الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

د‏.‏ مجدي يعقوب جــراح القلـوب..بقلم سناء البيسي



فوق الأربعين وربما فوق الخمسين وربما فوق الستين لكن رشاقتها وابتسامتها المشرقة وضجة ترحيبها الأخاذ وتمنياتها لك بيوم سعيد‏haveaniceday‏ كانت تجعل كلماتها علي شفاه الورد وكأنها قادمة من غادة حسناء تحت العشرين بقليل‏..‏ لفتت نظري في مرورها اليومي أمام باب غرفتي المرقمة في دور الرعاية الصحية المرتفعة في ذلك المستشفي البعيد علي حافة القطب الشمالي بولاية كليفلاند الأمريكية‏,‏ وكانت تجر أمامها صندوقها الغامض الأشبه بعربة الجيلاتي الأنيقة المطرزة بمباهج الترغيب من ملصقات ودباديب ونياشين وميداليات براقة‏..‏ وعندما سمح لي بعد أيام من إجراء عملية القلب المفتوح بالتجول مثلها في الممر تعجبت من تلك الأسلاك التي تربطها بالعربة والتي كانت تركنها بجوارها أثناء تدريباتنا اليومية علي رياضة المشي فوق الماكينة الكهربائية‏..‏
وأتي أولادها لزيارتها في عيد ميلادها من ولايات متعددة ليتحلقوا حولها في جلسة مرحة وليعلق كل منهم قبل قبلات التوديع علي جانب عربتها الأنيقة مزيدا من الشخاليل والتذكارات ولمسات المرح‏..‏ و‏..‏ سألتها عن سر العربة أو الصندوق الغامض فعرفت أنه قلبها المؤقت‏,‏ حيث الأسلاك والخراطيم الممتدة تقوم بتوصيلها لأنفاس الحياة في انتظار قلب بشري يوصي به متبرع قبل وفاته ليقوم بمهمة القلب الطبيعي لتعيش حياة طبيعية بلا صندوق‏..‏ وعرفت بأن هناك في ممرات المستشفي الأخري عشرات يجرون عرباتهم ــ معذرة قلوبهم ــ أمامهم في طابور الانتظار الذي قد يدوم أعواما‏.‏
وأعود لبلدي وقلبي الجديد في حجم قبضتي وخمس دماغي وسدس كبدي يؤدي بكفاءة مرتفعة ــ علي الزيرو في البداية وتحت الصفر مع الأيام ــ ما يطلبه منه صحوي ونومي ومعاشي‏..‏ قلبي الشغال بلا انقطاع علي مدي خمسين عاما ضخ فيها‏150000‏ طن من الدماء بما يملأ بحيرة‏..‏ قلبي المتبرم شبه البيضاوي المتجه برأسه للشمال لا يحميه من شظف العيش المغموس بالتوتر سوي الشغاف‏..‏ قلبي الذي أخرجه الدكتور لوب في يده يدقق فيه النظر ليبدل شرايينه التالفة بشرايين جديدة خلقها الله استبن تحت الطلب في جهة ما في الخلفية‏,‏ ووريد تم انتزاعه عنوة من فردة الساق اليمني التي همس لي الطبيب المصري المساعد بأن لوب يستدعي من أجل انتزاعه من موضعه الحساس بأمهر جزار في كليفلاند لبراعته في تشفية العروق وإخراجها سليمة كما وتر الكمان من بين جنبات الشحم واللحم والدهون حتي لا تحدث مضاعفات مزمنة يعيش بها من أجري العملية الخطيرة بقلب تم ترتيقه واستعادة كفاءته‏,‏ وساق معطوبة مهيضة الجناح‏..‏
يومها افتكرت أن الست الحلوة صاحبة عربة الجيلاتي تعيش قصة الوهم الأكبر وأمل السراب للصعوبة البالغة في الحصول علي المراد‏,‏ لكني بعد عودتي وإفاقتي من أدخنة المخدر الكليفلاندي علمت بأنه لم يكن سرابا ولا وهما ولا حلم جوعانة بسوق العيش فقد كانت مستشفي هارفيلد بلندن في ذلك العام بالذات‏1987‏ تحتفل بإجراء العملية رقم‏500‏ لزراعة القلب علي يد الطبيب المصري مجدي يعقوب‏,‏ وفي نفس التوقيت كانت مستشفي بابورت بكامبريدج شاير تحتفل بالعملية رقم‏300‏ لنفس الجراح‏,‏ وكان مستر ديريك موريس أول معمر قد زرع له يعقوب قلبا جديدا في‏23‏ فبراير‏1980‏ ليعيش ويهنأ ويرتع كما يحلو له‏..‏
مجدي بن يعقوب ملك القلوب كما وصفته صديقته أميرة ويلز الراحلة ديانا التي كانت تحرص علي زيارة مرضاه ليلا ــ هربا من مطاردة عدسات الإعلام ــ لتشاركهم آلامهم‏,‏ وفي حديث له مع جريدة ديلي ميرور دافع عنها بقوله‏:‏ إنها لا تشاهد العمليات بدافع الفضول بل لاهتمامها بحالة المريض ومحاولة التخفيف عنه‏,‏ وهي عندما تزور المريض في ليلة العملية تحرص علي العودة إليه في اليوم التالي تحمل باقة ورد وتتمني له سرعة الشفاء‏,‏ ولقد أحدث حضورها لعملية طفل من الكاميرون‏7‏ سنوات في أبريل‏1996‏ عاصفة من النقد مما جعلنا كلنا في المستشفي نشعر بالذنب لما سببناه من ألم لإنسانة تحاول قدر استطاعتها خدمة المرضي‏..‏ وفي محلات الفايد هارودز في قلب لندن كانت ديانا ضيفة الشرف في حفل أقامه محمد الفايد تكريما للسير مجدي يعقوب حضره‏400‏ شخص من بينهم النجم العالمي المصري عمر الشريف ــ الذي تربطه صداقة قديمة بالدكتور مجدي يعقوب
وكان قد أجري له جراحة ناجحة في القلب ــ ومن أشهر المصريين الذين جدد قلوبهم يعقوب كان المخرج السينمائي يوسف شاهين الذي قام بعد إجراء عمليته الجراحية بكتابة وإخراج فيلم سينمائي سيريالي حول القلب وسراديبه ضمن سلسلة أفلام سيرته الذاتية‏,‏ ورقد الأديب الدكتور يوسف إدريس تحت مبضع الدكتور مجدي عام‏…..‏ ليجدد له الشرايين لينطلق إدريس بعدها محلقا مدويا صاخبا متفردا في سماء الإبداع‏.‏ وكان لحضور ديانا الأثر الكبير في حفل الفايد حتي بلغت التبرعات أكثر من مائتي ألف جنيه استرليني لدعم مستشفي هارفيلد لعلاج أمراض القلب التي يجري فيها الجراح المصري العالمي جراحاته الخطيرة‏..‏ ومن المعروف أن ديانا كانت عضـوا رئيسيا في رابطة الأمـل للجراحات الخيرية التي أسسها د‏.‏مجدي يعقوب لعلاج مرض القلب في‏30‏ دولة من دول العالم النامي وعلي رأسها دول الشرق الأوسط وموزمبيق وجامايكا‏..‏ وأخيرا مصر في أسوان‏..‏
ابن بلبيس الذي طاف مع والده حبيب يعقوب جراح وزارة الصحة محافظات مصر التحق بالمدارس المختلفة تبعا لتنقلات الوالد من أسوان لقنا لشبين الكوم لبلبيس للقاهرة مما كان يثير غضبه صغيرا بعد أن يكون في كل منها قد كون صداقات يقطع وصالها الترحال‏,‏ ومن وقتها لم يتوقف عن الترحال لتتسع دوائر صداقاته التي يصنع مرضاه شبكة اتصالاتها الواسعة‏..‏ ابن برج العقرب في‏16‏ نوفمبر‏1935‏ المتميز كأبناء البرج بالذكاء الحاد والتفرد والنبوغ والكرم وبذل النفس في سبيل الآخرين‏..‏ صاحب الأصابع السحرية التي تعزف علي أوتار القلوب المريضة لتغدو بلا علة‏,‏ الذي اشتهر بتذليل المستحيل ليغدو علي يديه طبا تقليديا‏..‏ الذي غادر أرض الوطن عام‏1962‏ بعد تخرجه في كلية طب قصر العيني الخامس علي الدفعة للاحتكاك بالندرة العالمية والعمل تحت لوائها ليحصل علي زمالة كلية الجراحين الملكية ويعين مستشارا لجراحة الصدر والقلب بمستشفي هارفيلد عام‏1969‏
ومنذ ذلك التاريخ وحتي الآن وصلت أعداد القلوب التي زرعها يعقوب‏2400‏ قلبا أضاف لها في بعض الجراحات زراعة الرئتين أيضا‏..‏ ولم يكن خروج يعقوب من مصر مرغما مقهورا ولا مدحورا فظل محتفظا بسماحة المصري الذي عاش علي أرض الوطن قبلما تتوغل في الصدور أحراش الضغائن وتسود الساحة روح التربص ويعلو المنصات أعداء النجاح‏..‏
السير يعقوب بن بلبيس الذي عاش في بريطانيا علي مدي نصف قرن تزوج فيها وأنجب وأقام كبري المؤسسات العلمية ومراكز البحوث والمصحات عندما يعود لبلده مصر لا تعترض جملته كلمة واحدة بالإنجليزية‏,‏ هذا بينما الأجواء من حولنا علي أرض الكنانة أصبح فيها من لا يتكلم بالإنجليزية يعد من قبيل الـبيئة‏!!‏سير مجدي أول مصري وعربي تكرمه اليزابيث ملكة بريطانيا عام‏1991‏ بمنحه اللقب سير الذي يعد أرفع وسام إنجليزي في المملكة العظمي‏:‏ لم أتوقع اللقب فأنا فرد من فريق متكامل لكن الشعب الإنجليزي أرسل مناشدات تطالب بمنحي اللقب فاستجابت الملكة وأنا سعيد بشهادة الشعب خاصة أن اللقب لا يمنح إلا لأسباب سياسية أو رياضية لكنه في حالتنا تم المنح لأسباب مهنية‏..‏ المتواضع الخجول المتوج بحياء العظماء الذين ينحنون خجلا كلما سمعوا عبارات الإطراء رغم استحقاقهم لمعلقات المديح وتماثيل الميادين والذي دخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية لحجم إنجازاته العلمية المتفردة لم تكرمه مصر بجائزة الدولة التقديرية وعندما تسأله مندهشا تأتي إجابته‏:‏ كثرة التكريم أحيانا تبدو وكأنها نوع من عدم التكريم‏.‏
الطبيب المخضرم الذي تعتز به بريطانيا فتمنحه بعد توقفه عن مزاولة الجراحة بالمستشفي الحكومي بلندن لبلوغه الـ‏65‏ عاما منصب المفوض الخاص للحكومة البريطانية للتأمين الصحي الذي يتكلف المليارات‏..‏ المهموم بقلوب البشر لا فرق عنده علي منضدة الجراحة لجنس ولا لدين فهو يوقع باسمه علي الأفئدة من مختلف الجنسيات والأعراق والأديان‏,‏ وأخيرا أجري جراحة القلب المفتوح للمتهم السادس في تفجيرات الأزهر رافضا الإنصات لإيضاحات حاول البعض إيصالها إليه ليكون علي بينة بشخصية مريضه الذي سيجري له الجراحة‏,‏ وعلي علم بتوجهاته الفكرية‏,‏ وما اقترف من أعمال إرهابية‏,‏ لكن مجدي القبطي المصري مد يد العون لأخيه المصري المسلم ليقول‏:‏ مسكين الولد مصيره كان ممكن يتغير وكان ممكن يكون حاجة مهمة مش إرهابي‏..‏ أنا أجريت له عملية جراحية وهو طفل صغير في مستشفي أبوالريش منذ عدة سنوات ولم أتوقع أن يكون هذا مصيره‏..‏
ويسألون الدكتور مجدي يعقوب لماذا كان الاتجاه الدراسي مسددا للقلب وليس للمخ أو للعين فيأتي جوابه‏:‏ كنت لم أزل صغيرا عندما ماتت عمتي الشابة أوجيني في سن الـ‏21‏سنة بسبب ضيق صمام القلب وحزن عليها والدي الطبيب الجراح حزنا شديدا ليهتف في لوعة حرام أن تموت شابة بهذا المرض خاصة أن هناك جراحات بالخارج كان من الممكن أن تنقذها‏..‏ ومن يومها أصبح هذا التخصص مذهبي وهدفي ومستقبلي والتحدي المستمر أمامي لإنقاذ مريض من وراء مريض‏.‏
عاشق زهرة الأوركيد التي يتفاني في زراعتها ليراقب نموها بشغف بالغ ليراها في عينيه تمثل جمال الحياة وتتشابه مع ابنته ليزا في نضارتها‏..‏ ذلك المتفاني يعد أكثر الأطباء تبرعا بدمائه لمرضاه داخل وخارج غرفة العمليات حتي إنه تبرع‏200‏ مرة بدمه منها خمس مرات في شهر واحد حتي وصلت نسبة الهيموجلوبين في دمائه إلي‏7.5‏ مما سبب لديه الشعور بالدوار والخضوع للعلاج‏..‏ صاحب الـ‏12‏دكتوراه فخرية من مختلف جامعات العالم التي أفردت له جريدة التايمز البريطانية في عام‏1978‏ صفحتها الأولي لتقدم يوم في حياة مجدي يعقوب تحت عنوان الجراح النابغة الذي يعزف يوميا لحن الأمل والحياة‏,‏ وتخصص الجريدة ثلاث صفحات من عددها الصادر في‏18‏ يونيه عام‏2001‏ مدعمة بالص

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق