الخميس، 20 أغسطس 2009

جـلال الدين الحمـامصي‏..‏دخان لم يذهب في الهواء..بقلم سناء البيسي

عجبت لماذا؟‏!..‏ لماذا لم يزل رغم السنين يسكنني؟‏!..‏ لماذا يرتفع في أذني ثانية ذاك الرنين البعيد عند توجهي لانتخابات نقابة الصحفيين‏..‏ يومها‏..‏ مع طلعة الشمس ركنت مولودي عاويا بجواري لأسكت علي الجانب الآخر صوت الرنين المتواصل وصرخت‏:‏ آلوووه‏..‏ فأتاني كلامه من بعد سلامه هادئا رقيقا يحمل لي الأثير وقع ابتسامته الدمثة التي لا تغادر أبدا ملامحه وكأن الأستاذ جلال الدين الحمامصي قد ولد في المهد بها‏..‏ هنأني بالمولود الجديد وأعقب تمنياته الحارة برغبته في ضرورة حضوري للنقابة للإدلاء بصوتي في الانتخابات التي ستنعقد هذا الصباح‏,‏ ولم يشأ أن ينهي طلبه الحاسم المشبع بدفء أبوي إلا بحاشية بليغة المحتوي من أن لي مطلق الحرية في اختيار شخصية النقيب‏..‏ وكانت المعركة علي مستوي النقيب غاية في السخونة بينه ممثلا لأسرة أخبار اليوم‏,‏ وبين الأستاذ علي حمدي الجمال علي رأس أسرة الأهرام‏..‏ وكنت أنا في موقع الحيص بيص واقعة في مطب المفاضلة بين ممثل منبتي الصحفي ومسقط رأسي في أخبار اليوم‏,‏ وبين بيتي ونموي وعملي واكتمالي في الأهرام‏..‏ وضعني أستاذي الحمامصي برنينه المبكر في منطقة البين بين ما بين مرتع الصبا وجدران الوقار‏,‏ وكدت أعده بانضمامي لمعسكره مع تقديم كافة فروض الاحترام‏,‏ لكني تراجعت في اللحظة الأخيرة بحجة أن ليس هناك من أترك له مهمة رعاية المولود وهو لم يزل لحمة حمراء‏,‏ فأتتني إجابته العملية الفورية ذات الإصرار بأنه سيرسل لي وبفورية‏Nurse‏ أي مربية تمكث إلي جانبه لحين عودتي‏..‏ وأسقط في يدي وذهبت للنقابة وسلمت عليه وشكرته‏ وتسللت لأنتخب علي حمدي الجمال وفي أذني طنين اصطنعته ليعلو علي صوت الأصول وحق الأستاذية ورد الجميل وغض النظر عن هدية الـ‏Nurse,‏ وحجتي في فعلتي أن الأستاذ جلال ذات نفسه قد منحني حريتي التي استخدمتها بكامل حريتي في انتخاب الأستاذ الجمال‏,‏ وأنا في ذلك لم أحد عن مبادئه وما كرسته فينا دروسه الصحفية‏:‏ نريد جيلا رائدا عملاقا لا يعرف النفاق‏.‏ و‏..‏ أعبر هذا الأسبوع في انتخابات الصحفيين بين صفوف آلاف الزملاء بصعوبة بالغة لأستشعر الفارق في الزمان والمناخ‏..‏ عندما كانت الخيارات متعددة والآن شحت الخيارات‏..‏ عندما كان التنافس بين الشخصيات والآن بين التيارات‏..‏ عندما كان المرشحون عمالقة والآن هناك مرشحون لم نسمع عنهم من قبل‏..‏ عندما كنا محرجين أيا من اليوسفين نمنحه أصواتنا يوسف إدريس أم يوسف السباعي؟‏!..‏ عندما كانت البلاغة لغة الاستقطاب‏,‏ والآن وعلي مدخل العملية الانتخابية يدعوك مرشح لانتخابه بمزيكة حسب الله وكنت فين يا علي وأمك بتدور عليك‏..‏ عندما يسألونك بريبة‏:‏ هل أنت مع تيار الحكومة ــ بمفهوم ضمني أن الانتساب للحكومة من قبيل العار ــ ولا مع التيار التاني؟‏!..‏ عندما تصطف أسماء التيار الحكومي في قائمة الواجهة‏,‏ وترتدي قائمة التيار الثاني ــ الأشرار في مفهوم أنصار الأول ــ طاقية الإخفاء‏..‏ عندما لم يعد مجديا إلا مع من تعدي السبعين فما فوق ولا مجال لجيل الوسط حتي أصبح هناك ما يشبه عقما في الصحافة‏..‏ عندما تقول عمن بداخل الإطار أنا شفته قبل كده‏,‏ بينما تردد قولك حول غالبية ذوي اللافتات أنا ماشفتهمش قبل كده‏..‏ عندما كانت تجذبنا مواقف وأقلام ولم تكن هناك جرعات مالية منشطة للجماعة الصحفية قبل العملية الانتخابية‏..‏ جلال الحمامصي‏..‏ الصحفي المصري الوحيد الذي تم فصله بقرار مكتوب‏.‏ رفده عبدالناصر ولم يعتقله في‏31‏ ديسمبر‏1960..‏ لم يكتب القرار ناصر شخصيا لكنه أوصي به كمال الدين رفعت الذي كان مشرفا علي أخبار اليوم في ذلك الوقت‏,‏ وكانت آخر تعليمات الرئيس من فوق الباخرة‏(‏ الحرية‏)‏ المسافرة به إلي المغرب‏:(‏ أرسل لجلال الحمامصي خطاب فصل‏)‏ وتلقي الحمامصي القرار من سطر واحد يعفي جلال الدين الحمامصي من عمله بمؤسسة أخبار اليوم ولم يكن كمال رفعت بدوره من وقع القرار وإنما عهد به إلي سكرتيره الخاص الصاغ علي إسماعيل الذي سلم القرار إلي الدكتور سيد أبوالنجا العضو المنتدب للمؤسسة وأرفق بالقرار الشيك براتب شهر ديسمبر لعام‏..1960‏ ويسألون الحمامصي لماذا؟‏!‏ فتأتي إجابته‏:‏ لأنني حاربت الفساد في عهد عبدالناصر‏..‏ ومع السادات أيضا كانت للحمامصي حكاية ورواية‏..‏ في‏6‏ يناير‏1946‏ أطلق حسين توفيق الرصاص علي أمين عثمان وكان السادات وراء هذه المجموعة‏,‏ وللاحتياط ولكي يكون بعيدا عن مسرح الأحداث توجه يومها لزيارة جلال الحمامصي‏,‏ وفي التحقيق شهد الحمامصي بذلك وكانت شهادته أبلغ مبرر لبراءة السادات من الاتهام‏..‏ وفي أخريات عهد السادات كان الحمامصي ممنوعا من الكتابة‏!..‏
وليس هناك صحفي قضي حياته في معارك بسبب أفكاره ومواقفه مثلما فعل الحمامصي‏..‏ لم يكن كلامه دخانا يطير في الهواء وإنما نقدا يحرك المياه الراكدة ويعود عليه بالمتاعب‏..‏ اختلف مع عبدالناصر ففصله من الصحافة‏,‏ واختلف مع السادات فمنعه من الكتابة ومن الظهور في التليفزيون‏,‏ واصطدم مع رئيس الوزراء الدكتور عبدالعزيز حجازي حول مياه الحنفيات التي تنزل علي وجوه الناس طينا‏,‏ واصطدم مع حافظ بدوي رئيس مجلس الشعب وقتها بسبب أحد القصور فقال له حافظ بدوي‏:‏ لا تنسي أنني الرجل الثاني في مصر‏,‏ ونسي الرجل الثاني أن الصحفي المقاتل اختلف مع الرجل الأول عبدالناصر‏,‏ ومع الرجل الأول السادات‏,‏ وكشف الحمامصي مبكرا قضية الفساد في شركة هيديكو لصاحبتها هدي عبدالمنعم التي هربت من مصر‏,‏ وكتب متسائلا عن كيفية هروبها ومن ساعدها‏,‏ وضرب مثلا بأن جاسوسا سويسريا هرب من سجنه فاستقال وزير العدل في سويسرا لأنه المسئول عن السجون وبالتالي عن هروب السجين‏..‏ وهو صاحب تحقيق العشرة ملايين دولار التي دخلت ذمة عبدالناصر المالية أيام النكسة من الملك سعود‏,‏ وانبري السادات دفاعا عن ناصر ومهاجما الحمامصي في خطبة عامة‏.‏ ولم تكن انتخابات نقابة الصحفيين هذا الأسبوع وحدها هي التي استدعت في خاطري جلال الدين الحمامصي‏,‏ فهناك تاريخنا الملكي الذي أصبح مكتوبا علينا مشاهدته ليل نهار منذ بداية شهر رمضان وحتي الآن علي جميع المحطات الأهلية والعربية في مسلسل الملك فاروق الذي أتي علي ذكر الكتاب الأسود لصاحبه مكرم عبيد ضد النحاس وكان سببا في اعتقال جلال الدين الحمامصي عام‏1943‏ وراء أسوار معتقل الزيتون لمدة‏18‏ شهرا مع البكباشي أنور السادات والشيخ أحمد حسن الباقوري وموسي صبري والشيخ عبدالمنعم النمر‏..‏ الكتاب الذي شارك الحمامصي في وضعه كنتيجة من نتائج الخلاف الأساسي بين الصديقين النحاس ومكرم‏..‏ ويسأل زملاء المعتقل الحمامصي عن الكتاب فيجيب‏:‏ اتصلت بأحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي وسألته‏:‏ ألا من سبيل لوقف هذا الفساد؟ فرد قائلا‏:‏ لا يمكن أن أتحرك إلا إذا كانت هناك أدلة ووقائع تحت يدي‏,‏ وفي اليوم التالي رويت لمكرم ما دار بيني وبين حسنين فصمت قليلا وقال‏:‏ ما رأيك في أن نجمع الوقائع ووثائقها ثم نضمنها عريضة نرفعها للملك‏..‏ تلك كانت نقطة بداية الكتاب الأسود‏..‏ ويعترف الحمامصي في أكثر من حوار معه في الثمانينيات بأن وقائع كثيرة ذكرت في الكتاب الأسود علي أنها خطيرة وتدين النحاس باشا تبدو له الآن تافهة للغاية مثل ترقية موظف من الدرجة السادسة إلي الدرجة الخامسة بصفة استثنائية أو عن طريق المجاملة‏,‏ أو أن زينب الوكيل زوجة النحاس باشا استغلت نفوذها وأجهزة الدولة في شراء قطعة صغيرة من الفراء وتم ذلك عن طريق برقية أرسلت بالشفرة من رئيس الوزراء إلي سفير مصر في انجلترا‏...‏ يعترف الحمامصي‏:‏ حينما يقال لي الآن أنت كتبت الكتاب الأسود؟ أقول‏:‏ نعم‏..‏ خجلا‏..‏ بينما كنت أقولها عام‏1942‏ افتخارا‏.‏
في مدينة دمياط في أول يوليو من‏1913‏ ولد جلال الدين‏,‏ وفي دمياط التقي وهو في السادسة بالأخوين علي ومصطفي أمين ليصدرا صحيفة طبعوها بالبالوظة‏,‏ وتنتقل الأسرة للقاهرة ليحصل علي الابتدائية من الناصرية وبعدها السعيدية ليفصل في الثالثة الثانوية لاشتراكه في المظاهرات في عهد وزارة إسماعيل صدقي‏(30‏ ــ‏1934)‏ ويلتحق بالجامعة الأمريكية ليلتقي ثانية بعلي ومصطفي أمين‏,‏ ويتزعم مظاهرة فتفصله الجامعة في آخر العام الدراسي ويعود للسعيدية ليحصل علي الشهادة الثانوية ويلتحق بكلية الهندسة جامعة فؤاد الأول ويتخرج فيها عام‏1939..‏ وكانت رحلته الصحفية طويلة منهكة ومرهقة وسببها التمسك بمثالية قد تكون خيالية‏..‏ عمل بجريدة كوكب الشرق لصاحبها أحمد حافظ عوض صديق والده في عام‏1929‏ ثم محررا رياضيا بجريدة الأهرام في العام نفسه ليوقع بلقب الكرباج وهو أول من أقام مسابقة بين فرق كرة القدم بالأقاليم علي كأس في أول مسابقة بمصر عام‏1935,‏ وفي العام نفسه سافر مع وفد مصر للمفاوضات في العاصمة البريطانية‏,‏ وفي عام‏1936‏ وهو طالب بالهندسة كان مساعدا لسكرتير تحرير المصري ومحررا بدار الهلال‏,‏ وفي عام‏1942‏ انتخب عضوا بمجلس النواب وعمره‏29‏ عاما وأسقطت عنه العضوية لعدم بلوغه السن القانونية‏ وبعد المعتقل شارك في إصدار جريدة الكتلة لصاحبها مكرم عبيد‏,‏ وكان يتقاضي راتبا قدره‏170‏ جنيها شهريا تنازل عنها منشقا عن حزب الكتلة لأنه لم يوافق علي الهدنة مع الوفد وتركها ليصدر مجلة الأسبوع عام‏1946‏ التي استمرت ستة أشهر فقط‏,‏ وذلك لضيق ذات اليد وعندما عرض عليه مبلغ خمسة آلاف جنيه من المصروفات السرية رفض الحمامصي وفضل إغلاق المجلة‏,‏ ثم رأس تحرير الزمان لصاحبها ادجار جلاد من عام‏1947‏ حتي عام‏1950,‏ وانتقل لأخبار اليوم كأحد رؤساء تحرير الأخبار التي صدرت عام‏1952,‏ ولمدة عام كان وزيرا مفوضا لمصر في واشنطن‏,‏ وبعدها اختير رئيسا لتحرير الجمهورية‏ وأنشأ وكالة أنباء الشرق الأوسط‏,‏ وترك الجمهورية ليتولي رئاسة قسم الصحافة بالجامعة الأمريكية عام‏1982,‏ وبعدها إلي الأخبار مشرفا علي التحرير‏,‏ ثم في مارس‏1968‏ رئيسا لقسم الدراسات الصحفية بالأهرام‏,‏ وفي عام‏1974‏ يعود رئيسا لتحرير الأخبار ليكتب بابه الشهير دخان في الهواء‏..‏ وتاريخ طويل مدجج بالمواقف الصحفية الحديدية للرجل الذي أقنع والدته سليلة عائلة العلايلي الدمياطية لتبيع أرض أسرتها في دمياط رغم معارضة الأسرة ليتقدم بالثمن إلي صاحبي أخبار اليوم صديقي عمره علي ومصطفي أمين ليضعا أسس بناء أول دار صحفية مصرية عصرية عام‏1950‏ وكانت أحلامهما تفوق العصر‏,‏ وأبدا لم يذكر الحمامصي طوال حياته أنه ساهم في تشييد هذا الصرح لنظل نقول ويقول معنا الحمامصي أخبار اليوم لصاحبيها علي ومصطفي أمين‏..‏ الحمامصي‏..‏ من قالت عنه شريكة حياته ابنة عبدالحميد سليمان باشا ووالدتها كريمة إسماعيل باشا سري وشقيقة حسين باشا سري‏..‏ الزوجة التي كانت تكتب مقالاتها في مجلات دار الهلال تحت اسم مستعار نوال والتي أنجبت له ثلاثة أبناء‏:‏ محمد كامل عام‏1950‏ وفاطمة‏1952‏ وقسمت‏..1954‏ قالت عنه‏:‏ صريح واضح وجوانبه كلها ظاهرة‏..‏ هادئ عاشق للصحافة‏..‏ يهمه أن يعرف أكبر عدد من الأصدقاء والناس ووسيلته في ذلك الرحلات‏,‏ كما أنه عاطفي وإن كان لا يعتني بإظهار عواطفه ويقرأ كثيرا ويصوم ويصلي ويحترم مواعيده حتي أنهم في عمله يضبطون ساعاتهم علي حضوره وانصرافه‏..‏ الحمامصي رجل الساعة من شدة انضباطه كان يلتقي علي كوبري قصر النيل في التوقيت المحدد مع رجل الساعة الآخر نجيب محفوظ فكلاهما حدد ساعته لرياضة المشي فيلتقيان كل صباح عند نقطة منتصف الكوبري بالضبط‏,‏ ويلتقيان أيضا كل صباح علي صفحات الأخبار عندما يقرأ نجيب للحمامصي مقاله اليومي دخان في الهواء‏..‏
ويقول الحمامصي‏:‏ ولقد تابعني الأستاذ نجيب في معركتي مع البنك العربي الإفريقي الدولي عندما كنت أقول إن رئيس البنك أساء إلي اقتصاد مصر‏,‏ وأنه يجب أن يخرج‏,‏ وعندما حققت حملتي أهدافها وخرج قابلني نجيب محفوظ في هذه المرة في نقطة منتصف الكوبري ولم يتكلم إنما رفع أصبعه إلي السماء مشيرا إلي أن هذه إرادة الله‏....‏ وتحاول الزوجة أن تثنيه عن موعد مشواره الأخير‏..‏ لقد فرغ من غدائه وآن وقت المشي في نادي الجزيرة‏..‏ وتلح ويصمم‏,‏ فتصحبه إلي منتداه وممشاه‏,‏ حيث اعتاد أن يسارع إلي هناك كل يوم متريضا ومتأملا‏,‏ وبينما يسيران ويتحدثان تصله الدعوة فتلبي روحه في أوانها راضية مرضية‏.‏ وإذا ما كان لجلال الحمامصي جانب من السياسة والصحافة معروف للجميع فله جانب من الإيمان بينه وبين ربه لم يلحظه سوي الراصدين‏..‏ ما مضي به فجر إلا وكان بين المصلين في مسجد الحسين‏,‏ حيث يذهب يوميا من بيته بجاردن سيتي إلي الحسين سائرا علي قدميه ليصل هناك قبل الفجر بثلث ساعة‏,‏ وما يأتي عصر خاصة طوال رمضان إلا ويصليه بمسجد السيدة نفيسة ليمكث قارئا القرآن لا ينصرف إلا قبل آذان المغرب بدقائق‏..‏ كان إيمانه بالله قويا عميقا‏,‏ وكان سره أنه كان يصلي كلما خرج لمعركة طاحنة مع المفسدين صلاة التسابيح في جوف الليل والناس نيام حتي صدق فيه القول الطاهر‏:‏ عبيد‏..‏ ولكن الملوك عبيدهم‏!..‏ عبيد لله وحده‏..‏ فلم يول عليهم غيره‏..‏ أغناهم عن كافة عباده‏..‏ أخطأوا نعم‏,‏ لكنهم استغفروا‏..‏ أذنبوا نعم‏..‏ ولكنهم تابوا ولهذا أحبهم ربهم‏!‏ فالله يحب التوابين‏..‏ يمضي السؤال وراء السؤال علي مدي‏60‏ عاما صحافة وأكثر من‏20‏ كتابا في السياسة والصحافة أولها الكتاب الرائد حول جنوب الوادي عام‏1949‏ ماذا في السودان‏..‏ وتتوالي إجابات الصحفي التليد التي تملأ مجلدات لا نستطيع أمام قلة حيلتنا سوي اختطاف الشهاب‏:‏ والدي كان شاعرا وأديبا ومستشارا لأحمد شوقي الذي كانت بيننا معه صلة قرابة ونسب‏..‏ خالي متزوج ابنته‏..‏ وما من قصيدة أو مسرحية شعرية كتبها شوقي إلا وقرأها علي مستشاره اللغوي كامل الحمامصي‏..‏ أبي‏..‏ وكان شوقي كمثال لا يشاهد مسرحيته مجنون ليلي إلا وبجواره أبي فإذا أراد أن يغير كلمة في بيت من الشعر فإنه لا يبدي رأيه للمخرج عزيز عيد أو أحمد علام وفاطمة رشدي قبل أن يقر أبي هذا التغيير‏..‏ أنطون الجميل باشا رئيس تحرير جريدة الأهرام كانت له جلسات في مكتبه يحضرها الوزراء والأدباء والشعراء فكانوا إذا اختلفوا في شيء أو بشأن تفسير كلمة يلجأون لوالدي أو يطلبونه بالتليفون ليسألوه رأيه‏...‏ وكان ارتباطي بأمي مختلفا كانت أشد من والدي تخاف أن تأخذني الصحافة عن دراستي بل كانت مصرة علي امتناعي عن العمل الصحفي تماما‏..‏ عادتي في الكتابة مع الصباح أن أعمل فنجان قهوة وأخرج أمشي وخلال المشي تتكون خطوط الموضوع وتطرأ جملة أو فكرة فأدونها في ورقة أحملها في جيبي‏..‏ فصلت من الصحافة لأن عبدالناصر لم تكن تعجبه مقالاتي وقال عني إنني ممرور أي ملئ بالمرارة‏..‏ مازلت أتمني بعد الرحلة الطويلة أن أصدر صحيفة مثالية‏,‏ والمثالية الصحفية في رأيي هي الحقيقة المحبوسة‏...‏ أصدقائي ولله الحمد أكثر من الأعداء‏,‏ وعندما أصدرت كتاب حوار وراء الأسوار ناصبني الناصريون العداء بصورة مفزعة متصورين أن السادات هو من أوحي لي بالكتاب‏,‏ وهذا غير صحيح ولعله كان دافعا له لمهاجمتي في مجلس الشعب‏,‏ وعندما بدأت أكتب في عهد الرئيس السادات ضده آمنوا بأنني أكتب بوحي من ضميري وما أؤمن به فإذا ما كانوا أعداء فهم أعداء رأي‏...‏ عندما كان علي أمين منفيا في الخارج وأراد أن يعود إلي مصر أرسل لي خطابا يطلب فيه ذلك وأردت أن أوصل الخطاب للسادات وكان في ذلك عملا إنسانيا فطلبت فوزي عبدالحافظ سكرتيره وقلت له إنني أريد مقابلة الرئيس‏ ولما لم يرد طلبته مرة أخري‏,‏ ولم يرد أيضا فتوقفت عن الاتصال‏,‏ وظل خطاب علي أمين في جيبي إلي أن عاد من لندن عن طريق اتصال آخر‏,‏ وما أريد أن أقوله إن من طبعي ألا أقترب من الزعامة لأنها تحرمني من حريتي في أن أنتقد ما أشاء‏,‏ وأضرب مثالا علي ذلك أنني كنت من أقرب الصحفيين لعبدالناصر وكنت أحبه جدا وهو الذي اختارني لرئاسة تحرير الجمهورية وإنشاء وكالة أنباء الشرق الأوسط‏,‏ وعندما تقترب من شخص تحبه يجب أن تخلص له النصيحة‏,‏ وكان ناصر يستمع لي في البداية ثم تحول إلي شخص آخر ينفر من هذه النصيحة ويضيق بها‏ وأنور السادات تجنبني لأنه كان يعلم عني هذه الطريقة في التعامل مع الحاكم‏..‏ عيب أنور السادات أنه صبور أكثر من اللازم وأن تنفيذ خططه يأخذ وقتا أطول من اللازم ولهذا ظل الناس طويلا غارقين في عدم الفهم‏...‏ نعم كانت لي قصة حب وأنا لم أزل طالبا في كلية الهندسة‏,‏ وهل هناك إنسان ليس له قصة حب؟‏!‏ كان هدفي أن أقيم حياة زوجية‏,‏ وصحيح هناك القول بأن الصحفي يتزوج الصحافة لكن إذا جاءت من تقبل أن تكون لها ضرة فلا مانع‏,‏ والإنسان إذا وقع في الحب لا تسأله لماذا أحب؟‏,‏ ووقتها واجهتني أزمة شديدة فقد دخلت معترك الحياة السياسية والصحفية‏,‏ وهذا مما يقودني إلي المعتقل والحبس مسوقا للمجهول‏,‏ ومن هنا حكمت صوت العقل وضغطت علي قلبي وعواطفي فما ذنب تلك الإنسانة التي سأتزوجها‏,‏ ومعظم أوقاتي في الحبس‏.‏ أستاذي‏..‏ جلال الدين‏..‏ سامحناسامحنا‏..‏ فقد خان معظمنا بنود الميثاق والقلم‏.‏مهندس الصحافة‏..‏ إن القراء بالكلمات قد كفروا وبالكتاب قد كفروا وبالصحافة والصحفيين وبالمانشيت والصفحة الأولي وصاحب العمود الرأسي وبالعرض وبالنقد وبالتصريحات والإعلان والنعي والكاريكاتير والصور قد كفروا‏...‏ فلماذا القلم حين يخون لا يستل سكينا وينتحر؟‏!‏ أمير الحرف‏..‏ صاحب القلم الذي لم يمسح الغبار عن أحذية القياصرة‏.‏ ‏
المغامر العنيد‏..‏ من كان يكتب بالسكين ويعلمنا كيف يكون الحرف سكينا‏.‏ كيف نفجر في الكلمات ألغاما‏..‏مرفوع القامة والهامة‏..‏ يا من أردت الحقيقة لا أكثر ولا أقل‏..‏ بلا إثارة‏.‏ ورفضت المانشيت الأحمر‏,‏ ورأيت أننا نسرق حق القارئ في أوراق صحيفته بالإسراف في ضخامة العناوين‏..‏ المحترم‏..‏ من اكتسب احترامه من استقلاله فلم يحسب علي أحد وإنما حسب علي قلمه وموقفه الشخصي‏.‏الناقد‏..‏ بالمستند والدليلالجرئ‏..‏ في المواجهةالصحفي‏..‏ بالموهبة والهواية والحرفة‏..‏ من رفع شعارا بأن الصحفي ملك الشعب‏,‏ وأن الكتابة ليست أكل عيش‏,‏ وأن الصحافة مهنة بلا أتعاب‏,‏ وأنه من العار تحول حقوقنا إلي هبات‏,‏ وأن حرية الصحفي أن يكتب لحريات الآخرين‏,‏ وأنه في الصحف القومية حرية صحفيين وليس حرية صحافة‏,‏ وأن أمانة الصحفي في أن يعبر عن ضمير الناس ويحفظ أسرارهم‏,‏ وهي رأس المال الوحيد الذي يتضخم دوما مهما خوت الجيوب‏.‏ المعلم‏..‏ من كان يحب اختلاف تلامذته معه ولا يختلف هو معهم‏..‏ الصلب إلي حد العناد‏..‏ كنت تكتب وتنقد وتجد من يرد عليك‏..‏ الآن يا طويل البال نحن نكتب وننقد ونكشف ونفضح ويتركنا المنقود نهوهو في ساحة اللاجدوي ونعض في الأرض دون أن تمتد لنا يد ترفعنا من علي الأرض‏.‏ صاحب دخان في الهواء‏..‏ الذي أطلقته فوضحت الرؤية ولم يكن سحابة مريبة سوداء تخنق الأنفاس والرؤية‏.‏أستاذ أخلاقيات الصحافة‏..‏ يا من أرضعتنا حليب التحدي ورددت في مسامعنا أن الكلمة الحقيقية هي الكلمة الناقدة‏,‏ وإذا ما كان نزار قباني قد قالها بأن الكتابة عمل انقلابي فقد كنت أنت قائد كتيبة الانقلاب في الصحافة الذي ارتأي أن التصفيق قد يغرق بينما النقد يحذر من الوقوع في المطب‏.‏ المحارب‏..‏ مقاتل برتبة صحفي سلاحه القلم وقلمه السلاح‏..‏ من دخل الميدان متبوعا لا تابعا‏..‏ يسبح ضد التيار ولا يبالي‏..‏ يمارس الصحافة ليعلنها حربا لا هوادة فيها ولا مهادنة ضد المحتل الخارجي والفساد الداخلي‏.‏المستقيم‏..‏ مثال للمثل القائل امشي عدل يحتار عدوك فيك ولقد عجز كل من حاول الهجوم عليك في أن يجد بقعة سوداء في ثوبك الناصع‏.‏مهندس العبارة خريج العمارة من عهدته يمشي في ردهات الصحافة بأسلوبه الرياضي المشرق مرتديا قفازا طويلا أسود يحمي به أكمام دوق الصحافة من بقع حبر الطباعة المغموس فيها ليل نهار‏..‏ من ظل يمشي لنهاية المشوار لا يري أو لا يريد أن يري أن جلودنا قد أصبحت ميتة الإحساس‏,‏ وأرواحنا تشكو من الإفلاس‏,‏ وأيامنا تدور بين تقديم أوراق الالتماس والنعاس‏,‏ وأننا أبدا لسنا خير أمة قد أخرجت للناس‏..‏ لكنه‏..‏ حتما رأي‏..‏ بدليل عنوان كتابه الأخير القربة المقطوعة‏,‏ وبدليل قوله قبل النهاية‏:‏ ماليش نفس أكتب‏..‏ لا أشعر بأي رغبة في الكتابة ثم أضاف‏:‏ اللي نبات فيه نصبح فيه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق