الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

قريت أنيس النهارده ؟‏!!..بقلم سناء البيسي

قريت أنيس النهارده ؟‏!..‏ أستاذ وصاحب مدرسة‏..‏ قريت أنيس النهارده؟‏!..‏ الراجل ده حيجنني‏..‏ قريت أنيس النهاردة؟‏!..‏ الكل مشغول بالموضوع الخطير إياه وهو كاتب لي عن فوائد العسل‏..‏ قريت أنيس النهاردة؟‏!..‏ راجع يغمز ويلمز‏..‏ قريت أنيس النهارده؟‏!..‏ ده رأيه من البداية في عبدالناصر‏..‏ قريت أنيس النهارده؟‏!..‏ أول مرة أعرف أنه حج سبع مرات واعتمر‏30‏ عمرة وصلي داخل الكعبة عشر مرات وصعد جبل النور لغار حراء‏..‏ قريت أنيس النهاردة؟‏!..‏ عادته يوم الجمعة يكتب ما بدي له في أقواله عن صنف النسا‏,‏ وعجبني قوي الجمعة دي قوله‏:‏ لو كنت عند بدء الخليقة لسألت الله‏:‏ ولماذا المرأة يا رب؟‏!..‏ قريت أنيس النهارده؟‏!..‏ في الأهرام أو الشرق الأوسط أو في كتاب جديد يضخه يوميا للمطبعة حتي وصل عدد مؤلفاته مائة وعشرين‏..‏ قريت أنيس النهاردة؟‏!‏ لامؤاخذة قال علينا حمير‏!..‏ قريت أنيس النهارده؟‏!..‏ يسلم قلمه لما كتب مستنكرا عن تبويس اللحي وظاهرة تقبيل الرجال لبعضهم البعض محبة وإعزازا‏..‏ قريت أنيس النهارده؟‏!‏ سؤال كل صباح في البيت والمكتب والوزارة والسفارة وع القهوة وفوق المصطبة وعلي دكة البواب‏,‏ وعلي شبكات الإنترنت‏,‏ومن لم يقرأ أنيس النهاردة يشعر وكأن الحائط الرابع من تكوينه الصباحي قد سقط سهوا‏,‏ وكأنه لم يغسل وجهه‏,‏ ولم يتناول إفطاره‏,‏ ولم يتأهب لمعاركه الحياتية اليومية‏,‏ ولم يقل لزوجته يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم صبحنا وصبح الملك لله وروحي الله يرضي عنك هاتي لي الجرنال من تحت الباب لما نشوف ابن منصور كاتب لنا إيه النهاردة‏,‏ وربنا يكون في عون أصحاب العامود اليومي المكتوب عليهم يحطوا إيدهم في جراب الحاوي يطلعوا لنا بجديد مع كل طلعة شمس يشد انتباهنا ويلمس مواجعنا ويتبني قضيتنا ويرمي حجر يحرك مياه السطور والنفوس الراكدة‏,‏ ويخفف من وطأة السوقية‏,‏ ويقول للبعض بعضا من كرامة‏,‏ ويرحمنا من جهالة زعيط ومعيط ونطاط الحيط اللي نهش كل منهم مساحة عامود علي جنب أو فوق أو من تحت نام له فيها وتغطي بملاءة الكلام الفارغ‏..‏ هاتي جرنال النهاردة واقلبي الصفحة علي مواقف ابن الدقهلية في الصفحة الأخيرة‏,‏فمانشتات وعناوين الأولي قرأناها من شهر فات ولا سنة بتفاؤلاتها اللامجدية وعلاواتها المتأرجحة واتهاماتها الملفقة وضحاياها من القدس لشقق وسط البلد‏..‏ هاتي لي أنيس فمواقفه أصبحت إدمانا حتي ولو زاد وعاد عن عبدالناصر المفتري والمفتري عليه‏,‏ والسادات الذي التقاه أول مرة في الأسانسير‏,‏ والعقاد وابن أخيه عامر العقاد‏,‏ للوجودية‏,‏ للمنصورة‏,‏ لنوبل زويل‏,‏ لأدولف هتلر‏,‏ للشاعرة روحية القليني‏,‏ لمارلين مونرو‏,‏ لأندريه شديد‏,‏ لفاروق الباز‏,‏ لفنون وأشعار أبكار وضيا السقاف‏,‏ لصديقه ألبرتو مورافيا الذي قام بترجمة جميع رواياته‏,‏ لموتسارت الذي دوخه‏,‏ لساعات بلا عقارب‏,‏ للذين هبطوا من السماء‏,‏ لمدح فايزة وسب وردة‏,‏ للدالاي لاما المصاب بالزكام‏,‏ لفاطمة التي يحبها الجميع‏,‏ لجلسة تحضير أرواح‏,‏ لفلسفته عن بائع العرقسوس الذي تعود علي الرجوع في مشيته قليلا للخلف لأنه طول النهار يضع الإناء الزجاجي علي صدره‏,‏ وكلنا بائع العرقسوس هذا‏,‏ فما من أحد لا يحمل هما في مكان ما من جسمه‏..‏ علي رأسه‏..‏ علي كتفه‏..‏ علي صدره‏..‏ علي قلبه‏.‏أنيس منصور الظاهرة المتفردة في تاريخ الأدب المصري المعاصر‏,‏ وأكثر مؤلفي اللغة العربية قبولا عند ملايين القراء‏,‏ الذي كتب عنه طه حسين يصفه كما لم يصف مؤلفا من قبل في قدرته الفائقة علي أن تكون اللغة أداة طيعة في يده يشكلها كما يحب في خفة ورشاقة وأناقة وجاذبية ليس لها حدود‏..‏ ويفرح أنيس بتقريظ طه حسين له لكن إعجاب العقاد بأسلوبه كان مأساته الكبري في بداية كتاباته الصحفية عام‏1948‏ عندما سأله أنيس في ندوة يوم الجمعة الأدبية إذا ما كان قد قرأ مقاله في جريدة الأساس فأجابه العقاد‏:‏ نعم يا مولاي وأعجبني أسلوبك‏!‏ وهنا حزن أنيس علي نفسه حزنا شديدا‏,‏ وعاد لقراءة مقاله من جديد فوجده كحجارة جبل المقطم مليئا بالتراكيب الفلسفية‏,‏ فقد كان حديث التخرج في الفلسفة‏,‏ وفي الوقت نفسه مدرسا لها‏:‏ لقد أعجب الأستاذ بأسلوبي‏,‏ وأسلوب الأستاذ صعب‏,‏ وأحيانا معقد‏,‏ وليس من السهل فهمه‏.‏ إذن فالأستاذ قد أعجبه أن يجد شيئا منه في مقالي‏..‏ وأعدت كتابة المقال‏32‏ مرة وفي كل مرة أجرده من الكلمات الصعبة‏,‏ وفي كل مرة أضع له بداية ونهاية مختلفة‏,‏ وكان ذلك طريقي للكتابة السهلة الواضحة‏,‏وحتي عندما كنت أدرس في الجامعة كنت أشعر أنني لا أتحدث وإنما أنا أكتب علي مسمع من الطلبة‏..‏ فأنا أوضح نفسي لنفسي‏,‏ ولذلك كان أكثر الذين يترددون علي محاضراتي من الكليات المختلفة‏..‏ فقد كانت محاضراتي في الفلسفة مزيجا من الأدب وعلم النفس والتاريخ والفكاهة‏..‏ لقدخلعت الرداء الحديدي الذي يشبه ملابس فرسان العصور الوسطي‏..‏ لقد نزعت جلد القنفذ وأحجار السلاحف‏..‏ أنيس الذي طبع بصمته الواضحة علي جيل كامل من الصحفيين والكتاب‏..‏ جيل عاش ينهل سطوره‏,‏ ويسير علي خطاه‏,‏ ويحلم برحلة حول العالم مثله‏,‏ ويفلسف الوجودية‏,‏ ويسأم علي طريقة ألبرتو مورافيا‏,‏ ويزج بين كلماته أسماء لها وقع الرنين الثقافي‏:‏ ألبير كامي وسارتر وسيمون دي بوفوار و‏..‏ أنا موجود إذا أنا أفكر‏..‏ وتكلم حتي أراك‏..‏ واعرف عدوك‏..‏ والبشرية احتاجت ألوف السنين حتي يصل العالم الرياضي الكبير أينشتاين إلي هذا السطر الذي بمقتضاه انفجرت القنبلة الذرية‏:‏ الطاقة‏=‏ الكتلة‏*‏ مربع سرعة الضوء‏!..‏ ومثل حواريي سقراط الذي كانت زوجته تلقي علي رأسه الماء فإن تلامذة منصور لا يقلدون أسلوبه السهل الممتنع فقط بل وطريقته في الحديث الموشي بتعليقه الحميم ده غير معقول‏!!‏ويحرض الأستاذ تلامذته علي السؤال بقوله‏:‏ إن الذي لا يسأل لا يعرف والذي لا يعرف لا يتقدم‏,‏ والذي لا يتقدم يتأخر‏,‏ ولا يجد حرجا عندما يسألونه عن تكرار عناوين كتبه مثل‏:‏ وحدي مع الآخرين ومع الآخرين‏,‏ وعاشوا في حياتي‏,‏ والبقية في حياتي‏,‏ والذين هبطوا من السماء‏,‏ والذين عادوا إلي السماء‏,‏ وهي وغيرها وهي وعشاقها‏,‏ وطريق العذاب وألوان من العذاب وعذاب كل يوم‏..‏ الخ‏..‏ يجيب عن ذلك التكرار بأنه الدليل الواضح علي أن المعاني لاتزال في مكانها من عقله وفي حاجة إلي أن يعود إليها‏..‏ ويسألونه عن السبب في أسمائه المستعارة التي كتب من خلف كواليسها‏:‏ سلفانا ماريللي‏,‏ وأحلام شريف‏,‏ وشريف شريف‏,‏ ومني جعفر‏,‏ وهالة أحمد‏,‏ وصلاح الدين محمد‏..‏ فأجاب كل منهم قد خفف عن كاهلي تكرار اسمي في صفحات كثيرة تفتقد أقلاما وصحافة‏..‏ وتسأله الكاتبة سهير حلمي في كتابها الرائع المزين بصور الكاتب النادرة أنيس منصور فيلسوف البسطاء عن الخل الوفي في حياته الآن فيجيبها بأن كل الأصدقاء المقربين ماتوا ولا يوجد أحد منهم علي قيد الحياة‏!‏ وحول الظهور المتكرر في التليفزيون يجيبها بأنه وسيلة إعلامية قد يساء استخدامها‏,‏لكن الكاتب يتحمل وحده مسئولية ظهوره وتكرار حديثه في برامج متعددة‏,‏ فبيده لا بيد التليفزيون يجني علي نفسه‏!‏أستاذي وبلدياتي‏..‏عملت دوما علي مقربة منه ولم يسعدني حظي برئاسته لي‏..‏ كان مكتبه في الدور الثاني بأخبار اليوم في أول عهدي بالصحافة‏,‏ وحائط خشبي أحمق قائم بيننا أسماه الساخر الساحر الفيلسوف حائط المبكي‏,‏ فشهيدات الإعجاب الحسناوات بأنيس منصور كن إذا ما أصابه الملل‏,‏ ودائما ما يصاب به بعد فترة قصيرة من بعد تصعيده للواحدة منهن مقرظا موهبتها وآليات تفردها لعنان السماء‏,‏ فتهرع لموقعي في الجوار لتصادقني عنوة لتبقي علي ضفاف ساحر الكلام علي الجانب الآخر من حائط المبكي‏..‏ ويحدث التأميم ولي فيه مع الأستاذ قصة شاركت فيها دون علمي أو علمه وكانت لها أبعادها وتداعياتها‏,‏ وذلك عندما كنت أقوم وقتها برسم موتيفات صغيرة مصاحبة ليوميات كبار الكتاب أمثال العقاد والتابعي والشناوي وزكي نجيب محمود‏,‏ وأنيس منصور‏,‏ وذلك بتكليف مسبق من علي أمين الذي لمس لدي تلك الموهبة‏..‏ و‏..‏ استدعاني فجأة علي إسماعيل الإمبابي مدير مكتب الوزير كمال رفعت المشرف علي أخبار اليوم في أوائل الستينيات ورئيس هيئة القناة فيما بعد‏..‏ صعدت إليه وكان قد احتل مكتب مصطفي أمين ليطلعني علي يوميات أنيس منصور التي نشرت ذلك الصباح ويتوسطها رسم كاريكاتيري لحمار‏.‏ألقيت نظرة عابرة علي المقال ولم أفهم مقصده من الحكاية كلها‏,‏ فمال في مقعد مصطفي بك إلي الأمام ليسألني متذاكيا‏:‏ قصدك إيه بقي من الرسم ده بالضبط‏!!‏ فأجبته بمنتهي الصراحة والبراءة والسذاجة وحسن الطوية وخلو البال والخاطر بأن الرسم ليس بريشتي ولم أذيله كما هو ظاهر بإمضائي‏..‏ فعاد الإمبابي بمقعد مصطفي بك ثانية إلي الخلف ينظر ناحيتي للتأكد من أقوالي‏:‏‏*‏ أمال الرسم ده بتاع مين علي كده؟‏!‏‏-‏ ده رسم الأستاذ كمال الملاخ وكان بيرسم اليوميات قبلي وانتقل للأهرام مع الأستاذ هيكل‏..‏‏*‏ طيب وانت كنت فين لما نزلوا الملاخ بدالك؟‏-‏ يافندم أنا كنت في إجازة مع ماما وبابا والشقيقات لمدة أسبوع ورجعنا امبارح يادوب من السفر‏..‏‏*‏ واشمعني الرسم ده بالذات اللي نشر مع المقال ده بالذات؟‏-‏ معرفشي حضرتك لكن من عادة السكرتارية الفنية تجر أي رسم قديم من الأرشيف لسد الخانة الفاضية‏.‏ولأن ظهر الإمبابي كان لم يزل في مقعد مصطفي بك إلي الخلف عاد للأمام وقد ارتسمت علي ملامحه القاسية شبه ابتسامة رثاء‏:‏ عارفة حقيقي حقيقي ربنا بيحبك وكان ممكن تروحي وراء الشمس‏..‏ اتفضلي روحي مكتبك‏..‏ ولم تمض الدقائق حتي أرسل لي مكتب الإمبابي عدة قصائد من أزجال الضابط أنور نافع لأوالي رسمها أسبوعيا في آخر ساعة‏..‏ ويكتب أنيس منصور بعدها في مذكراته أنه عوقب ظلما وتعسفا بسبب هذا الرسم وذلك بإيقافه عن العمل في الصحافة والإذاعة أكثر من عامين ظل فيها هاربا من الناس والأصدقاء أكثر حتي لا يكون سببا في أي متاعب لهم‏..‏ ويكتب عن ظروفه النفسية السيئة التي مر بها خلال تلك الفترة أنه لما شكاها للأستاذ محمد حسنين هيكل قال له حكمة ظلت تسكن رأسه طويلا‏:‏ في مثل هذه الظروف لا يصح أن تمتحن أصدقاءك‏,‏ سوف يرسبون جميعا‏,‏ وعندما تزول هذه الغمة وتبحث عن الأصدقاء فلن تجد منهم أحدا‏..‏ ويعجب أنيس بالكلام لكنه يري‏:‏ كانت يدي هيكل في الماء الدافئ‏,‏ وأنا أموت من البرد والشك والقلق والفزع وقرف من النوع الوجودي الذي كنت أدرسه للطلبة في الجامعة وأنا لا أعرف مذاقه تماما‏..‏ الفارق عشناه يا أستاذ أنيس بين أيام كان عقاب الكاتب قصف القلم لمظنة السوء‏,‏ وتحديد الإقامة في البيت وصمت التليفون عن الرنين تحسبا من كلمة شاردة وخشية من عبارة واردة‏,‏ في عهد كنا نترك فيه مكاتبنا لممرات أخبار اليوم لنهمس لبعضنا برأي لا يقدم ولا يؤخر وإن كان يزيح بعضا من تراكمات الهم والغم عن الصدر‏,‏ وذلك تخوفا من فرية مدمرة تشرد العيلة‏,‏ وتجيب عاليها واطيها ممن يدعي الصداقة في المكتب المقابل‏,‏ أو من أجهزة تصنت قالوا انها مزروعة في أماكن مستترة من بينها‏:‏ قلم الكتابة ونشافة الحبر وعلبة الدبابيس ودبوس الكرافتة وولاعة السجائر وعقارب الساعة وطينة لبلابة المكتب الخضراء‏..‏ كان الهمس أيامها أسلوبنا وكتابة الخواطر علي الأوراق ثم تمزيقها في الحال فيه منجاة لنا وإن اكتشفنا بعدها أن هناك المختص بتجميع قصاصاتنا الممزقة وإعادة تركيبها‏..‏ وها أنت تكتب الآن عن رحابة صدر الرئيس مبارك وحرصه التام علي حرية الرأي المطلقة للكتاب والمبدعين‏:‏ حدث أن قال لي الرئيس مبارك‏:‏ هل يعجبك ما يكتبه إحسان؟ فقلت‏:‏ إنه سيد المحللين السياسيين يا ريس‏..‏ وإذا شئت أن أنبهه فسوف أفعل‏,‏ فكان رد الرئيس مبارك‏:‏ لا تفعل فهو كاتب كبير وهو وطني‏..‏ ولكن أكلمك كمواطن لا كرئيس للدولة‏,‏ وقد قال إحسان عبدالقدوس في كتابه علي مقهي الشارع السياسي‏:‏ لم أعرف حرية الصحافة إلاعندما نشرت مقالاتي في مجلة أكتوبر‏,‏ فأنيس منصور لم يغير كلمة واحدة مما أكتب‏,‏ وفي موقف آخر اتصل الرئيس مبارك بأنيس منصور قائلا‏:‏ هل يعجبك ما يكتبه د‏.‏ حسين مؤنس عندك في مجلة أكتوبر؟ فقال أنيس‏:‏ إنه مؤرخ كبير ياريس وهو رجل محترم‏,‏ فقال‏:‏ محترم أعرف ولا أعلق علي ذلك‏..‏ ولكن الذي يكتبه عن الضباط الأحرار فيه ظلم كبير‏..‏ وأنا أتكلم بصفتي مواطنا لا رئيسا للدولة‏,‏ فقال أنيس‏:‏ هل ألفت نظره يا ريس؟ فقال الرئيس‏:‏ لا‏..‏ إنه وطني وكاتب كبير وهو حر في أن يكتب ما يعجبه‏..‏وفي مؤتمر صحفي للرئيس مبارك حضره ثلاثمائة من الإعلاميين‏..‏ وقبل أن يجلس علي المنصة تساءل‏:‏ أين أنيس منصور؟‏..‏ فرفعت يدي قائلا‏:‏ أيوه ياريس‏..‏ قال‏:‏ يا أنيس‏..‏ أرجوك‏..‏ في عرضك‏..‏ كفاية المقالات عن عبدالناصر‏..‏ إنها تسبب لي صداعا‏..‏ كفي‏..‏ فكل رئيس له أخطاؤه‏..‏ كفي‏!..‏ قلت‏:‏ حاضر ياريس‏..‏ ولكني انتهيت منها‏..‏ وبدأت سلسلة أخري‏..‏ قال الرئيس‏:‏ كفاية بقي‏!..‏ وجلس الرئيس وجلست‏..‏ ثم عاد يقول‏:‏ للأمانة‏..‏ أنا كلمت أنيس في بيته مرتين‏..‏ وتناقشنا ولكنه لم يستجب‏!‏ويرجع أنيس منصور حرص السادات علي إحياء ذكري عبدالناصر أنه كان في ذلك يؤكد الفرق الواسع بينهما‏,‏ وكيف فشل عبدالناصر حيث انتصر السادات‏,‏ ولذلك قالت النكت المصرية‏:‏ إن السادات يمشي علي خطي عبدالناصر بأستيكة‏..‏ أنور السادات الذي اختار أنيس منصور رفيق درب الأسفار ورابع أربعة في رحلة العمرة الشهيرة التي قام بها السادات مع أمير مكة والرئيس القذافي‏,‏ وكان راكبا طائرته في زيارته التاريخية للقدس‏,‏ وكان الوسيط بينه وبين المسئولين في القدس أثناء معاهدة السلام وبعدها‏,‏ ومن يتابع حواراتهما معا ــ السادات وأنيس ــ يجد فيها منزلة الحظي الذي يسمح له بمحاورته وقتما شاء‏..‏ حوار الصحفي ورئيس الدولة‏..‏ المسئول رفيع المستوي وصديقه المقرب الذي أمضي معه أطول ساعات يمكن أن يمضيها إنسان مع أقرب المقربين‏,‏ وهو الذي جلس معه بعد ثورة التصحيح في‏15‏ مايو في استراحة المعمورة بالإسكندرية منذ الثانية عشرة ظهرا حتي الواحدة بعد منتصف الليل‏,‏ وكان السادات فيها يروي لأنيس لأول مرة كيف خطط ونفذ لثورة‏15‏ مايو‏..‏ وانتهت الشرائط الكاسيت الجديدة التي أحضرها منصور معه‏,‏ وكذلك جميع الشرائط الموجودة في استراحة المعمورة‏,‏ وبدأت سيارات الرئاسة تجمع الشرائط من محلات الكورنيش التي امتلأت أيضا بحديث السادات فقام بطلب شرائط أخري من زوجته لمواصلة الحكي لأنيس فأتي التسجيل علي شرائط أغاني فيروز كلها‏..‏ كل هذا الزخم من أحداث تاريخ مصر الحديث أيام السادات بصوت السادات في حوزة أنيس منصور‏..‏ ويسألونه عن كتابه عن السادات وفترة حكمه التي عرف عنها أشياء لا يعرفها الناس فيأتي رده الجاهز‏:‏ يجب مراعاة فروق التوقيت‏.‏ويجمعنا الأهرام بعد ذلك ويرسل لي الأستاذ أنيس إصداراته تباعا بإهدائه الحميم بلدياتي فنحن معا من أبناء المنصورة‏,‏ ويجلس الناقد الفيلسوف يكتب عني لوحة قلمية رائعة عنوانها شيء لا تراه العصافير افتتحت بها كتابي أموت وأفهم‏,‏ ويخصني أستاذي بأقواله المأثورة المتفردة التي يكتبها خصيصا لصفحات المرأة فأضعها ممتنة علي رأس الصفحات سنوات طويلة‏..‏ ويغير الواشي صدر المسئول الكبير فينهرني غاضبا بقوله‏:‏ هو يعني مفيش غير أنيس اللي بيقول مأثور الكلام؟‏!..‏ وتخذلني سطوته‏,‏ ولما لم يكن من أقواله هو ما يؤثر ذهبت أفتش في أدراج الأدب لأنفض التراب عن مأثورات عفا عليها الزمن لمارك توين وأوسكار وايلد وشاعر الهند طاغور وولسن تشرشل ليكسو الشيب رأس صفحات كانت بأقوال منصور مصابيح لآلئ علي بواباتها‏..‏ وأتولي رئاسة تحرير نصف الدنيا ولا يبخل عزيز الأيام عليها بحواراته وذكرياته وآرائه ويكتب مهنئا في عيدها العاشر‏:‏ عقبال‏500‏ سنة يا‏(‏ نصف الدنيا‏)‏ اللطيف كلاما‏,‏ العنيف أفعالا‏,‏ وأنت تتربعين علي رقاب العباد‏!!‏ أنيس منصور‏..‏بمشاعر صوفية صافية كتب أستاذ القلم ووصف خلجات الأحاسيس الرقراقة عن فيض النور الذي غسل قلبه داخل الكعبة بعدما صلي بداخلها عشر مرات‏..‏ أربع مرات وراء الملك فيصل‏..‏ وأربع مرات وحده‏..‏ ومرة وراء الرئيس جعفر النميري‏..‏ ومرة وراء الرئيس السادات‏:‏ غمرتني الراحة وأحسست أن شراييني من النيون الهادئ‏..‏ بلا حرارة ولا صوت‏..‏ وأنني في حالة بين الحياة والموت‏..‏ فلا أنا حي أشعر بجسمي‏,‏ ولا أنا ميت بلا جسم‏..‏ ولكن فوق جسمي تحت‏..‏ وخط رفيع يربطني بالاثنين‏..‏ وعندما خرجت من الكعبة أخذت أشعر بجسمي قطعة قطعة حتي أصبحت ثقيلا علي وجداني وعلي فكري‏..‏ وأعيدت لي حياتي العادية‏..‏ وفي داخل الكعبة كل شيء غسلوه في ماء الورد‏..‏ ماء زمزم مع ماء الورد‏..‏ الأرض غسلوها والجدران بللوها‏..‏ وفي ركن داخل الكعبة أستار‏..‏ وأن تطلب من الله أن يتوب عليك‏..‏ فهو ركن التوبة‏..‏ ودعوت الله‏..‏ وفي الظلام اصطدمت بالذي يركع‏,‏ والذي يسجد‏,‏ والذي يبكي‏,‏ والذي يبلل ملابسه في ماء زمزم‏...‏ ولكن إحساسي في مسجد الرسول شيء آخر‏..‏ من نوع آخر‏..‏ فهنا كان يقيم الرسول‏..‏ وهنا كانت زوجاته‏..‏ وفي بيت عائشة وعلي صدرها مات‏..‏ وفي ملابسه غسلوه ودفنوه‏..‏ وعند كتفي الرسول دفن أبوبكر‏..‏ وعند قدمي الرسول دفن عمر‏..‏ من هنا كان يخرج من بيته‏,‏ وهنا كان يصلي وهنا كان يتحدث إلي الناس‏,‏ وهنا خرج مريضا‏,‏ وهنا مرض ولقي ربه والقرآن يقول‏:‏ إنك ميت وإنهم ميتون‏..‏ مات الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم الاثنين‏,‏ وهو اليوم الذي ولد فيه‏,‏ والذي هاجر فيه وبلغ المدينة فيه‏,‏ وفيه نزل الوحي‏,‏ وفيه خرج من غار ثور‏,‏ وفي هذااليوم رفع الحجر الأسود‏...‏ويتعبني قلبي فأحمله واهنا علي جناح طائرة لتجري لي عملية جراحية كبيرة في كليفلاند بالولايات المتحدة‏,‏ وتمر السنين وألتقي بعدها بأحد علماء الدين الأجلاء الذي يفضي لي بالسر كشهادة أمام الله والضمير‏:‏ كنا في وفد رسمي نؤدي فريضة الحج بالأراضي المقدسة فهمس لي الكاتب أنيس منصور أحد أعضاء الوفد ونحن علي جبل عرفات بأن أدعو لواحدة تهمه تجري لها عملية خطيرة في هذه الساعة بالضبط‏,‏ وذكر لي اسمك‏..‏ ومازلت أذكر قوله بالحرف الواحد‏:‏ ادعو لها فقد يتقبل الله دعاءك أكثر مني‏...‏ ذلك موقفه الإنساني الحميم في الخفاء‏,‏ وهو الذي لم يرفع سماعة التليفون جهرا ليسأل عني‏.‏ولأنه كان هناك‏..‏ تصلني أصداء أخباره وندواته وأحدث كتبه ودعوات للاحتفاء به وجوائز وأوسمة ومراتب عليا يستحقها أنيس منصور عن جدارة‏..‏ وكنت أنا هنا‏..‏ أدور في الساقية المفرغة فما أن يتم طبع عدد إلا ونوضع فوق مذبح العدد الجديد‏..‏ لهذا فقد تسربت السنين لألقاه خلالها في مناسبات متفرقة وقد تمشت ريشة العمر فوق الكيان الوثاب‏,‏ الذي طاف وشاف وكتب وتفلسف وأجاد‏,‏ لتشعل في الرأس شيبا‏,‏ وتغزو الترحيب والتأهيل وحفاوة اللقيا المعهودة كسلا‏,‏ وتضخم من صوت طلقة بعيدة للبندقية الرش تجاه نافذته فيحسبها عدوانا وترصدا‏,‏ وتضيق من سعة الابتسام‏,‏ وتوجز عبارات الكلام‏,‏ وتقلص من دوائر المعارف‏,‏ ولملاقاة الصحاب أوقات أخري فيما بعد‏,‏ وتغلق التليفون‏,‏ وتشيد من السكرتير معبرا‏,‏ وتبقي أستاذنا في البيت أكثر‏,‏ وتنئيه عن جنس النساء أكثر فأكثر‏,‏ وتطيل من إجازة الشاطئ حتي سقوط مطر الشتاء‏..‏ و‏..‏ كثيرا ما تمنيت أن يصبح أنيس منصور أبا فحفاوته بالطفولة كما شاهدتها ولمستها في مواقف عدة تحمل لذعة الحرمان‏,‏ وسؤاله الدائم عن ابني يتمشي حنانا به علي سنوات نموه بدهشته الدائمة علي فعل الحياة وكأنه يراقب معجزة البرعم الصغير حتي يكبر‏..‏ ويكتبها بمداد قلمه تلك الوحشة بمشاعر الأبوة الكامنة‏:‏ كنت أتمني أن تكون لي ابنة ــ ظنا أن البنت أحسن من الولد وأرق وألطف وأكثر حنانا‏..‏ وتمنيت طويلا‏,‏ ولم يشأ الله أن تكون لي ابنة ولا ابن‏..‏ ويوم زارتني ابنة أحد الأدباء ــ يرحمه الله ــ وجاءت تطلب حقها في كتب أبيها التي أمرت بطبعها عندما كنت رئيسا لمجلس إدارة دار المعارف‏..‏ وأسعدني أن ألبي هذا الطلب فورا‏.‏ ورأيت أن تعود إلي بيتها وألا تتعب نفسها‏.‏ وسوف تصلها الفلوس‏.‏ وأسعدها ذلك‏..‏ وأسعدني‏.‏ وانشغلت‏..‏ وبعد شهور فوجئت بها في مكتبي‏.‏ وجاء السكرتير يقول لي إنها تبكي‏.‏ فسارعت إليها‏.‏ وعرفت أن شيئا مما أمرت به لم ينفذ‏.‏ وأنها ترددت علي دار المعارف عدة مرات ولكن لا فائدة‏.‏ وأصدرت قرارا أن تتقاضي فلوسها فورا وجاءها شيك المبلغ بعد دقائق‏.‏ ثم سألتها‏:‏ ماذا حدث؟‏..‏ حدث أن في كل خطوة تخطوها من غرفة إلي غرفة ومن مكتب إلي مكتب كانت تواجه أساليب من المعاكسات‏:‏ إن لم تفعل كذا فلا كذا‏..‏ وأدهشني أن يكون الذين ضايقوها أناس لم أتصور أنهم بهذا السوء‏..‏وتخيلت ماذا يحدث لابنتي حبيبتي إذا مت وجاءت إلي دور النشر تطالب بحقوقها‏..‏ كم واحد سوف يعاكسها‏..‏ كم واحد سوف يساومها‏.‏ وهي لن تقبل بأي ثمن‏.‏ فقد ربيتها علي الكبرياء واحترام النفس‏..‏أستاذ أنيس‏..‏مدفوعا بحب المعرفة تسلل طفلا تحت سرير الحامل عندما حمي وطيس الطلق ليكتشف كيف يأتون بالمواليد‏..‏أستاذ أنيس‏..‏يتوجس خيفة إذا ما طمأنه الطبيب بقول الجهنمي زي الفل‏!‏أستاذ أنيس‏..‏يكتب حافي القدمين‏..‏أستاذ أنيس‏..‏ضربته أمه كثيرا بالعصا ليكف عن الكذب‏..‏أستاذ أنيس‏..‏اجتمعنا خمسة لا غير نحتفل بزواجه من حبيبة القلب رجاء في شرفة فندق الشيراتون لترقص لهما نجوي فؤاد علي أنغام جيتار مجدي الحسيني‏..‏أستاذ أنيس‏..‏بعدما قرأ المشير عامر كتابه‏20‏ يوم حول العالم قال لمصطفي أمين‏:‏ أتمني أن أتنازل عن جميع وظائفي لأقوم بالرحلة التي قام بها أنيس منصور‏..‏ وياريته عملها‏!‏أستاذ أنيس‏..‏نباتيا علي كبر فقد التهم وحده عشة فراخ كاملة مشوية يوميا عند الكاشف في شارع محمد علي‏..‏أستاذ أنيس‏..‏أثار الضجة الكبري يوم عاد من أندونيسيا بحكاية تحضير الأرواح بالسلة لتصبح سلته الشغل الشاغل لكل بيت وفي كل سهرة‏,‏ وصارت مطعنا رئيسيا لكل من أراد النيل منه‏.‏أستاذ أنيس‏..‏حفظ القرآن طفلا ورتله ترتيلا‏..‏أستاذ أنيس‏..‏يلمحني الأستاذ أحمد بهاء الدين أحمل كتابه في صالون العقاد كانت لنا أيام فيقول لي عنه إنه من أهم الكتب التي قرأها وأهم كتاب لأنيس فأسارع بقولي وقد تعديت حدودي‏:‏ قلها له بنفسك‏..‏ ويكتب بعدها أنيس منصور أن بهاء أبدي له إعجابه البالغ بالصالون‏..‏ واطمأن القلب مني فقد أديت الأمانة‏..‏أستاذ أنيس‏..‏توءم عبدالوهاب في الخشية من الإنفلونزا‏,‏ ويختبر الموسيقار الحذر سلامة أنيس منها إذا ما ردد أمامه عبارة مين فيكم محمد محمود فإذا ما صحت الميم يقول عبدالوهاب‏:‏ الميم مضبوطة يالله بينا‏..‏‏..‏و‏..‏ قريت أنيس النهاردة‏!‏؟‏..‏ وتخيلوا أهرامنا من غير أنيس‏!!!!‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق