السبت، 22 أغسطس 2009

جوته مسلما..بقلم سناء البيسي

لأنه ولأنه ولأنه ولأنه ولأنه‏..‏ هرعت في شوق إليه أقف في طابور الانتظار لزيارة بيته لأطوف في أرجائه وأتملي من أشيائه وأغوص في عالمه وألمس ذا الجدار وذا الجدار‏..‏ لأنه كان الأديب العبقري الشاعر الإنسان المفكر الرسام رجل القانون والعلم والطب والسياسة ورئيس الوزراء‏..‏ لأنه كان أحد رباعية قمم الأدب الغربي‏:‏ شكسبير وهيروموس ودانتي و‏..‏ يوهان فولفجانج جوته‏..‏ لأنه كان منصفا‏..‏ لأنه وقف شامخا ضد التيار‏..‏ لأنه قال كلمة الحق‏..‏ لأنه وجد الشرق والغرب يلتقيان‏..‏ لأنه الألماني ابن فرانكفورت الذي شغف بالإسلام وشريعته‏,‏ والقرآن وبلاغته‏,‏ ومحمد ورسالته‏..‏ لأنه كان قاب قوسين أو أدني من أن يغدو مسلما أو أنه بالفعل كان مسلما كما تعكس سلوكياته مثل صيامه رمضان مع المسلمين‏,‏ وتردده علي أحد المساجد للصلاة فيه‏,‏ ومشاهدته يصلي الجمعة مع بعض الجنود الروس المسلمين في‏27‏ يناير‏1814‏ في مدينة فايمر‏,‏ وحفظه لآيات عديدة من القرآن الكريم‏,‏ وعقده جلسات في أحد قصور الأمراء لتلاوة آي الذكر الحكيم‏,‏ واعتكافه في العشر الأواخر من رمضان‏,‏ وعزمه عند بلوغه السبعين علي الاحتفال بالليلة المقدسة التي نزل فيها القرآن الكريم ليلة القدر‏,‏وتقبله التهنئة في الأعياد والمناسبات الإسلامية‏,‏ ورفضه فكرة الصلب المسيحية لدرجة نطقه مرتين بالشهادتين في كتاباته‏,‏ وتدوينه مئات الصفحات يمجد فيها ويمدح المصطفي صلي الله عليه وسلم‏,‏ وقراءاته ومحاكاته للمعلقات السبع‏,‏ ومحاولاته الدؤوب لإتقان الخط العربي للاقتراب من روح الشرق التي غزت قلبه وتملكته فمضي منقبا في لغات الشرق وآدابه‏,‏ ليصف الشعر العربي في الجاهلية والإسلام بأنه ترانيم سماوية‏..‏ لأنه وصف أمة العرب بأنها أمة شجاعة باسلة لا تهاب الموت‏,‏ بل إن الموت يهابها‏..‏ لأنه من فرط إعجابه برسالة محمد صلي الله عليه وسلم نطق شعرا يقول‏:‏ إذا كان الإسلام يعني التعبد لله فإننا جميعا نعيش ونموت مسلمين‏..‏ ولأنه عندما عكف علي تراجم السيرة النبوية للمستشرقين أدرك عالمية الدعوة ليقول‏:‏ ما كان لهذا الفيض النوراني أن يبقي مقصورا علي الصحراء يغيض في رمالها وتمتصه شمسها ويصده الكثيب‏....‏ ولأنه ولأنه ولأنه ولأن رمضان جانا وفرحنا به وجدت في جوته خير استهلالة لرمضان‏..‏ أهلا رمضان‏.‏عندما أتت ذكراه الـ‏250‏ وأعلنت ألمانيا أن عام‏1999‏ هو عام جوته وصلتني دعوة رسمية ألمانية فسافرت وقتها من بيتي القاهري لبيته الصغير الذي ولد فيه بمدينة فرانكفورت الواقعة علي نهر الماين في شارع جروسن هيرشجرابن في الثامن والعشرين من أغسطس عام‏1749,‏ وتجول السياح الذين بلغت أعدادهم في ذلك العام ما يزيد علي خمسمائة ألف زائر‏,‏ وكنت سائحة بينهم في حجرات الحقيقة والخيال كما وصف جوته بيته في مذكراته‏..‏ بيت من أربعة طوابق يملؤه الضياء والبهجة التي أصابتها الطعنة في الصميم بقذيفة مباشرة في الحرب العالمية عام‏1944‏ فتحول الضياء إلي تل من الظلام والرماد والدخان‏..‏ ولكن ماذا فعل الألمان؟‏!..‏ في نفس المكان عاد البيت من جديد‏..‏ تبرع الشعب الألماني لمسقط رأس سيد الشعراء والمفكرين وقاموا بتشييد نسخة طبق الأصل من البيت التاريخي القديم‏,‏ بالاستعانة بأكثر من‏15‏ ألف مخطوط و‏300‏لوحة تعكس صور الحياة المختلفة في عصر جوته بألمانيا‏,‏ وساعد الحظ أنهم كانوا قبل الحرب قد نقلوا جميع الأثاث القديم بما فيه من لوحات بريشة جوته ومحتويات المكتبة والمتحف ــ وكان قد تم إلحاقهما بالبيت في عام‏1896‏ ــ واستمرت عملية مخاض البيت من رحم العدم لمدة أربع سنوات ليطل من جديد بنفس مواصفاته الأولي‏..‏ الأربعة طوابق المشيدة بالطوب الأحمر علي طراز المباني الألمانية في القرن الثامن عشر‏..‏ والحديقة الصغيرة المحيطة التي كانت ملعبا لجوته وشقيقيه يعقوب وكونيليا‏..‏ وألوان الحوائط بطابعها القديم ليظهر بعضها مهترئا لاكتساب إطار الواقعية‏,‏ وحتي مسامير الأرضيات الخشبية التي تم إحصاؤها عادت مثيلاتها لتثبت الألواح المستطيلة‏,‏ وعندما تعذر وجود نفس النوعية من ألواح زجاج النوافذ القديمة تقدمت إحدي شركات الزجاج في والدشين في بافاريا بفتح خط إنتاج خاص لصنع زجاج يماثل المواصفات القديمة للقرن الثامن عشر‏.‏أزور البيت الجديد القديم لأقف علي حافة البئر في منتصف الساحة الداخلية أكبل اندفاعة يدي المتهورة حتي لا تقوم بالضغط علي طلمبة الماء التي كانت فراو رات ابنة عمدة فرانكفورت أم جوته تجلب بواسطتها ماء البئر لاستخدامات أسرة ميسورة الحال‏..‏ الوالد فيها يوهان كاسبر جوته كان مستشارا للأسرة المالكة وهاويا لاقتناء اللوحات الفنية والنباتات النادرة‏,‏ والجد كان خياطا جاءه طالع السعد في صورة زوجة تملك فندقا يدر عائدا ضخما‏,‏ فانقلب الخياط الماهر إلي مدير فندق أمهر‏,‏ ولكن مهنته القديمة ظلت تطارد بصداها كلا من الابن ومن بعده الحفيد فلا يلقيان الحظوة لدي مجتمع الأشراف حتي منح جوته اللقب الألماني الجليل‏Von‏ فأصبح‏VonGoethe‏ ليمضي به قدما تفتح أمامه أبواب المجتمع الراقي‏..‏ وظل الأب يوهان ينشد لأبنائه رفعة المقام فأتي لهم بالمعلمين تحت إشرافه فقاموا بتلقين جوته اليونانية والإيطالية والفرنسية واللاتينية إلي جانب لغته الأصلية الألمانية ليجيدها جميعا قراءة وكتابة وهو لم يبلغ بعد الثامنة‏,‏ وفي التاسعة تعلم الإنجليزية‏,‏ وبعدها ألح علي والده تعلم العبرية ليدرس التوراة بلغتها الأصلية‏..‏ ويكتب جوته عن تأثره بأبيه وأمه‏:‏ من الأب ورثت القامة والصرامة والنظرة الجادة إلي الحياة‏,‏ومن الأم الصغيرة صفاء النفس والمرح‏..‏ وكان جوته يقصد بتعبير أمه الصغيرة أن والده كان يكبرها بأكثر من ثلاثة وعشرين عاما‏..‏ ونزولا علي رغبة الأب يرحل جوته إلي لايبزج لدراسة القانون‏,‏ حيث لم تنل درجة نجاحه المستوي اللائق‏,‏ وهناك يلتقي بحبه الأول أنا كاترينا ليكتب أول دواوين أشعاره أنيته‏Annette,‏ ويعيد مناقشة رسالته في القانون في مدينة شتراسبورج التي كتبها باللاتينية تبعا لنظام ذلك العصر‏,‏ وكانت تشتمل علي‏56‏ قضية قانونية منها قضية حول الحكم علي امرأة قتلت طفلا رأي جوته أن عقوبة الإعدام هي الحكم المناسب فيها‏,‏ وقد تناول هذه القضية أدبيا في مسرحيته جريتشن المأساوية‏..‏ ويأتيه وهو في الخامسة والعشرين خبر انتحار أحد أصدقائه الذي تلهمه مأساته كتابة روايته آلام فرتر علي هيئة خطابات جميعها صادرة من الأنا‏,‏ وهذه الخطابات لا تجد ردا من العالم الخارجي‏,‏ إنها قصة حب تبدأ في الربيع وتنتهي في الساعة الحادية عشرة مساء يوم‏23‏ ديسمبر توقيت بدء الشتاء أي بدء موت الطبيعة عندما يهزم فرتر في حبه أمام خصمه فيقرر أن يذهب إلي الغابة ويطلق الرصاص علي نفسه‏!..‏ ولقد أدي ظهور هذا الكتاب إلي انتشار مرض مميت لدي المراهقين وقتها عرف باسم حمي فرترفقد أخذ عشرات من شباب أوروبا الفاشلين عاطفيا يذهبون إلي الغابات في نفس ملابس فرتر وينتحرون بنفس طريقته في نفس اليوم المشئوم‏23‏ ديسمبر‏,‏ وتصل أصداء آلام فرتر السلبية لكاتبها جوته فيضطر آسفا علي ما جنت يداه إلي كتابة روايته الجديدة انتصار الحساسية‏TriumphderEmpfindsamkeit‏ بهدف التقليل من كآبة آلام فرتر والسخرية من العواطف الساذجة لدي ضعاف الأحلام‏..‏ولا يذكر جوته إلا وتحتل رائعته فاوست الواجهة‏..‏ فاوست الرجل الذي باع روحه للشيطان وانتهت حياته بالعمي فضاق بتعليمات الشيطان التي جرت عليه خيبة الأمل‏,‏ ولم يجد السعادة التي كان يرقبها‏,‏ فأراد أن يكفر عن خطئه بتجفيف أراضي المستنقعات ليسكنها المشردون والفقراء‏,‏ وهكذا انتصر فاوست علي الشيطان عندما يمم بفطرته في اتجاه النور الإلهي‏..‏ولقد انعكست شخصية فاوست التي ابتدعها جوته علي أعمال عدد كبير من كتابنا في مصر منها أهل الكهف لتوفيق الحكيم‏,‏ ودموع إبليس لفتحي رضوان‏,‏ وانت اللي قتلت الوحش لعلي سالم‏,‏ وعبد الشيطان لمحمد فريد أبوحديد‏,‏ وفاوست الجديدة لأحمد علي باكثير‏.‏وكما في حياة كل منا يدفع القدر بأشخاص في طريقنا دون سابق معرفة أو ترصد أو موعد مسبق ليلعبوا أدوارا مهمة في تحويل مستقبلنا كلية‏..‏ من هؤلاء التقي جوته بالشاعر والفيلسوف الألماني فريدريك فون شيللر‏1759‏ ــ‏1832‏ في إحدي المحاضرات عن النبات في دار جمعية التاريخ الطبيعي لتتوثق الرابطة علي مر السنين رغم اختلاف ظروف وطباع كل من الشاعرين‏..‏ كان جوته في الخامسة والأربعين وشيللر أقل منه بعشر سنوات‏,‏ وكان جوته علي سعة كبيرة من العيش بينما نشأ شيللر في فقر وعاش في ضنك‏,‏ وكان جوته قوي الجسم علي عكس شيللر الواهن العضلات‏,‏ وكان جوته ريالست واقعيا عاشقا للطبيعة بينما شيللر خياليا يلتمس المثل العليا أيديالست‏,‏ وكان جوته يعمل في أول النهار وشيللر من عشاق الليل والسهر‏..‏ وكان جوته يسكن في منزل رحب بينما تضم شيللر جدران غرفة صغيرة‏..‏ ورغم الاختلافات الكبيرة إلا أن الرابطة بين قلبيهما كانت عميقة‏,‏ وصداقتهما كانت أهم شيء في تاريخ كل منهما‏,‏ وعندما حاول الحاسدون زرع بذور النفور بينهما وبدأ التعصب لكل منهما يطفو علي السطح‏:‏ فريق لجوته وفريق لشيللر رد عليهم جوته بأنه أولي بهم أن يحمدوا الله لأن لديهم شاعرين لا شاعرا واحدا‏.‏ويلتقي جوته بنابليون بونابرت الذي احتلت جيوشه ولاية فيمار انتقاما من الأمير كارل أوجست لأنه آوي بعض الجرحي من جنود وطنه الألمان‏,‏ وغضب جوته للظلم الذي وقع علي صديقه الأمير مع أنه لم يفعل سوي ما يحتمه الشرف والضمير‏,‏ ولكن سرعان ما تحسنت العلاقة ليستدعي نابليون جوته إليه في‏2‏ أكتوبر‏1808,‏ ولما وصل كان الإمبراطور يتناول إفطاره ومعه تاليران ودارو وبعض حاشيته‏,‏ فسأل جوته عن عمره وكان قد بلغ الستين فقال الإمبراطور لقد أحسنت في الحفاظ علي قوتك‏,‏ وأخذ يتحدث عن الأدب وكتاب محمد لفوليتر ومدح كثيرا آلام فرتر وقال إنه قرأها سبع مرات أثناء حملته علي مصر‏,‏ وناقش جوته في بعض أجزائها وسأله عن مدي صلة أحداثها بواقعه‏,‏ وانتهي الحديث الذي اقترب من الساعة‏,‏ وبمجرد خروج جوته التفت نابليون إلي من معه قائلا عبارته الشهيرة‏:Voilaunhomme‏ بمعني هذا هو الرجل والرجال قليل‏..‏ وبعد تلك المقابلة بأيام كان اللقاء الثاني بين بونابرت وجوته في حفل أقيم للقائد المنتصر الذي عاود الحديث الطويل مع جوته ليقترح عليه تأليف رواية عن يوليوس قيصر وعظمته والخيرات الهائلة التي كان منتظرا أن يغمر بها العالم لو لم يقض عليه‏,‏ وكذلك دعاه لزيارة باريس‏,‏وقبل سفر نابليون أنعم بنيشان اللجيون دونير علي جوته الذي لم يشارك الألمان فرحتهم في سقوط نابليون بعد تحالف دول أوروبا عليه‏,‏ وكان نابليون هو العامل الأكبر في إيجاد فكرة الوحدة الألمانية فقد اجتمع الألمان علي بغضه والرغبة في التخلص من استعباده‏..‏ وليس غريبا في تلك السنين العصيبة‏:‏ سنين إلبا ووترلو ومؤتمر فيينا اتجاه جوته لحياته الخاصة‏,‏ حيث عقد زواجه الرسمي من كريستيان التي أنجبت له الابن أوجست ويعود لها الفضل في كتابته قصائده البديعة المعروفة باسم المنظومات الروحانية‏..‏ ويعود أيضا لتلك الأحداث تحوله عن أوروبا تماما وتركها وراء ظهره ليلتمس وحيا جديدا ومثارا مؤججا للخيال والشعر والروحانيات فوجد ضالته في الشرق وكان مفتاحه إليه أشعار حافظ الشيرازي والمعلقات السبع وغوصة في عشرات المؤلفات الصادرة عن الإسلام عقيدة وشريعة وتاريخا التي قام بها مستشرقون ومفكرون غربيون ومنها الديانة المحمدية للمستشرق الهولندي هارديان ريلاند وكنوز الشرق للمستشرق النمساوي يوسف فون هايمر‏.‏ويلعب الأمير كارل أوجست حاكم دوقية ساكس فيمار بعاصمتها فيمار دورا مهما في حياة جوته منذ التقاه وهو في الثامنة عشرة ليصبحا صديقين حميمين علي مدي خمسين عاما‏,‏ يتخاطبان فيها بلا كلفة وقد يبيتان في دار واحدة بل وفي حجرة واحدة‏,‏ ويقضيان الساعات الطوال في الحديث عن الأدب والفن وشؤون فيمار‏,‏ ويغدو جوته ساعد الدوق الأيمن الذي يقوم بإدارة كافة شؤون المقاطعة‏,‏ ويتدرج جوته في المناصب حتي بلوغ مقعد رئيس الوزراء براتب يوازي‏1200‏ دولار وكان مبلغا لا يستهان به في ذلك الزمان في دوقية فقيرة كإمارة فيمار‏...‏ وإلي جانب مشاغله الوظيفية كانت هناك اهتماماته العلمية‏,‏ حيث اهتدي الشاعر الأديب الموسوعي إلي كشف عظيم في عالم التشريح‏,‏ يثبت فيه وجود عظمة الفك الوسطي في الجمجمة البشرية‏,‏ وكان شائعا أن تلك العظمة لا توجد إلا في جماجم الحيوانات فقط‏,‏ وبذلك الاكتشاف اكتسب جوته أهميته لدي الأوساط العلمية‏,‏ وظل حتي نهاية حياته منشغلا بعلم الألوان ألوان الطيف بهدف تحرير الضوء من تجارب العلماء التقليدية حوله‏.‏ومنذ القرن العاشر عندما بدأت أوروبا تستعد للهجوم علي الإسلام برزت فكرة التشويه والتخويف والإساءة إلي العالم الإسلامي لتبرير الاعتداء عليه وتعبئة الجماهير المتدينة في أوروبا ضده بدعوي استرداد بيت المقدس من أيدي المارقين أعداء الصليب‏,‏ حيث زجوا باسم الصليب لإثارة المشاعر وتطويع المتدينين للمسارعة للتطوع في جيوش الحرب التي أسموها الحروب الصليبية بينما لم يأت ذكر الصليب علي لسان العرب الذين أسموها حروب الفرنجة وظل تراث تشويه المسلمين ودينهم وقرآنهم ورسولهم مستقرا في الوعي الغربي وقواميسه وموسوعاته ومؤلفاته التي يقوم أخيرا بعض الباحثين المسلمين بتنقية المراجع ومناهج التعليم في كل من فرنسا وإنجلترا وألمانيا من التشوهات التي ظلت محفورة علي جدران العقول علي مدي عشرة قرون يرددها الأبناء عن الآباء والأجداد‏,‏ وقد أصدر مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عدة كتب تضمنت خلاصة هذه الأبحاث‏...‏ الأكاذيب والتشوهات التي لم يستطع الخروج عن اسارها أو الانغماس في مستنقعها إلا قلة ناردة من مفكري الغرب المنصفين للإسلام كان علي رأسهم شاعر الألمان جوهان ولفانج جوته صاحب الديوان الشرقي الذي بدأه بهذه الكلمات‏:‏ يا أيها الكتاب سر إلي سيدنا الأعز فسلم عليه بهذه الورقة التي في أول الكتاب وآخره‏..‏أوله في الشرق وآخره في الغرب‏..‏ وهو بهذا المعني الذي يجمع حضارة الشرق بحضارة الغرب يدعو في وقت مبكر ــ وهو ابن القرن الثامن عشر ــ إلي حوار الحضارات علي العكس من الشاعر الإنجليزي رديارد كلبنج صاحب البيت الشهير‏:‏ الشرق شرق والغرب غرب‏..‏ لا يلتقيانجوته الذي فتنته اللغة العربية وأشعارها ومعلقاتها وأدبها وقواعد النحو والصرف فيها وخطوطها ليقول عنها‏:‏ ربما لم يحدث في أي لغة في العالم هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط مثلما حدث في اللغة العربية‏,‏ وإنه لتناسق غريب في ظل جسد واحد‏..‏ ولقد ظل جوته يحاكي المخطوطات الشرقية ويظهر ذلك في ديوانه الذي بلغ فيه المدي من تأثره بالقرآن في روحه وعباراته‏,‏ والقارئ سيذكر من الآيات القرآنية أكثر من واحدة حين يقرأ المقطوعات التالية لجوته‏:‏ لله المشرق ولله المغرب وفي راحتيه الشمال والجنوب جميعا‏,‏ هو الحق‏,‏ وما يشاء بعباده فهو الحق‏,‏ سبحانه له الأسماء الحسني‏,‏ وتبارك اسمه الحق‏,‏ وتعالي علوا كبيرا‏,‏ أمين‏..‏ والناس في ترديد أنفاسهم آيتان من الشهيق والزفير‏:‏ هذا يفعم الصدر‏,‏ وهذا يفرج عنه‏,‏ كذلك الحياة عجيبة التركيب‏,‏ فاشكر ربك إذا بليت واشكر ربك إذا عوفيت‏..‏ ويعمد جوته أحيانا إلي الاقتباس الصريح من القرآن ومن ذلك اقتباسه للآية الكريمة‏:‏ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فيقول في مقطوعة له بعنوان التشبيه‏:‏ لم لا اصطنع من التشابيه ما أشاء‏,‏ والله لا يستحي أن يضرب مثلا ببعوضة؟ لم لا اصطنع من التشابيه ما أشاء‏,‏والله يجلو لي في جمال عيون الحبيبة لمحة من جماله رائعة عجيبة‏..‏ ولقد أورد جوته بعض أسماء الله الحسني في الديوان الشرقي بل لقد حرص علي أن يستخدم لفظ الجلالة حسب نطقه العربي‏Allah,‏ ويذكر جوته أن القرآن يكرر قواعد تعاليمه‏,‏ ويكرر آيات التبشير البشير والنذير في سورة بعد أخري‏,‏ وهو لا يري في هذا التكرار شعرا بعكس ما يراه النقاد الغربيون لأن محمدا لم يرسل برسالة شاعر لعرض الصور المزوقة من الأخيلة والأوهام لاستحداث اللذة وإدخال الطرب علي الأذن‏,‏ بل إن نبض القرآن بعيد تماما عن هذا الوصف‏,‏ وإنما محمد نبي مرسل لغرض مقدر مرسوم يتوخي إليه أبسط وسيلة وأقوم طريق وهو إعلان الشريعة وجمع الأمم من حولها‏,‏ فالكتاب المنزل علي محمد إنما بعث للناس ليحفزهم للإيمان بالله لا لمجرد المتعة والاستحسان‏,‏ ولذلك نراه إذا ما عرض للقصص الديني لم يعرضها معرض التاريخ والأخبار‏,‏ بل يقتصر فيها علي مكامن الحكمة ومواضع الاعتبار وضرب الأمثال‏..‏ وفي قصيدته حيوانات محظوظة في كتاب الفردوس يري جوته أن بعض الحيوانات سعيدة الحظ ستدخل الجنة‏,‏ ومنها حمار المسيح عليه السلام‏,‏ وكلب أهل الكهف‏,‏ وناقة محمد‏,‏ وقطة أبي هريرة لا لشيء إلا لأن النبي الكريم قد مسح بلطف علي رأسها‏:‏وها هي ذي هرة بنت أبي هريرة تموء حول سيدها تلاطفه لتبقي حيوانا مقدسا علي الدوام فقد مسح عليه النبي عليه السلام‏,‏ وفي باب زليخة أضخم أسفار ديوان جوته يوجد العديد من الكلمات العربية مثل الهدهد والبلبل التي يكتبها جوته علي صورتها العربية فيقول‏:‏ أسرع‏,‏ يا هدهد‏,‏ أسرع إلي الحبيبة‏,‏ وبشرها بأني دائما لها وأبدا‏,‏ ألم تكن في الأيام الخوالي رسول غرام بين سليمان الحكيم وملكة سبأ‏!.‏ولقد اختار جوته لفظة‏Divan‏ ديوان التي كتبها بيده علي لغلاف بعدما أحضر بعض المخطوطات الشرقية ليحاكي المكتوب أمامه وذلك ليؤكد شرقية أفكاره‏..‏ ولقد ظهرت أولي طبعات الديوان عام‏1819‏ وقسمه جوته إلي اثني عشر سفرا‏:‏ الشادي‏,‏ حافظ‏,‏ الحب‏,‏ التأمل‏,‏ الحزن‏,‏ الحكم‏,‏ تيمور‏,‏ زليخة‏,‏ الساقي‏,‏ الأمثال‏,‏ الفارسي‏,‏ والفردوس‏.‏وينفتح جوته علي إبداعات الشعر العربي يتجول بين أبيات حافظ الشيرازي والفردوسي وجلال الدين الرومي‏,‏ والسعدي‏,‏ ليتعلق كثيرا بالمعلقات السبع وشعرائها فيقول عنها‏:‏ إنها كنوز طاغية الجمال ظهرت قبل الرسالة المحمدية‏,‏ مما يعطي الانطباع بأن القرشيين كانوا أصحاب ثقافة عالية‏,‏ وهم القبيلة التي خرج منها النبي محمد‏..‏ ابن فرانكفورت الباحث عن الدفء تحت الشمس العربية أحب العرب واقتبس أسلوب تعبيرهم وألف المسرحيات عن شخصياتهم وأحس بالرقة والمرح وإشراق المعني في معلقة امرئ القيس‏,‏ وبالحيوية والجرأة في معلقة طرفة بن العبد‏,‏ وبالرصانة والحكمة والعفة في معلقة زهير بن أبي سلمي‏,‏ والبراعة والأناقة في معلقة لبيد‏..‏ ثم توقف عند الكبرياء والتحدي وجزالة اللفظ في معلقة عنترة‏,‏ والمهابة والفخامة والقوة في معلقة عمرو بن كلثوم‏,‏ ونفاذ البصيرة والشعور بالكرامة في معلقة الحارث بن حلزة‏..‏لقد استطاع جوته أن ينبهنا وينبه قومه إلي كنز أدبي عربي في المعلقات والشعر الجاهلي لا يقل قدرا عن حكايات ألف ليلة وليلة التي شغف الغرب بانطلاقات خيالها‏.‏وكان الرسول محمد صلي الله عليه وسلم من الشخصيات المحورية في مسرحية جوته الشعرية تراجيديا محمد التي كتبها في فصلين أولهما عن البعثة المحمدية‏,‏ والثاني حول معاناة الرسول أثناء تبليغه الرسالة وما لاقاه من المشركين‏,‏ ويقول في أبيات بعثة محمد‏:‏ حينما كان يتأمل الملكوت جاءه الملاك علي عجل‏..‏ أتاه ومعه النور‏..‏ اضطرب من كان يعمل تاجرا فهو لم يقرأ من قبل والملاك أمره بقراءة ما هو مكتوب‏..‏ وأمره ثانية‏:‏ اقرأ فقرأ‏..‏ ويصور جوته شخصية الرسول في القصيدة‏:‏ كنهر بدأ يتدفق رفيقا رقيقا هادئا‏,‏ ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد‏,‏ فيتحول في عنفوانه إلي سيل عارم يجذب إليه جميع الجداول والأنهار المجاورة ليصب الجميع في زحفها الرائع في بحر المحيط‏..‏ بحر الألوهية العظيم‏..‏ وليس أبلغ من إيمان جوته بالثواب والعقاب من قوله علي باب الجنة لإحدي حوريات بوابة النعيم‏:‏ دعيني أدخل‏..‏ لقد عشت رجلا‏..‏ أي أنني كنت من المجاهدين‏..‏ ألا فأمعني النظر في فؤادي‏,‏ واشهدي ما به من جراح الحياة النكراء‏..‏ اشهدي ما به من جراح الحب المستعذبة‏,‏ ومع هذا فما برحت مؤمنا أتغني بمودة الدنيا الدائرة‏,‏ وقضائها في الآخرة حق المحسنين‏..‏ لقد عملت مع صفوة العاملين‏,‏وجاهدت مع خيرة المجاهدين‏,‏ وتألق اسمي مثلهم بحروف من نور في قلوب الأبرار الصالحين‏..‏ وتطبيقا في الاستسلام للمشيئة الإلهية‏,‏ وانبهارا بأسس التعاليم الإسلامية التي تمزج ما بين الشجاعة والمشيئة يتقبل جوته وفاة ولده أوجست بهدوء‏,‏ ولا يتبقي لديه سوي الرغبة في‏:‏ أن يهاجر كما هاجر النبي محمد من مكة إلي المدينة‏..‏ أن يتواجد في مكان آخر بعيد‏..‏ يرحل إلي الشرق النقي‏..‏ إلي‏:‏ إلي هناك حيث الطهر والحق والصفاء‏..‏ أود أن أنفذ إلي أعماق الأصل السحيق‏,‏ حيث كانت الأجناس البشرية تتلقي من لدن الرب وحي السماء بلغة الأرض‏.‏ويظل الحديث عن جوته الشاعر الفحل مجرد إشارة أصبع لفكره وإبداعاته وإسلامياته لنردد من بعده مقولته الأخيرة وهو علي فراش الموت‏:‏ افتحوا النوافذ ليدخل النور‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق