الخميس، 20 أغسطس 2009

الباقوري إمام التيسير..بقلم سناء البيسي

ولا كل من لبس العمامة يزينها ولا كل من ركب الحصان خيال.. ولقد زان الشيخ الباقوري العمامة كواحد من الصفوة الذين أضفوا عليها عزتها وفخارها, وكان أحد فرسان منابر هذا الزمان منذ اعتلاه في شرخ الشباب بنغمة عصرية تقدم المزيج المنشود من عطر التراث ونسيم الحاضر في عذوبة لا تغيب حين يرتفع الصوت الرخيم هادرا غاضبا أو متهدجا متأثرا, أو خفيضا ذاهبا لجلال الصمت فيسكن الجمع الصاغي حتي لتكاد تسمع صوت الدم في العروق.. صوت يخاطب القلب والعقل معا, جامع للوداعة والسماحة والمصداقية, ينم عن نفس خيرة تقية ورعة تشي بإحساس جسيم بالمسئولية.. صوت ينفذ للأعماق في استرسال فذ متدفق بارتجال وكأنه يقرأ من ورقة أويستظهر شيئا حفظه عن ظهر قلب.. كان الخطيب البارع والثوري القائد والمناضل خريج المعتقلات..علي مدي خمسين عاما لم تشهد مصر داعية للإسلام جسد سماحة الدين وجسد قدرته علي التوافق مع مقتضيات العصر مثلما فعل الباقوري الأزهري الصرف الذي تدرج في سلك الأزهر من أول المعهد الديني في المدينة الإقليمية إلي شيوخ الأعمدة في ساحة الأزهر الشريف, يدرس العلوم الأزهرية بمنهج الفهم والاستيعاب لا التلقين والحفظ, مما أتاح له النظر بعمق في اللب دون القشور, والنفاذ إلي الجوهر دون التلكؤ عند المظهر.. ومن هنا اتسعت آفاقه باتساع معارفه لتصبح النصوص والمقولات القديمة مجرد خلفية تنير له طريق الفكر المستنير, أما المبادئ فقد باتت سلوكا إنسانيا يسعي نحو التكامل ما أمكنه ذلك, وأما النصوص المقدسة فإنها المصابيح الهادية, وفيما عدا ذلك فكل مقولة من بني البشر قابلة للبحث والتمحيص والرفض إن لم تكن واقعا قانونيا لا يقبل الزعزعة.. ولسوف نظل طويلا نحمد للشيخ الباقوري مواقفه المستنيرة من أمور كثيرة كانت محل خلاف وجدل, وإن عاد الجدل العقيم القديم يطل برأسه من جديد مع هجمة فتاوي الفضائيات التي تعيد النظر في الدخول بالقدم اليمني من قبل اليسري, ورضاعة الكبير, وبول الجمال..الثائر الشيخ صاحب الـ22 كتابا ــ كان آخرها بقايا ذكريات الذي أوصي بنشره من بعد وفاته ــ كان يهز الجمود الفكري برفق بنظرة تري أنك مادمت لا تقول شيئا يناقض كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم فليس لك أن تفرض التشدد لتحتاط, لأن الاحتياط يوقعك في الحرج ولأن يتدين الناس بتتبع الرخص خير من أن يشقوا علي أنفسهم وعلي الناس, فينصرفوا عن التدين جملة.. ويقول: هذه هي الحقيقة التي أدعو إليها أبنائي وبناتي وزملائي وزميلاتي وشيوخي رضي الله عنهم أجمعين.. الباقوري رجل الإسلام الذي يرفض لقب رجل الدين لأنها كلمة وافدة وليس لها إسناد في الإسلام, وكان شيخنا الجليل لا يتحدث بفتوي أو برأي إلا ويدعمه بالسند والدليل الشرعي من الكتاب والسنة واجتهادات علماء الأئمة, ثم إن الشيخ كان يجتهد بترجيح رأي علي رأي أو النظر في مدي مطابقة الحكم وقدرته علي التكيف مع الواقع, وكان يري أن محاولة جر المسلمين إلي الوراء1400 عام ليعيشوا واقعا غير واقعهم وحياة غير حياتهم نوع من التهريج والاستهانة بالإسلام الذي جاء ليهذب الناس في كل زمان ومكان لا ليكون عبئا عليهم, ومن هنا كان شيخنا يقول ما يعتقده, ويفتي بما ييسر علي الناس حياتهم كي يعيشوا الإسلام كنعمة أنعم الله بها عليهم.. ولقد كان يري أن التشدد لم يشق علي المسلمين فقط في مجال السلوك بل لقد وصل أيضا إلي فهم القرآن وتفسيره حيث يقولون إن كل شيء سبق القرآن إليه. حتي عندما وصل الإنسان إلي القمر قالوا إن ذلك جاء في القرآن أيضا. حتي الأوكسجين والهيدروجين والتنفس يقولون إن القرآن سبق إلي الحديث عنها, ويسمون هذا اجتهادا ولكنه ليس اجتهادا, فهناك فرق بين أن تجتهد بالتخمين وبين أن تجتهد علي أصول, فالقرآن كتاب الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه جاء لتهذيب الإنسان وتعليمه ما يحتاج إليه وينتفع به.. لكن إذا حاول البعض أن يعتبر القرآن مصدرا للعلم المعملي فهذا خطأ, وفي رأيي أن هذه الظاهرة ترجع إلي محاولة البعض إثبات أفضلية له وسبق في فهم خاص للقرآن.الباقوري من ولد بلا شهادة ميلاد في التاسع من مايو عام1907 في قرية باقور بمركز أبوتيج محافظة أسيوط في أسرة ترجع أصولها إلي المغرب العربي زمان لم تكن شهادة الميلاد دقيقة فمكتوب في شهادة ميلادي( أحمد حسن أحمد) وهي شهادة شقيق لي ولد قبلي بعامين ومات إثر حقنة التطعيم بالجدري فلما ولدت لم يشأ أهلي أن أعيد الكرة في التطعيم فقالوا تكفيه شهادة شقيقه, ومعني ذلك أنهم أكلوا علي سنتين, ولو كان في إمكاني أن أرفع قضية تعويض لكنت رفعتها, وعندما طلبت تصحيح اسمي بعدها وأنا طالب في قسم التخصص كي تصدر شهادتي المتخصصة في البلاغة والأدب باسم أحمد حسن الباقوري وأرسلت الطلب إلي مديرية أسيوط في عام1936.. والله الذي لا إله إلا هو.. ردت علي المديرية عام1955 وأنا وزير للأوقاف.. صاحب القلب الكبير الذي ضجت له قاعة جمعية الشبان المسيحيين في ذكري القمص سرجيوس ليصفق له آلاف المجتمعين.. ما لا ينسي له أقباط مصر عندما كان مديرا لجامعة الأزهر أنه دعا صديقا له من كبار رجال الدين المسيحي وهو الكاردينال كوان من النمسا لإلقاء محاضرة في قاعة الإمام محمد عبده بالجامعة, وكان الرجل يحمل علي يديه زيه الكهنوتي فاستأذن في ارتدائه فقال الباقوري بل تفعل ولا ترتديه وحدك بل أعينك علي ارتدائه بيدي هاتين فدهش الكاردينال معقبا أنت متسامح كريم فأجابه فضيلته: إني عندما أسمح لك بارتداء زيك الكهنوتي وأعينك علي ذلك فليس هذا مخالفا لما ترشدني إليه عقيدتي وإنما أنا أقتدي بالرسول الكريم الذي جاءه وفد من نصاري الحبشة فأكرم وفادتهم وأنزلهم في المسجد مكرمين وقام علي خدمتهم بنفسه ورفض أن ينوب عنه في ذلك إنسان آخر, وتذكر منابر جمعيات شبرا القبطية التي كانت حريصة علي أن يكون زينة حفلاتها ـ كما يقول القمص بولس باسيلي عضو مجلس الشعب السابق ـ أن الشعب كان يهرع إليها ليسمعوا الشيخ الباقوري وهو يردد معهم هتافهم: الشيخ والقسيس قسيسان وإن تشأ فقل هما شيخان.. وتعود هذه القيم إلي الجذور: كان بقريتنا باقور عدد كبير من الأقباط, وكان بيتنا في موقع المسيحيين, وتفتحت عيناي في طفولتي وصباي علي أن ننادي المسيحيين بـيا عمي, وأتذكر أن جدتي كانت لها صديقة عزيزة جدا اسمها دميانة وكنت أناديها بـستي دميانة لأنني تعودت أن أنادي جدتي بـستي عزيزة, وكانت ستي دميانة تحبني جدا وتخصني بأهمية ورعاية خاصة في طعامي وفي منامي.. وأذكر جيدا أنها كانت ـ في الشتاء- تضع قدمي الباردتين بين قدميها لتدفئتي.وتكسب ثورة يوليو بالباقوري أراضي شعبية شاسعة بلباقته وقوة حجته وغزارة علمه وارتباط هذا العلم بمجريات الحياة كجزء لا يتجزأ منها, فيغدو خطيب الثورة الذي أيدها وطاف مع قياداتها في محافظات الجمهورية يخطب: أيها الناس جاءكم من حملوا أرواحهم علي أكفهم لينقذوا شعب مصر من حكم الإنجليز وطغيان القصر وفساد الحكم وإرهاقكم بالضرائب, فجاءوا ليقولوا لكل واحد منكم ارفع رأسك يا أخي فقد مضي عهد الظلم والاستبداد.. ويسافر الباقوري مع عبدالناصر في عام1955 إلي اندونيسيا لحضور مؤتمر باندونج فتخصه الجماهير وحده بتحية خاصة يقبلون فيها طرف الكاكولة ويتهافتون علي لمسة من يد رجل الإسلام القادم من الأزهر الشريف, ويعلق عبدالناصر بقوله إنه لابد وأن المراقبين في الشرق والغرب قد رأوا حب المسلمين والتفافهم حولك حتي أصبحت في رأيهم زعيما يؤيدك الغرب ويتملقك الشرق, وإنشاء الله تنتفع بك الثورة عالميا كما انتفعت بك داخل مصر!! وبقدر ما أسعدت شيخنا الكلمات بقدر ما أزعجته فهو العالم العارف بأنها تستهدف معني بعيدا وغاية خطيرة, ومن يومها بدأ الباقوري يتعامل بحرص شديد وحذر بالغ.. وتأتي زيارته الطويلة للصين بأوامر من عبدالناصر ليلقي فيها الزعيم الصيني ماوتسي تونج الذي يخترق الصفوف ليتجه إليه لتحيته في مكانه سعيدا كما قال بقدومه ليتفقد بنفسه أحوال50 مليون مسلم صيني.. ويعود الباقوري ليجد المطار غاصا بالمستقبلين, ويصطحب في اليوم التالي أسرته إلي مسرح الريحاني فيلمحه سراج منير الذي يوقف العرض لتحيته باسم الجماهير رجلا غاب عنا مائة يوم في زيارة لمصر والمصريين, وفي اليوم التالي يفاجأ بعبدالناصر يقول له: إن رحلتك الطويلة جعلتك زعيما يصفق له المواطنون في مسرح الريحاني. فيرد الباقوري بفورية: إن تصفيق المواطنين ليس من أجل شخصي ولكن من أجل أنني أمثل ثورة مصر.. وتكثر الألغام بين عبدالناصر والباقوري ويشمر كتاب التقارير الأكمام عن سواعد الجد.. ويزعق الباقوري لم أعد أطيق في أجواء أصبح الوالد فيها يتجسس علي ابنه.وحتي مساء13 فبراير عام1959 كان الشيخ الباقوري ملء السمع والبصر في طول مصر وعرضها.. وفجأة اختفي الشيخ.. خرج من الوزارة وكان ذلك بمثابة حكم بالانسحاب من الحياة كلها.! أين الباقوري.. ماذا فعل شيخنا؟!.. ما هي جريمته؟! خطؤه غير المغتفر؟.. لا أحد يعلم.. الرجل فص ملح وذاب.. ولم يسمع الناس عن جريمة ارتكبها الباقوري فهو لم يسرق ولم ينهب ولا سعي للفساد في الأرض ولا تاجر بالدين ولا أفتي بغير ما أحل الله وحرم الله, وعاش فقيرا ميراثه عن جدة أبيه أم علي نخلة ورثتها بدورها عن أبيها, حيث كانوا يأتون له في وزارة الأوقاف بنصيبه منها بما يسمي المنقطة وتضم سبع بلحات نصيبه الشرعي في الإرث.. رصيده العلم والفضيلة, وتاريخه العمل الوطني في رحاب الأزهر وخارجه من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا, وفي رحاب الأزهر بدأ دوره في النضال الوطني. قاد المظاهرات وهتف بمصر حرة مستقلة وطالب بالجلاء والدستور, وعرف السجون والمعتقلات, وعندما قامت الثورة وتولي فيها منصب وزير الأوقاف كان ذلك نقطة خلافه مع جماعة الإخوان المسلمين ليتم استبعاده منها, وعلي مدي السنوات السبع الأولي من الثورة أخطر سنواتها عاشها الباقوري قريبا من جمال متحمسا وداعيا وخطيبا.. أين الرجل؟!!.. وكان طبيعيا أن تتكفل الشائعات بالرد علي كل التساؤلات.. وأثمرت الشائعات في نفس عبدالناصر فلم يحضر حفل عقد قران ليلي الابنة الكبري للشيخ الباقوري مما جعله يندم علي موقفه من عبدالناصر ودفاعه عنه من المحيط الهادي شرقا إلي الأطلسي غربا, ومن البحر الأبيض شمالا إلي المحيط الهندي جنوبا!ويمضي ربع قرن من الزمان ليتكلم الشيخ الذي آثر الصمت مخافة زائر الفجر.. ذات يوم اجتمعنا في الندوة في دار محمود شاكر, ورن جرس التليفون وإذا بالمتكلم يحيي حقي, وكان يشكو إليه أنه نقل إلي عمل لا يناسبه وكان سفيرا لمصر في ليبيا لأن زوجته غير مصرية, فقال له محمود شاكر في حماسة عمياء, وما حيلتي يا أخ يحيي في هؤلاءالعساكر الذين يحكمون البلد, وعلي رأسهم جمال عبدالناصر ابن الـ... وكانت كلمة مع الأسف تستوجب إقامة حد القذف لو كان القانون يأخذ بالتشريع الإسلامي.. ومما تكمل به صورة هذا الموقف الأليم, أن العمارة التي كان يسكنها محمود شاكر في الدور الثالث, كان الدور الأرضي فيها قد خلا من قاطنيه وسكنه أحد رجال المخابرات. ولست أدري إلي الآن أكان هذا بعلم, أو بالاتفاق مع الأستاذ محمود شاكر أم كانت مصادفة.. واستدعاه عبدالناصر مساء ذلك اليوم13 فبراير1959 وأسمعه التسجيل وسأله.. هل كنت حاضرا؟.. وقال الشيخ: نعم.. وكادت الأرض أن تميد من تحت قدميه.. ولم يدر ماذا يقول ولا كيف يوضح من أن المخابرات قد سجلت حديثا جري في حضوره ولم يكن طرفا فيه وكان المتحدث يسب عبدالناصر موجها حديثه لشخص آخر, وفي نهاية الحديث قال له: انت جبان وخايف من عبدالناصر.. والشيخ الباقوري جنبي أهه وسامع الكلام.. وكان الباقوري يصلي وقتها, ولما فرغ من الصلاة قال للمتحدث معاتبا: يا أخي ذلك عيب ولا يصح.. لكن خبراء التسجيلات توقفوا بها عند كلام المتحدث الذي كان يسب!وكان الشيخ يدرك الهول الذي ينتظره بمجرد خروجه من بيت عبدالناصر, ولذلك كان رجاؤه له أن يؤمن خروجه من بيته.. قال الشيخ: العدل الذي أرجوه منك وأعتقده فيك أن تخرجني من بيتك كما أدخلتني فيه! وأدرك عبدالناصر مغزي الرجاء فقال له: ربنا يسهل.. واتصل بمدير مكتبه وطلب منه أن يدخل سيارة الشيخ, وكانت قد أوقفت بمعزل بعيدا علي غير العادة.. وعاد الباقوري إلي بيته لم يبرحه طوال خمس سنوات وخمسة أشهر وخمسة أيام.. عاشها مع أسرته في توجس مما كان يجري أيامها من هجمة زوار الفجر!وأسمع من الابنة عزة الباقوري ــ من كانت تعمل في المجال الاقتصادي ــ عن والدها وأستزيد:أب جميل كل ما يقوله جميل.. أجواء عائلية لا تعرف التعصب شعارها ما رفعه الأب بأن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده.. مرح ضاحك أكثر ما يسعده التفاف بناته وأحفاده من حوله يوم الجمعة يلعب مع الصغار الكرة والشطرنج الذي يجيده ومع هذا يتركهم يفوزون عليه, وكان يحب الطاولة والقراءة والمشي, وكان سباحا ماهرا ويركب الخيل قبل إصابته.. يرفض اجتماع صنفين من الطعام علي المائدة قائلا هذا تبذير, ويطلب من أصغر الأحفاد تذوق ثمرة طلائع موسم الفاكهة قائلا هذه سنة رسولنا صلي الله عليه وسلم, وكان يحب الأكل الصعيدي واللحم داخل الخضار والبطاطس في الطاجن بالبصل والثوم, والحمام بالفريك, والعيش الشمسي الذي كانت ترسله والدته في الزوادة التي يفرح بها هاتفا: هاتوها كما هي فطبيخ أمي لا يحتاج إلي طباخ, وسعادته بالغة بالقرع العسلي ويشرب كوبا فقط من الشاي كل صباح, وقبل النوم كوبا من اليانسون, ولا يطمئن لأدوات مائدته إلا إذا غسلتها ماما أو إحدانا.. كانت هناك علي الدوام صورتان فوق مكتبه, الأولي له مع عبدالناصر يشعل له فيها سيجارته والأخري مع السادات يستقبله بالأحضان.. عندما عاد والدي من لقاء عبدالناصر الذي استقال فيه من الوزارة أرسل في طلب زوج شقيقتي ليلي الدبلوماسي محمد سعيد الدسوقي الذي كان قد عقد قرانه عليها منذ خمسة أيام فقط, وروي له ما حدث بينه وبين الرئيس ليحله من الارتباط بتمام حريته وتقديره لمصلحته بعدما لم يصبح حماه وزيرا, فرد عليه زوج شقيقتي باكيا: انت تعرف يا عمي أنني متمسك بليلي بنت الشيخ الباقوري مش بنت وزير الأوقاف, وقد عقدنا القران وأنا مقتنع بها.. عندما انسحب والدي من الدنيا جاءته الدنيا حتي حجرة نومه فقد كان الفقهاء والأدباء يزورونه ليتحاوروا معه فيقول لهم: من أراد أن يزورني فلن أزيد علي قال الله وقال الرسول, وكان يأتينا الشيخان سيد سابق ومحمد الغزالي يزورانه ويصليان معه.. في أول الثورة عندما أفاق عبدالناصر من آثار التخدير بعد إجراء عملية الزائدة له طلب رؤية الباقوري فذهب إليه في صحبة والدتي وكانت المرة الأولي التي يقدم فيها الرئيس زوجته السيدة تحية لتسلم علي أحد الرجال خارج نطاق عائلتها.. كان يقدر ويحترم الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين ويحرص علي متابعة عموده اليومي في الأهرام قائلا لشقيقتي الصغيرة يمني التي أطلق عليها لقب زميلة المحنة لأنني وليلي كنا نعيش في منزل الزوجية, كان يقول لها: اقرئي لي بهاء كاتب إيه النهاردة, وإلي جانب متابعته لكتابات الأستاذ أنيس منصور كانت بينهما مداعبات كثيرة منها عندما ذهبا في عام1955 ليصلي الباقوري في المسجد الأقصي بالقدس الشرقية, وبعد الصلاة لاحظ والدي أن الأستاذ أنيس يمشي حافي القدمين بعد أن ضاع حذاؤه وابتل جوربه فنظم فيه شعرا يقول:تـقـول رعــــاك الله إنك شــفته يمـاشي وفود العرب في القـــدس حــافياأنيس فتي مصر وزينة وفدها إلي القدس يمشي في ربي القدس ساعياوليس بصوفي وليس بزاهــد ولا كـــان في الوادي المــقــــدس ســـاعــياوتعد والدتي السيدة كوكب كريمة الشيخ عبداللطيف دراز مرجعا لفكر أبي وهي من كان يملي عليها خواطره وأفكاره فتكتبها بخطها البديع, وعندما أراد استرضاءها ارتدي البدلة بدلا من الكاكولة في يوم الصباحية ودعاها لمسرح الريحاني.. قام والدي بتعليم نفسه الإنجليزية حتي أصبح ينطقها بإجادة الإنجليز.. أذكر كلبنا الضخم نجرو الذي كان يتمسح بكاكولة الوالد لحظة إطلالته فيقوم بالربت علي ظهره ومسح رأسه والتنبيه علي العناية به, وبعد وفاة والدي قبع نجرو في مكانه مضربا عن الطعام لمدة أسبوع حتي نفق.. وبعد محنة الثلاث خمسات ارتفع رنين التليفون في بيتنا: معالي الوزير موجود؟ وترد والدتي: مين حضرتك؟! أنا محمد أحمد يا فندم.. ويأتي والدي: ازيك يا محمد.. فينهي إليه الخبر: عقد قران هدي كريمة الرئيس يوم الخميس ــ وكان الحديث يوم الثلاثاء ــ واحنا عايزين نعرف هل إذا دعاك الرئيس تحضر أم تعتذر, فقال والدي هدي ابنتي مثل عزة وليلي ويمني بالضبط.. وأتي الموتوسيكل حاملا دعوة الرئاسة ليتعطل طابور التحية طويلا من خلف والدي فقد كانا يتعانقان طويلا هو وعبدالناصر..الشيخ الباقوري كان يحب سماع صوت وردة في قصيدة لعبة الأيام وفايزة في يا أمه القمر ع الباب ومطربه المفضل عبدالوهاب في أغانيه القديمة في الليل لما خلي, وعندما سألناه عن رأيه في قارئة الفنجان قال: أنا شخصيا وقع لي شيءغريب, فزمان وأنا في أسيوط قرأت لي ولأصدقائي البخت في الفنجان إحدي السيدات وحدث ما قالته لنا بالأسماء ويجوز أن تكون هناك قوي أخري في الكون لا نحيط بها علما وبشكل عام الغيب لا يعلمه إلا علام الغيوب, وكانت من أحب المسرحيات إلي قلب أبي مسرحية السلطان الحائر التي قال عنها لو عرضت علينا كل يوم لن أشعر بالملل لأداء سميحة أيوب الرائع ونطقها السليم للحروف وصوتها المنغوم المؤثر طبقا للموقف في المسرحية.. ولن أنسي نجاة عندما طلب منها والدي إحياء حفل زفافي الذي أقامه لي في حديقة بيتنا.. تجمعنا بالكاتبة الصحفية القديرة نعم الباز صداقة قديمة ومتينة, وتعد مرجعا متفردا لذكريات وآراء والدي فقد كانت تسجل معه بالساعات ولها كتابها القيم عنه وعنوانه ثائر تحت العمامة.. كان السبب الحقيقي وراء مرض أبي بعدما عاد للعمل مديرا لجامعة الأزهر وذهب لاستقبال الرئيس في المطاروبينما يقف ضمن المستقبلين اقترب منه أحد بطانة السوء ليقول له: ده مش مكانك ده كان زمان يا شيخ! وكأن الكلمة طعنة غادرة أصابت أبي في الصميم ليسقط مكانه في المطار مصابا بجلطة في المخ ترتب عليها شلل أصاب نصفه الأيسر ليحمل إلي مستشفي هليوبوليس, ويومها كنت في استقبال عبدالناصر عند قدومه لزيارته لأقول له الخير علي قدوم الواردين يصحبه عبدالحكيم عامر الذي قال له انت مسئول عن صحة الباقوري, واقترح الدكتور البنهاوي إزالة الجلطة بالجراحة ورفضت الوالدة وسافرنا إلي لندن ويعترض الدكتور مايكل كريمر أستاذ المخ بجامعة لندن علي الجراحة بقوله إن المخBoxofJewelery واقترح تذويب الجلطة بالعلاج لنمكث سبعة أشهر هناك, حيث كانت شقتنا الصغيرة مزارا لا ينقطع وفيها قام أشهر راقص باليه انجليزي بإشهار إسلامه علي يدي أبي بعد أن رأي نفسه يقود ناقة الرسول صلي الله عليه وسلم في المنام وسمي نفسه رشيد الأنصاري.. وعلي أرض المطار عند عودتنا استقبلنا بموكب كبير يرتدي الزي الكهنوتي أرسله البابا كرولس للتهنئة, ونزلنا في استراحة الرئيس في القناطر الخيريةحيث دعت أم كلثوم نفسها علي الغداء علي أكلة كشك وحضرت في صحبة كل من الأساتذة أحمد عبدالله طعيمة والطحاوي وزوجها الدكتور الحفناوي, والجدير بالذكر أن أبي كان من اقترح عليها غناء قصيدة أبي فراس الحمداني: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوي نهي عليك ولا أمر, وجلست أم كلثوم تحكي ظروفها مع النكسة التي حدثت والوالد في الإنعاش بلندن فقالت: تصور يا شيخ أنهم قالوا لي لازم تعملي غنوة تقول حننتصر وحغني في الليل في تل أبيب, وصدقتهم وعملتها وكل ما أسأل: حنذيع امتي يقولوا لي استني شوية.. استني شوية.. ولما بلغني ما جري سألتهم أمال كان فين القاهر والظافر؟! قالوا لي استخدمناهم لكنهم ضربوا في ولادنا, ووسط انهماك أم كلثوم في الحديث أطاحت أصابعها بطبق ماء غسيل الأصابع فأغرق المفرش,وبعد الغداء استأذن والدي ليرتاح قليلا فاقترحت أم كلثوم أن نلعب مع الأحفاد أيمن ويمني الكوتشينة لغاية ما يصحي, وأفخر أنني كنت الوحيدة مع أولادي التي لعبت مع ثومة لعبة صلح.. وبعدما عاد الباقوري للعمل رجاه صديق الأسرة يوسف الرويني أن يجد حلا في مشكلة جمال ابن عبدالحكيم عامر الذي لم يحصل علي مجموع يؤهله لدخول الجامعة فما كان من أبي وهو مدير لجامعة الأزهر إلا أن كتب علي الطلب يقبل علي مسئوليتي الخاصة وبعدها اتصل بمحمد أحمد سكرتير الرئيس ليبلغه الأمر, ولم تمض سوي خمس دقائق إلا وأتت المكالمة الهامة: متشكر فقد رفعت الحرج عني... ويمرض والدي من جديد بالكبد ونسافر إلي لندن من جديد وهناك في يوم الرحيل26 أغسطس1985 ظل لمدة الأربع وعشرين ساعة الأخيرة لا يلفظ سوي.. يا الله.. يا رحمن..يرحل المؤمن أحمد حسن الباقوري بعدما ألمت به محنة تحولت بإرادة الله سبحانه وتعالي إلي منحة للشيخ الداعية الفقيه المظلوم وكأني به يتمثل قول شيخ الإسلام ابن تيمية: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري, إن رحت فهي معي لا تفارقني, إن حبسي خلوة, وقتلي شهادة, وإخراجي من بلدي سياحة.. فالمحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالي, والمأسور من أسره هواه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق