الأربعاء، 19 أغسطس 2009

محمد نجيب‏..‏ المنسي..بقلم سناء البيسي

في وقتها ووقته كان الأستاذ محمد حسنين هيكل يستقبل في مبني الأهرام الجديد بشارع الجلاء ضيوفه من ملوك ورؤساء وزعماء يتجول بهم بين طوابق وردهات ومكاتب المبني يشهدهم فخورا بمدي ما وصلت إليه صحافة مصر من رقي في المكانة والمكان‏..‏ ولم أزل أذكر دخلته علي في مكتبي وفي ضيافته الرئيس الراحل جمال عبدالناصر‏,‏ ومن بعدها الزعيم معمر القذافي‏,‏ وفي اليوم الذي خرجت فيه من مكتبي صدفة لقيته في الممر وكان في صحبته شاب ظننته شقيقه الصغير فقدمنا لبعضنا باقتضاب هيكلي يراقب معه بحب استطلاع شغوف مدي ردة فعل المفاجأة علي شخصي الضعيف‏..‏ ذكر له اسمي ليشير علي الناحية الأخري في تقديمه‏:‏ الملك حسين‏!!‏ ودارت الأيام ووجدته أمامي‏..‏ محمد نجيب رئيس الجمهورية الأسبق‏..‏ يسير وحيدا في نفس الممر بخطوات زاحفة لشيخوخة هدها المرض والأسي‏,‏ فهرعنا إليه معا أنا والزميلة شويكار علي ندعوه لمكتبنا لاحتساء القهوة علي طريقة عزومة المراكبية‏,‏ وفوجئنا به يطاوعنا وكأنها محطة استراحة بعد جهد مشوار التف فيه حول حوائط الدور الرابع في طريقه للخروج بعدما قام بتسليم مقال له لمكتب رئيس التحرير‏,‏ وفي دردشة الدقائق وسط عبارات المجاملة التقليدية أطلعنا الرجل الودود أنه عمل مثلنا صحفيا وكان ذلك في جريدة اللواء التي أنشأها الحزب الوطني في أواخر عام‏1920,‏ وأنه التحق بجريدة السياسة التي كان يصدرها حزب الأحرار الدستوريين‏,‏ وكثيرا ما كتب في مجلة الجيش منذ عام‏1937..‏ وقام متساندا ليتلاقي عزمنا معا أنا وهي علي اصطحابه داخل الأسانسير للدور الأول تأثرا وتبجيلا لرجل كان يوما رئيسا لجمهوريتنا‏,‏ جاء السادات ليرفع عنه أخيرا قيود الحراسة‏..‏ اللواء محمد نجيب الذي كان يرفض في كتابة إهداء كتبه عبارة الرئيس الأسبق‏..‏ القائد الذي قال عنه عبدالناصر أثناء زيارته لقرية بني مر مسقط رأس ناصر‏:‏ باسم هذا الإقليم أرحب بك من كل قلبي وأعلن باسم الفلاحين أننا آمنا بك‏,‏ فقد حررتنا من الفزع والخوف وآمنا بك مصلحا لمصر ونذيرا لأعدائها‏,‏ ووضعه البكباشي أنور السادت علي رأس أعظم عشرة رجال في العالم في استفتاء أجرته مجلة المصور العدد‏(491)‏ الصادر في‏8‏ مايو‏1953‏ أي أن نجيب وهو رئيس مجلس قيادة الثورة كان في نظر السادات أعظم رجل في العالم‏,‏ وقال عنه عبدالحكيم عامر لجمال عبدالناصر‏:‏ لقد عثرت علي جوهرة وكان يعني بذلك اللواء محمد نجيب لأنه رأي فيه النموذج الأمثل لقيادة حركة الضباط لشعبيته في صفوف الضباط والجنود وصفاته الوطنية وتأييده لرغبة الضباط الأحرار في التغيير وإنقاذ البلاد من مساوئ فساد الحكم‏..‏ و‏..‏ اعتبرته جريدة التايمز اللندنية رجل العام لسنة‏1952..‏ وكتب عنه مصطفي أمين‏:‏ وقفت مع جمال عبدالناصر ضد محمد نجيب فقد كان من رأيي أن ناصر أصلح للقيادة من نجيب‏,‏ ولم تتأثر صداقتي لنجيب بسبب هذا الموقف‏,‏ فقد كان الرجل طيب القلب لا يحقد ولا يكره ولا ينتقم‏,‏ وزارني عدة مرات في مكتبي بأخبار اليوم بعد خروجي من السجن‏,‏ وفي أول مرة أوصلته لباب سيارته‏,‏ وفي المرات التالية كان يقسم بألا أودعه إلا علي باب المصعد‏.‏
محمد نجيب يوسف عباس القشلان من ترجع جذوره إلي قرية النحارية في الوجه البحري التي تبعد عن كفر الزيات بنحو‏9‏ كيلومترات ويسكنها نحو‏15‏ ألف نسمة التي دأب علي زيارتها والاطمئنان علي أهله فيها بعد قيام الثورة وتوليه رئاسة الجمهورية‏,‏ ورغم عدد المدارس الابتدائية والإعدادية والمعاهد الأزهرية والجمعيات في قرية أول رئيس للجمهورية فلا طريق بدروبها قد رصف ولا إشارة عنه فيها يأتي ذكرها اللهم إلا شارعا أطلق عليه اسم محمد نجيب لا يعرف المارة فيه من هو هذا النجيب‏,‏ وأتي زلزال‏92‏ ليكمل طمس الأثر بمحو بيت الأسرة من الوجود‏…‏ محمد نجيب الذي اكتشف أن مولده في‏7‏ يوليو‏1902‏ وهو تاريخ توصل إليه بمجهوده الخاص بعدما عرف تاريخ ميلاد أحد أقاربه الذي سبقه في الميلاد بأربعين يوما بالضبط كما ذكرت له نساء الأسرة مؤرخات الأيام والسنين بما يجري فيها من أحداث‏..‏ قرية النحارية مسقط رأس والده يوسف النجيب الذي شارك في الثالثة عشرة في إحدي مباريات كرة القدم بمدرسة الصنايع ليقع في هجمة علي الأرض وتنكسر ذراعه إلا أنه قام ليكمل المباراة ويفوز فريقه‏,‏ ويشاهده صدفة كيتشنر الحاكم العام العسكري الإنجليزي فيلحقه معجبا بالمدرسة الحربية لينضم بعد تخرجه إلي الكتيبة‏17‏ مشاة في حملة دنقلة الكبري مشتركا في معارك استرجاع السودان ليتزوج من السيدة زهرة محمد عثمان ابنة الضابط المصري الذي استشهد في إحدي المعارك ضد الثورة المهدية وأنجب منها ثلاثة أبناء‏:‏ محمد نجيب واللواء علي نجيب والطبيب البيطري محمود نجيب وست بنات‏:‏ دولت وزكية وسنية وحميدة ونعمت ونجيبة‏..‏ في السودان عشت طفولتي وصباي وكان بيتنا المتواضع بالقرب من الجامع العتيق في الخرطوم مكونا من أربع حجرات وأصبح فيما بعد ناديا للموظفين المصريين‏..‏ وجاءت صدمة وفاة الوالد ومحمد لم يبلغ الثالثة عشرة بعد وكان طالبا بكلية غوردن التي عاني فيها من جبروت المدرسين الإنجليز‏,‏ ومن ذلك ما كان يمليه عليهم مدرس اللغة الإنجليزية في قوله‏:‏ إن مصر يحكمها البريطانيون فصرخ الطالب نجيب عفوا مصر تحتلها بريطانيا فقط لكنها مستقلة داخليا وتابعة لتركيا فقرر المدرس معاقبة الطالب المصري بالجلد بالسوط علي ظهره عاريا للذهاب بعيدا للعمل براتب‏3‏ جنيهات كموظف متواضع‏,‏ ويقرر دخول المدرسة الحربية وكان خائفا من قصر قامته سنتيمترا واحدا عن المطلوب‏,‏ لكنه خاض التجربة مرتحلا من الخرطوم للقاهرة بعدما ادخر مبلغ‏9‏ جنيهات ترك منها لأمه‏6‏ جنيهات مصروفا للبيت واحتفظ بالثلاث الباقيات‏,‏ وتخفي في الجلباب السوداني ليتسني له ركوب القطار بالتخفيض‏..‏ ومثل هذا التخفي كان بعد تخرجه في الكلية الحربية عام‏1912‏ وزواجه للمرة الأولي وحصوله علي ليسانس الحقوق عام‏1927‏ وهو نفس العام الذي أصدر فيه الملك فؤاد قراره بحل البرلمان لأن أغلبية أعضائه من حزب الوفد‏..‏ تخفي محمد نجيب ثانية في الملابس السودانية في زي خادم سوداني وقفز فوق سطح منزل النحاس باشا ليعرض عليه في حضور مكرم عبيد ومحمود فهمي النقراشي تدخل الجيش لإجبار الملك علي احترام رأي الشعب‏,‏ لكن النحاس رفض بشدة مطالبا بابتعاد الجيش عن الحياة السياسية وضرورة ترك هذا الأمر للأحزاب‏,‏ وكان درسا مهما لمحمد نجيب حول ضرورة فصل السلطات واحترام الحياة النيابية الديمقراطية‏,‏ الدرس الذي أراد تطبيقه في عام‏1954‏ لكن الأمور جرت بما لا تشتهي السفن ولا ما كان يأمله‏,‏ فقد كان هناك رجل آخر يخرج من الظل الذي ارتاده في البداية لحاجة في نفسه‏..‏ جمال عبدالناصر‏..‏ وبعد أن أعلن مجلس قيادة الثورة تعيين محمد نجيب رئيسا للجمهورية في‏18‏ يوليو‏1953‏ قام بتقديم استقالته في‏25‏ فبراير‏1954,‏ وبعدها بيوم أعيد للرئاسة ثم أعيد انتخابه في‏8‏ مارس‏1954,‏ وفجأة في‏14‏ نوفمبر‏1954‏ أعفي من منصبه وتم إيداعه معتقلا في المرج في فيلا زينب الوكيل علي بعد‏20‏ كيلو من القاهرة‏..‏
معتقل المرج الذي عاش فيه محمد نجيب ما يقرب من ثلاثين عاما كان قبل وصوله قد زرع في خطة مسبقة بعشرين نقطة حراسة حول الأسوار وفوق الأسطح وفي المداخل ليتحول إلي ثكنة عسكرية مسلحة بالمدافع والقنابل والمعدات تحسبا لمعركة حربية شرسة‏..‏ ما أن دخله المساق إلي المجهول حتي جلس يلتقط أنفاسه علي أقرب مقعد في الحديقة وامتدت يده إلي جيبه ليشعل البايب متأملا فيما جري وما سوف يجري وما يقوم به ما يقرب من‏200‏ من الضباط والجنود من نهب الأشجار والثمار والأثاث واللوحات وأحواض الحمامات والثلاجات وحلل الطعام‏,‏ وحتي رخام الدرجات وخشب الأرضيات تم نزعه‏..‏ وعندما لحقت به الزوجة كانت تحمل معها حقيبة واحدة وفي صحبتها ثلاثة أبناء والشغالة‏..‏ وباتت الأسرة علي لحم بطنها حتي ظهر اليوم التالي فلم يسمح بشراء طعام من الخارج لعدم تلقي الأوامر بذلك‏,‏ وعندما صدرت الأوامر أحضر لهم الجنود عامودا به قليل من السبانخ وقطعتين من اللحم وكبشة أرز مما تعافه النفس‏..‏ وواست الزوجة زوجها‏:‏ عوضنا علي الله واعتبره كأن حريقا قد شب في بيتنا والتهم كل شيء‏..‏ الدور الأرضي من الفيللا التي صارت خواء تحول مع سنوات الاعتقال إلي مخزن كبير يضم مئات الكتب التي جمعها وقرأها صاحبها في جميع معارف ولغات الأرض‏..‏ في الأدب والطب واللغات والتاريخ واليوجا والفلك والاقتصاد بلغات خمس أجادها محمد نجيب‏:‏ الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والعبرية‏..‏ تعانقت المعارف مع الأوراق والخطابات والشهادات التي تثبت حصوله علي دبلومات عديدة منها دبلوم الدراسات في الاقتصاد السياسي للحصول علي الدكتوراه وشهادة أركان حرب ودبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص ووثيقتين تثبتان حصوله مرتين علي نجمة فؤاد الأول تقديرا لبسالته وشجاعته وتفوقه في فنون الحرب والقتال بعدما جرح خمس مرات في معارك فلسطين وإصابته برصاصة اخترقت صدره أسفل القلب لتنفذ من الظهر ليتكبد العدو الإسرائيلي في مقابلها‏450‏ قتيلا وذلك في معركة التبة في دير البلح في‏23‏ ديسمبر‏1948,‏ وشهادة منحة رتبة الفريق من فاروق المليك التي رفضها نجيب معتزا برتبة اللواء‏..‏ تاريخ رجل من رجالات مصر القلائل عاشت أوراقه وكتبه في المخزن الكبير مع الفئران والثعابين والتراب وإن خلت من كتابه الأول المجهول الذي كتبه بالإنجليزية فتمت مصادرته من أعضاء مجلس الثورة وحرقت جميع النسخ والأصول والمسودات‏.‏
الدور الأول من الفيللا المظلومة التي انتزعت من صاحبتها لتضم بين جدرانها مظلوما ممن أحسن الظن بهم‏,‏ كانت الصالة الضخمة فيه قد غدت شاغرة إلا من ترابيزة سفرة عتيقة هجرتها مقاعدها تؤدي إلي حجرة متواضعة لفتحية الشغالة‏,‏ وإلي بلكونة بها عشة فراخ وتمثال برونز لسعد زغلول‏,‏ وتؤدي الصالة أيضا لحجرة نوم ومعيشة وعالم رئيس الجمهورية السابق وتضم سريرا قديما كان بمثابة مخدع لجسده ومكتبة لكتبه وشماعة لعصا من البوص اللين كان يعاقد بها قططه وكلابه‏,‏ وبجوار السرير منضدة مشعثة بما يعلوها من مجموعات البايب برمادها المتساقط علي الأوراق وعلب الأدوية والمفرش المشمع الفقير‏,‏ وعلي طول الذراع ثلاجة قزمة بابها في متناول اليد بالقرب منها كنبة بقر بطنها وظهرت يايات تنجيدها ينام عليها الكلاب إذا ما زهدوا في شمس الحديقة العارية‏,‏ وفي الركن صناديق من الكرتون متساندة لم يعد هناك قوة ولا ذهن للتقليب في محتوياتها‏,‏ وفوق الجدار صورة لصابر الدهر أيوب القرن العشرين بالملابس والرتب العسكرية وآيات من القرآن الكريم وأحاديث للرسول صلي الله عليه وسلم وحكم لعلي بن أبي طالب تدور حول معني أن النفع بيد الله‏,‏ والضرر بيد الله‏,‏ لا بيد البشر ولو اجتمعت الأمة علي ذلك‏..‏ وفي الركن القصي دراجة متساندة علي الجدار لم توافق الحراسة له علي استخدامها فقرر أن تبقي رمزا أمام عينيه وعيني كل من يزوره كمشروع لحرية أقدامه تم بتره‏.‏
في هذا المناخ المعتم أقامت الزوجة الثانية عائشة لبيب أم الأولاد فاروق وعلي ويوسف ــ الأولي كانت السيدة زينب التي أنجبت سميحة الابنة المتوفية في عام‏1950‏ بعد حصولها علي ليسانس الحقوق بمرض اللوكيميا ــ التي كانت مفرطة في البدانة حتي أنها بمضي الخمول السائد لم تعد تستطيع الانتقال وحدها من السرير للكنبة‏,‏ بل وبعدها لم يعد في مقدورها تغيير وضعها علي السرير لتنام علي الجانب الآخر إلا بمساعدة نجيب والشغالة‏..‏ وتم حشر السيدة في الأسانسير والسيارة لقضاء فترة العلاج في مركز التأهيل بالعجوزة‏,‏ حيث عادت تمشي علي قدمين تحتملان بالكاد سطوة ثقل البدن‏..‏ أما الزوجة الثالثة نفيسة ابنة الخال فكانت تقطن بشقتها بجاردن سيتي في العمارة المواجهة للسفارة البريطانية‏..‏ سيدة وقور تقارب زوجها في العمر‏.‏ قليلة الكلام‏.‏ مقتضبة الرد‏..‏ دلالهما معا يعكس مشاعر عتيقة أيام ما كانا صغيرين‏.‏ تناديه ياخويا وساعات تقول له يا نجيب‏,‏ ولما يرتفع مؤشر العواطف يبقي لكلامها مذاقا خاصا يهبط علي رأس صاحبنا دشا من الإحباط والنبي يا نجيب لسه حواجبك سودة ولو صبغت شعرك زيها يفتكروك أصغر بعشرين سنة فيرد مداعبا بما يقطع علي ذكاء ودهاء الأنثي الطريق‏:‏ أنا ناوي أعملها يا نفيسة لما بإذن الله أتجوز المرة الجاية‏,‏ وجاءت الرابعة عزيزة محمد طه الشريف ساكنة ميدان تريانف في مصر الجديدة فكانت ملجأ وملاذا وواحة خضراء في صهد أيام نجيب المعتقل في صحراء المرج بعيدا عن الخضرة‏..‏ قبل ميدان الكربة بمصر الجديدة يهدئ سائق عربة الحراسة بسجينها من سرعاتها لتتوقف تماما أمام البقال الخواجا الذي ما أن يشاهدها إلا وكأنه قد ضبط ساعته عليها فيقبل حاملا كيس البقالة المترع باللفائف والزجاجات‏:‏ أهلا وسهلا يا ريس نجيب‏..‏ وينزل الثلاثة من السيارة نجيب والرقيب والحارس الخاص الجديد الذي لم يكن يعرف حدود مهامه بعد في أن يمكث في الأسفل مع الرقيب علي دكة البواب حتي ينتهي نجيب الزوج المشتاق من زيارة الزوجة الشابة‏..‏ ويروي العقيد باسم القاضي الذي كان منوطا لأول مرة بحراسته الشخصية أنه مع كل طلعة لدرجة في السلم الطويل كان نجيب يستدير للخلف فيجده في ذيله فيستسلم للدرجة التالية‏,‏ ويلتفت ويستاء ويهز رأسه تأففا‏,‏ وعند الباب بعدما لم يجد فلفصة من المطاردة دق الجرس ففتحت الشراعة شابة انكمشت إطلالتها الضاحكة عندما نظرت لما وراء رأس الحبيب فأغلقت الشراعة لتغيب لحظات عادت بعدها لتفتح الباب مرتدية روبا ساترا لتهرول للداخل وقد سها عليها حتي الترحيب بالموعود باللقاء‏..‏ وقادني نجيب إلي غرفة الصالون ليجلسني وانصرف ليعود ثانية وبيده زجاجة كوكا فتحها داخل كفه ليناولها لي مع كوم من الصحف والمجلات صفها علي الترابيزة أمامي وغادرني بلا ابتسام‏..‏ ومضت أكثر من نصف ساعة‏..‏ ساعة‏..‏ النصف بعد الساعة‏.‏ قرأت فيها كل كلمة وكل سطر وعنوان وأعمدة الوفيات والمشاركة وبرامج الإذاعة والأخبار البايتة‏..‏ أقرأ وأحرج‏.‏ أقرأ ويزداد حرجي‏..‏ أقرأ وأنكمش في مقعدي من شدة حرج موقفي وسخف انتظاري‏..‏ وأخيرا دخل الرجل بالبيجاما وفوقها روب قصير ورأسه مندي بالماء‏,‏ وكي يخفف من وطأة الموقف الثقيل أشعل البايب وفتح بابا للدردشة ثم قام يستعد للعودة معي إلي المعتقل‏..‏ لقد كان رجال حرس نجيب يرتدون ملابسهم المدنية أثناء ملازمتهم له في الأيام الثلاثة التي سمح له فيها بالخروج كل أسبوع‏..‏ السبت والاثنين والأربعاء‏..‏ أما الخميس فالتوجه بالملابس العسكرية إلي مكتب شمس بدران في القيادة لتقديم التقرير الأسبوعي عن تحركات نجيب ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة‏..‏ يوم السبت لميدان تريانف‏..‏ ويومي الاثنين والأربعاء لزيارة أحد الأشقاء أو الأصدقاء المصدق عليهم من قبل القيادة أو لزيارة زوجة جاردن سيتي‏,‏ أما ما عدا ذلك فلابد من أوامر مسبقة تأخذ إجراءات طويلة‏,‏ هذا وهناك أمر صادر بأنه لا مانع مع الالتزام بمواعيد العودة من مرور الرجل في طريق الذهاب أو الإياب علي إحدي المكتبات الثلاث الأنجلو ــ مدبولي ــ دار المعارف فالمعتقل غاوي قراءة واقتناء للكتب‏.‏
في غرفة معيشته بالمعتقل التي أبدا لم تكن صومعة‏,‏ فقد كانت ممرا في أي ساعة من الليل أو النهار لجنود الحراسة أثناء تبادل وردياتهم في الصعود والهبوط لنقطة المراقبة علي السطح‏..‏ فوق السرير المزدحم بالذكريات والمرض والهم كتب وكتب وكتب محمد نجيب‏:‏
حضر جمال وعبدالحكيم إلي بيتي طالبين أن تقوم الثورة يوم‏4‏ أغسطس سألت السبب؟‏!‏ حتي يكون الضباط قد صرفوا مرتباتهم واطمأنوا علي عائلاتهم‏,‏ فكان ردي أن من يتصدي لعمل ثوري لا يهتم بمرتب شهر‏….‏ كانت مشكلة السودان طرق المواصلات‏,‏ فالمسافة بين الخرطوم وبحر الغزال مثلا تستغرق‏35‏ يوما منها‏10‏ أيام علي القدمين فأجرت حمارين دفعت فيهما‏3‏ جنيهات ليركبها أولاد العساكر ومشيت أنا مع الكبار علي قدمي أكثر من‏100‏ كيلو متر وكان مرتبي لا يزيد علي‏12‏ جنيها‏….‏ رفضت الانتقال لقصر عابدين مفضلا بيتي المتواضع في حلمية الزيتون متنازلا عن نصف مرتبي‏6‏ آلاف جنيه كرئيس للجمهورية تقديرا للأحوال الاقتصادية السائدة في البلاد‏….‏ كانت شائعة غير صحيحة سببها أن أحد كبار الصحفيين كان عندما يريد الدخول لمكتبي يزج دائما أمامه كباسبور للدخول صحفية شابة وجميلة وأشاعوا وقتها أنني تزوجتها‏….‏ بكيت للموقف الرهيب‏,‏ ملك يخلع عن عرشه‏,‏ لحظة خلع ملك من سلطانه ومغادرته أرض بلاده بلا رجعة موقف مؤثر وبالغ الأهمية‏.‏ بكيت ولم أكن بلا شعور مثل أحد صغار الضباط الذي أمره الملك بخفض عصاه من تحت إبطه فرد بأفظع السباب لكن الملك المتربي لم يجب بشيءوأعطاه ظهره وانصرف‏.‏ طبعا بكيت‏.‏ كان لازم أبكي‏….‏ كانت آخر كلمات الملك المعزول فاروق لي‏:‏ إن مهمتك صعبة للغاية فليس من السهل حكم مصر‏…‏ ذهبت يحيطني الحراس لزيارة جمال سالم وهو علي فراش الموت فأجهش بالبكاء قائلا‏:‏ سامحني‏….‏ في‏27‏ فبراير‏1954‏ اعتصمت بعض السيدات في نقابة الصحفيين وأعلن الإضراب عن الطعام حتي الموت‏,‏ ولم يعدلن عن ذلك إلا بعد خطاب أرسلته لهن واعدا بأن ينلن حقوقهن في الدستور‏….‏ بالتحديد في يوم‏29‏ أكتوبر‏1956‏ سمعت انفجارات متتالية وأنا في المرج وفوجئت بعربة البوليس الحربي تنقلني إلي استراحة في الصف ومنها بالقطار في كابينة مغلقة إلي نجع حمادي علي بعد‏700‏ كيلو جنوب القاهرة وسألت وكان الجواب بشعا حيث تطاولت علي ألسنة وأيدي ضباط صغار في سن أولادي لم يحترموا العمر ولا الرتبة العسكرية الكبيرة وهانت عندي الحياة ولم أكن قادرا علي شيء سوي الإضراب عن الطعام الذي عدلت عنه بعد يومين لأنه يؤدي إلي الانتحار وهو أمر بغيض عند الله‏,‏ وفي قاعة مظلمة ببلده طما قضيت حبسا انفراديا لمدة‏59‏ يوما كاملة لا تدخل فيها شمس ولا يصرح لي بالخروج‏,‏ وعند النوم يشاركني فيها ضابط وصول وشاويش‏,‏ حتي حرية النوم وحدي فقدتها‏,‏ وكانت إقامتي سرية حتي علي وزارة الداخلية‏,‏ أما صوت الدعاء الذي كان يتسرب إلي أذني فقد كان موجها لي من والدة أحمد أنور قائد البوليس الحربي التي كانت تقيم هناك خلال هذه الفترة‏,‏ وكنت في طريقي بالسيارة لمنفاي الجديد قد أوقعت ورقة كتبت عنوانا لها موضوع مهم جدا جدا وفي سطورها كتبت‏:‏ هذه السيارة التي أكتب منها يوجد بها اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيس الجمهورية السابق المخطوف منذ أول نوفمبر‏1956‏ وخطفه رجال البوليس الحربي وهو لا يعرف عن أولاده شيئا‏,‏ فأرجو تتبع السيارة وإبلاغ من يهمه الأمر بذلك‏…‏ إذا كنت قد أذنبت فإن ذنبي لم يكن سوي قطرة ماء إذا ما قورنت بمحيط العذاب الذي غرقت فيه منذ خروجي من عابدين حاملا مصحفي لأبقي ثلاثين عاما في معتقلي بالمرج‏….‏ في موقعي مديرا لسلاح الحدود رفضت طلب صيد استاكوزا للملك فاروق بحجة أنه ليس عندي صيادين ولا عربات‏,‏ وقلت لهم إن البحر هائج‏…‏ كم مجدنا وعظمنا الملك فاروق الذي قال له طه حسين في حفل افتتاح مركز الأرصاد الجوية بمعهد الصحراء إنك يا مولاي سيدنا ومصر من صنع أياديك وأجدادك العظام‏….‏ أرسل الحزب الاشتراكي إشارات تليفونية إلي أقسام البوليس لتعلن زعم وفاتي وأكثر من هذا نصبوا صوانا مزيفا عند جامع عمر مكرم دعي إليه المارة للعزاء في محمد نجيب‏…‏ كان غاندي هو مثلي الأعلي بعد عمر بن الخطاب‏,‏ وعندما سألت جريدة‏Outlook‏ الهندية عبدالناصر عن سبب الخلاف بيني وبينه قال إني متمسك بالمثل العليا مثل غاندي وهذا لا يتناسب مع زماننا‏….‏ هل كان هناك في الجيش من ينقاد ويتبع شبابا لولا أني علي رأسهم؟‏!‏ وهل كنت أطمئن إلي القيام بانقلاب مع طغمة من الشباب لا أعرف عنهم شيئا؟‏!‏ وهل كانوا هم من البلاهة بحيث يأتمنون شخصا لا يعرفونه؟‏!‏ يا ناس عيب هذه التراهات‏….‏ رحت للشيخ الشعراوي بعد الإفراج عني في بيته في سيدنا الحسين وقلت للحارس قل لفضيلته واحد اسمه محمد نجيب عايز يقابلك‏,‏ رد وقال لي‏,‏ الشيخ نايم دلوقت يا عم نجيب أي خدمة لما يصحي نبلغها له‏,‏ قلت له أنا مش طالب حاجة أنا محمد نجيب اللي كنت رئيس الجمهورية‏,‏ قال طيب اقعد استريح علي الكنبة يابا لغاية ما يصحي فضيلة الشيخ وأبلغه‏….‏ عشت في الممنوع‏,‏ ممنوع زيارة صديق في بيته‏.‏ ممنوع دخول أي محل للشراء‏.‏ ممنوع تفصيل بدلة عند ترزي‏.‏ ممنوع التردد علي أية وزارة‏.‏ ممنوع عمل توكيل لمحامي و‏..‏ ممنوع استقبال جثمان ابني في المطار وممنوع ينكتب اسمي في نعيه وممنوع أقف للقائه علي باب المدفن وهو يواري التراب‏..‏ في حياتي مات أولادي الثلاثة من صلبي كل منهم بمأساة ومات معظم أبنائي من أعضاء مجلس قيادة الثورة‏.‏ مات صلاح وجمال وانتحر عامر ومات عبدالناصر واغتيل السادات‏.‏
لم أنجح في تطبيق شعار الاتحاد والنظام والعمل الذي رفعته بعد الثورة مباشرة إلا علي الكلاب والقطط التي أربيها‏.‏ الأكل بمواعيد والنوم بمواعيد‏,‏ ونجحت في أن يكون العمل هدفا لها‏,‏ كل منها حسب وظيفته المناسبة‏,‏ الكلاب للحراسة‏,‏ والقطط لتنظيف البيت من الفئران‏,‏ ونجحت معها حتي في تغيير طبيعتها‏,‏ ولازلت محتفظا بصورة كلبة نادرة ترقد علي جنبها لترضع منها قطة فقدت أمها دليلا علي أن الحيوانات أكثر رقة في التخلص من شراستها من صنف البشر‏..!‏
محمد نجيب خرج من أسوار معتقل المرج ليحيا عاما واحدا في شقة متواضعة بحدائق القبة لتطوي في‏28‏ أغسطس‏1984‏ صفحة مجهولة لملايين المصريين من تاريخهم كتبها ساكن القصر المهجور الذي أصبح ملجأ للنساء العاقرات اللاتي يتسللن إليه في غبشة المساء‏,‏ لأنه مظلم وموحش ومرعب فيفزعن وعندما يفزعن تنفك العقدة‏..‏ قصر مبروك زرته في وسط الليل اتخضيت وربنا نفخ في صورتي ودوغري بطني شالت في البت فتحية‏..‏ محمد نجيب في حياته عاش الموت الافتراضي والموت الحقيقي‏..‏ أخذوه لمقعد الرئاسة‏,‏ وأخذوه للمعتقل‏,‏ وأخذوه للحبس الانفرادي‏,‏ وأخذوه معاقبا ومسرحا لحياة الظل فرفع يده للسماء ولم ينل راحته إلا حينما أخذه الله‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق