرا لوزير الحقانية مع نزول درجته من الرابعة إلي السادسة ليعمل مع ثمانية وزراء علي الترتيب‏:‏ زكي أبوالسعود وأحمد خشبة والغرابلي وعبدالفتاح يحيي وعلي ماهر وأحمد علي ومحمود غالب وصبري أبوعلم‏,‏
وكان عهده معهم جميعا وفاقا وسلاما حتي إن أحد الصحفيين سأله عام‏1937‏ كيف وفق مع كل هؤلاء فكان جوابه‏:‏ اللي يجوز أمي أقول له يا عمي‏,‏ وأمي هي حجرة الوزير‏,‏ وعمي معالي الوزير‏,‏ وشخصيا لم أسمح للسياسة أن تتدخل في عملي ولا في حياتي‏,‏ ولم أهتف طول عمري إلا في عام‏1917‏ عندما كان الهتاف لمصر وحدها‏..‏ و‏..‏ من مكاتب الوزارة لدار الأوبرا‏.‏
سليمان بك نجيب‏..‏ مدير بروتوكولات فاروق الجالس علي العرش الذي جلس ذات ليلة في صدر مقصورته بالأوبرا التي شيدها جده الخديوي إسماعيل يحيطه طاقم الحاشية‏,‏ ليدور متجولا كعادته بالمنظار المكبر علي الألواج والبناوير يستعرض فاتناتها من ربيبات الحسن والحسب والنسب‏,‏ وقد يتلكأ عند إحداها ليسأل عن صاحبة الفراء المنك في البنوار البعيد‏,‏ أو صاحبة اليشمك في اللوج القريب‏,‏ فيرفع لأسماع جلالته الرد الفوري مدعما بكافة التفاصيل المتضمنة السن والسلالة ولون العينين والبشرة ونسب القوام والعنوان والحجر الكريم المفضل في قطع الإكسسوار‏,‏ وذلك تبعا لمقتضيات الأمور الملكية بأن السؤال الملكي يحمل في طيه دوافعه ودلالاته‏..‏ فإذا ما عقب المليك مؤمنا علي السرد الخفي بهزة من رأسه فذلك معناه دعوة عاجلة لاستضافة الحسناء لمشاهدة العرض في المقصورة المباركة مع انسحاب الحاشية للانضمام لطاقم الحراسة في الخارج تاركة مكانها هناك شاغرا بجوار الزوج أو الخطيب المكتوب عليه التصنم‏,‏ أي أن يغدو صنما متجها كلية إلي الأمام للمشاهدة فقط لا غير دونما ململة أو استراق النظر إلي مكان ذي مكانة آلت إليه حرمه المصون‏..‏
وقد يهبط الملك المفدي بمنظاره لأرض الصا لة لمسح مقاعد المتفرجين فربما‏..‏ وربما‏..‏ وكانت الطامة الكبري في ليلة عرض أوبرا لاترافياتا عندما نظر فرصد فغضب فأرسل في استدعاء سليمان المدير مناولا إياه المنظار المكبر‏,‏ مشيرا إلي المقعد الخامس من الصف الثالث في الصالة‏,‏ حيث خلع صاحبه الجاكتة ووضعها علي ساقية مكتفيا بالقميص الأبيض المضيء وسط ملابس السهرة السوداء ضاربا بذلك قواعد البروتوكول عرض الحائط‏:‏ سليمان انت شايف اللي أنا شايفه؟‏!‏
ولم يكن المليك في حاجة لأي استرسال ليهرول سليمان المكلوم للمتفرج المتهور الذي أتي أمرا إدا وذنبا لا يغتفر وخروجا عن القانون الأوبرالي ليهمس محذرا مؤنبا لائما راجيا مهددا يا ابني إلبس الجاكتة الله يرضي عليك وعلينا‏..‏ ولم يكن فاروق وحده من يراعي صرامة بروتوكول حضور عروض الأوبرا‏,‏ وإنما جميع أحداث القصر الملكي‏,‏ وكانت الأميرة فايزة تحجز دائما أحد البناوير في أيام معينة من الأسبوع وتدفع ثمن اشتراك الموسم كله‏,‏ وتحرص علي الحضور في المواعيد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق