الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

ملالي وملاك إيران‏!! بقلم سناء البيسي

في عسر وضيق شديدين كانت طفولته.. آية الله علي خامنئي المولود بين ستة أشقاء في17 يوليو1939 في مدينة المشهد حيث العتبات الشيعية المقدسة... والده أحد علماء مشهد المعروفين والوالدة ابنة العالم الورع سيد هاشم نجف... آية الله علي خامنئي المرشد الأعلي للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي مدي عشرين عاما الذي يمنحه الدستور الإيراني بموجب المادة57 صلاحيات السلطة المطلقة التشريعية والتنفيذية والقضائية.. خامنئي القائد الأعلي الذي في يده جميع مقاليد الأمور من إملاء خطبة الجمعة علي خطباء المساجد, إلي مراقبة التشريعات, إلي وضع السياسات الخارجية, إلي الإشراف علي الأمن القومي, إلي فحص قوائم المرشحين للفوز بالجوائز الأدبية إلي.. إلي... إلي سيطرته علي العديد من المجالس والأجهزة الحكومية مثل الحرس الثوري ــ120 ألفا ــ فهو الذي يملك وحده قرار تعيين قائده..ولكن... ثبت أنه أدام الله ظله لم تكن له الكلمة الأولي ولا الأخيرة فهناك في مدينة قم في عالم الحوزة ــ جبل الأوليمب الإيراني ــ المراجع الدينية الكبيرة التي فوق السياسة والرئاسة والإرشاد.. هناك آية الله العظمي السيد محمد رضا كلبايكاني صاحب التأثير الطاغي الذي دعا مجلس صيانة الدستور بالأمس إلي أن يكون فوق السياسة, وأن يمارس دوره كقاض محايد بين الأطراف السياسية لا أن يميل لطرف علي حساب الآخر.. ومن هنا تراجع خامنئي عن موقفه وقبل النظر في طعون الانتخابات, وهو الذي لم يقدم عزاءه لأسري القتلي خلال المظاهرات وهو الذي أعلن علي الملأ في خطبته يوم الجمعة الماضي أنه لا إعادة بل هدد المتظاهرين رافعا سقف التشدد في أسوأ أسبوع في تاريخ الثورة الإيرانية بعدما سقط المئات بين قتيل وجريح في مواجهات امتدت من طهران إلي مشهد وشيزار وكرمان وبلغ عدد المعتقلين من سياسيين ومعارضين وصحفيين وطلاب إلي نحو500 شخص هددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور مؤكدا أن النظام في بلاده لن يرحم.قضيت طفولتي في عسر وضيق خصوصا أنها كانت طفولة مقاربة لأيام الحرب, وعلي الرغم من أن مدينة مشهد مسقط رأسي في17 يوليو1939 كانت خارجة عن حدود الحرب فإن وضعنا المادي كان متواضعا للغاية بحيث لم نكن نتمكن من تناول خبز القمح فكنا نلجأ عادة إلي خبز الشعير.. وأتذكر بعض ليالي طفولتي القاسية القارسة البرد حيث لم يكن تحت سقف بيتنا شيء نأكله, فكانت أمي تتودد لي أنا أو أحد أخوتي لتأخذ ما تمنحه لنا الجدة من هبات نقدية لتشتري بها الحليب أو الزبيب لنغمسه مع الخبز.. وكانت مساحة بيتنا التي قضيت فيه السنوات الخمس الأولي من عمري لا تتجاوز60 إلي70 مترا في حي فقير بـمشهد, ولم تكن الدار تضم سوي غرفة صغيرة واحدة ملحق بها سرداب مظلم ضيق, وبعد فترة قام بعض المريدين لوالدي بشراء قطعة أرض بجوارنا وألحقوها ببيتنا ليتسع لثلاث غرف..ويبلغ خامنئي الخامسة ليذهب مع أخيه الأكبر إلي مكتب خانة لدراسة القرآن الكريم, وبعدها التحق بمدرسة دار تعليم الديانات الابتدائية, ومنها لعدة مدارس حكومية ودينية بمشهد والنجف وقم حيث تعلم فيها قواعد اللغة العربية والفقه وعلوم الدين والفلسفة الإسلامية والتاريخ والتراث وعلم الفلك والتفسير علي يد نخبة مميزة من علماء الدين والفقه.. وقد بدأ خامنئي مهمة التدريس التي برع فيها منذ تخرجه مباشرة في المدرسة الابتدائية, وعندما دعا الخوميني إلي الثورة الإسلامية أخذ علماء وطلاب معهد قم الديني علي عاتقهم مهمة نشر رسائله في أنحاء إيران وكان لخامنئي دور مهم في تحريك وحشد الطلاب مما عرضه للاعتقال في حكومة بهلوي, ودام الاعتقال ثلاث سنوات, حيث ألقي في سجن القلعة الرهيب, وهناك هددوه بحلق لحيته بالموسي, وبعدها غيروا رأيهم فقصروها فقط: بعد هذا الفعل( تقصير لحيتي) ذهبت لأغسل وجهيفقال لي ضابط متكبر يستهزئ بي: أرأيت كيف حلقنا لك ذقنك؟ قلت له بهدوء: لم يكن الأمر سيئا فإنني لم أر ذقني منذ فترة طويلة جدا.. وبعد إطلاق سراحه آثر المكوث في مشهد لتدريس التفسير وتحولت محاضراته إلي ساحة للمعارضة السياسية, وكان له دور بالغ الأهمية في حشد وتنظيم الملايين في مسيرات ومظاهرات عامي1977 و1978 مما عرضه للاعتقال ثم النفي إلي أقصي جنوب إيران في سيستان بلوشستان لمدة ثلاث سنوات.. ورغم النفي والبعد عن الولد والأهل حقق نتائج باهرة في الحض علي الثورة, حيث يسحر بثقافته وبلاغته وتحكمه باللغة الفارسية وخطابه الذكي المتوازن والمرتجل في أغلب الأحيان والذي كثيرا ما تتخلله أبيات من الشعر الفارسي العريق ليزيد مستمعيه التهابا, وفي مدة الإقصاء هذه حدث سيل مدمر بالمدينة, فكان علي رأس المجاهدين للإغاثة وأنقذ المدينة من الدمار مما جعل جهاز المخابرات يستدعيه ليقول له قائده انهم قد استشهدوا بعمله البطولي الأعزل الذي لم يقم به المدربون الأكفاء..وفي عام1978 عين الخوميني وهو في باريس مجموعة لتشكيل الحكومة القادمة كان من بينها هاشمي رفسنجاني والسيد الموسوي والدكتور باهنر وخامنئي: كنت في مشهد منهمكا في إدارة شئون المدينة فاتصل بي الشهيد المطهري عدة مرات تليفونيا للذهاب إلي طهران.. وكنت أتصور أنه لأجل الأعمال العادية فأجلت سفري كثيرا إلي أن جاءني من يبلغني من باريس أن الإمام يأمرني بالذهاب إلي طهران, فذهبت علي الفور, وهناك قيل لي يجب أن أشارك في جلسة تعقد في منزل الشهيد المطهري, وهناك علمت أنني عضو في مجلس قيادة الثورة..وعاد الخوميني إلي طهران ليكون خامنئي علي رأس مستقبليه, ويغادر الشاه طهران للمرة الأخيرة في16 يناير1979 وضباطه الكبار ينحنون علي يده مقبلين وعلي وجهه مظاهر الذل والانكسار فمن كان يظن أن أقوي نظام في منطقة الشرق الأوسط سوف ينهار بفعل كلمات شيخ عجوز في المنفي.. وعند سقوط الإذاعة في يد الشعب بعد وصول الخوميني بأيام كان المقال الذي كتبه خامنئي بعنوان بعد الانتصار الأول هو أول ما أذيع من ميكروفون طهران..بعد الانتصار الأول كما أسماه عين وكيلا لوزارة الدفاع, ثم قائدا لحرس الثورة, ثم إماما لجامع طهران, ثم عضوا في مجلس الثورة.. وبعد اغتيال الرئيس رجائي نجح في انتخابات الرئاسة في5 أكتوبر1981 كثالث رئيس للجمهورية, وفي يونيو1981 نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال نفذتها جماعة مجاهدي خلق أثناء إلقائه خطابا في مسجد أبوذر جنوب طهران وذلك عن طريق جهاز كاسيت مفخخ انفجر في ذراعه اليمني ليفقدها قدرتها علي الحركة, ومن هنا يرفع يده اليسري وحيدة عندما يؤم الناس للصلاة التي أصدر أوامره أخيرا بأن يؤذن لها في راديو طهران ثلاث مرات, فالشيعة يجمعون الظهر مع العصر ويسمونها ظهران, والمغرب مع العشاء ويسمونها عشاءان, بينما السنة لا تجمع فيها الصلاة إلا للمضطر, وآذان إيران أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمد رسول الله, وأشهد أن عليا ولي الله.تتدهور حالة آية الله الخوميني يوم الجمعة2 يونيو1989 حيث يعالج من سرطان المعدة في مستشفي طهران وليس بجانبه سوي المثلث الذهبي ابنه أحمد, ورفسنجاني رئيس البرلمان, وعلي خامنئي رئيس الجمهورية.. وتزداد الحالة سوءا يوم السبت3 يونيه لتأتي كلماته الأخيرة لابنته زهراء: اطفئي المصباح.. من أراد أن يبقي ومن أراد فليخرج.. اطفئي المصباح.. ويرحل الإمام دون أن يوصي بشخص معين لخلافته وإن أظهر ميلا نحو خامنئي أكثر من ابنه لسبب غير معروف.. ولم يزعج اختيار خامنئي لمنصب المرشد الأعلي الابن أحمد الخوميني الذي كان حريصا علي تأكيد أن بيت الخوميني لن يرث لا منصبا سياسيا ولا مالا, وبالفعل لم يتول أحمد أي منصب رسمي في إيران حتي وفاته عام1993,وإن أتي من بعده الحفيد آية الله حسين مصطفي الخوميني ليعترض علي ولاية الفقيه التي بني جده الخوميني عليها نظرية الدولة الإسلامية في إيران, مؤكدا أن غالبية فقهاء الشيعة يرفضون تولي علماء الدين السلطة, وأن لا دليل فقهي يبررها, وزاد في هجومه بقوله إن الدولة في إيران سرقت الثورة وتقتل الحريات, ونحن مهتمون بالفلسطينيين بينما لدينا مشاكل أكثر مما لديهم.. وأكد أنه قرر الخروج عن صمته بعدما كان جده الإمام الخوميني قد طلب منه في حياته التوقف عن انتقاد النظام والتفرغ للدراسة..اختار مجلس الخبراء بأكثرية حاسمة آية الله خامنئي الذي لم يكن معروفا آنذاك كواحد من آيات الله الكبار ــ( الملالي) واللفظة من ملة بمعني شيخ وأصلها فارسي كردي ــ وكانت الصورة التي انطبعت عنه في أذهان الإيرانيين مرتديا الكوفية الفلسطينية ملفوفة حول عنقه, بينما تغطي عينيه نظارة كبيرة وهو يتحرك بلباس عسكري علي جبهة الحرب مع العراق يصافح الجنود والمتطوعين.. والألقاب العلمية في الحوزة ترتفع كلما تدرج الدارس في السلم التعليمي حتي يبلغ ذروته.. فإذا كان في المرحلة الأولي سطح المقدمات ومدتها خمس سنوات فهو إما طالب أو مبتدئ, وإذا انتقل إلي سطح المتوسط والمدة ثلاث سنوات يمنح لقب ثقة الإسلام, فإذا ما التحق بـسطح الخارج وهي مرحلة تشبه الدراسات العليا يصبح حجة الإسلام,وإذا ما أجيز للاجتهاد وبالرسالة العلمية مثل الدكتوراه يصبح آية الله, فإذا بدأ يمارس عملية الاجتهاد وأسس قاعدة شعبية في الحوزة يصبح آية الله العظمي, وإذا ما كان منتسبا إلي سلالة البيت فهو يحمل دائما لقب السيد إلي جانب اللقب العلمي, والسادة يضعون فوق رؤوسهم عمائم سوداء لون راية الرسول وشعار الدولة العباسية, أما غيرهم من الشيوخ فالعمائم بيضاء.ومن المعروف ميل آية الله علي خامنئي للقراءة النهمة السريعة وخاصة الكتب التاريخية والروايات, وغالبيتها روسية مترجمة للفارسية, وهو يحب في الأدب الروسي واقعيته وحسه بالقدر وإدراكه لأهمية التاريخ, ويري في الرواية علما قائما بذاته ونقلا لتجارب الآخرين سواء أشخاص أو أمم, وقد قرأ خامنئي علي جبهة الحرب مع العراق عشرات الروايات, ومن ضمن ما قرأ وأعجبه رواية الكاتب الروسي ميخائيل خولوتشوف الفجر الهادئQuietdown وتدور أحداثها حول فكرة الحياة والموت والقدر والوطن ومعني الولاء والانتماء, وعندما سأله أحد المقربين عن رأيه فيما قرأ, جاوبه بنقد كامل للرواية ونمو أحداثها وتصارع أبطالها مما يظهر عينه الأدبية الناقدة..وفي الدوائر القريبة من المرشد أنه محب لأغاني أم كلثوم حريص علي سماع قصائدها, وأنه قد قام بترجمة كتب سيد قطب إلي الفارسية, وشوهد في إيران محتفيا بأحد مشاهير المقرئين المصريين ليصاحبه في كل مكان يرتل فيه آيات ذكر الله الحكيم, وهو الحريص رغم تقدمه في السن علي رياضة تسلق الجبال يوميا بعد صلاة الفجر.. وأحدث أخباره الشخصية شرطه علي مدير مكتبه المتقدم للزواج من ابنته بألا يشتغل بعدها في العمل العام, وإذا ما استدعي الأمر فإنه يبدل ملابسه الدينية بملابس مدنية مثلما تنكر داخل معطف وقبعة بيضاء خلال جولته السرية التي استمرت لأكثر من أربع ساعات لتفقد آثار الزلزال الذي دمر مدينة بام في عام2004.في أول يوليو1994 أي بعد قيام الثورة الإيرانية بخمسة عشر عاما أصدر المرشد الأعلي للجمهورية الإسلامية علي خامنئي الزعيم الروحي الإيراني فتواه بتحريم رابطة العنق الكرافتة بأي شكل من أشكالها, ونصت دعوي التحريم بأن رابطة العنق تنشر ثقافة عدائية غير إسلامية, وترك أمر التعامل مع من يخالف ويرتديها في الشارع أو العمل للشرطة الإيرانية.. وإذا ما كان من بيده مقاليد الأمور في إيران قد تصدي وقتها لفلول الكرافتة فإن المشهد الإيراني كان قد شفرها تقريبا منذ قيام الثورة لتختفي من سطح الحياة في إيران مثلما اختفي الطربوش عندنا, ولعل مظهر الرئيس الإيراني أحمدي نجاد بصدره المفتوح أبلغ دليل علي التزامه بتعاليم المرشد,وإذا ما كان الشارع الإيراني قد تغير مظهره بعد الثورة وانقرضت قيمة التفرقة بين ثياب الصباح وثياب المساء, ولم تعد الوجاهة قيمة يحرص الناس عليها, وغدت مواكب السائرين بالأكفان البيضاء تظهر في المناسبات الدينية فقد ازدادت الصورة قتامة تحت وطأة فتاوي التحريم والمرجعيات وسيطرة العسكر والحرس الثوري وميليشيا الباسيج مع الظروف الداخلية والإقليمية والدولية وأجواء نظام تجاوزه الزمن لايزال يعيش في ظل ذكريات ثورة لم تعد شعاراتها وأهدافها بذات الجاذبية الجماهيرية عند قيامها, خاصة بالنسبة للشباب الذين تقل أعمارهم عن ثلاثين سنة ويشكلون أكثر من ثلثي السكان الذين لم تعد تأسرهم شعارات آبائهم في ثورة79, وليس لكاريزما الخوميني أي تأثير عليهم ويرون في أهل النظام الحالي أطعمة معلبة قد انتهت صلاحيتها وتناولها بشكلها المعروض أقرب إلي تناول الطعام الذي تسربت البكتيريا لخلاياه,وبذلك أنتج النظام الديني في إيران بعد ثلاثين سنة جيلا من الشباب رافضا له ولتجربة تسييس الدين, ومن هنا فقدت الغالبية ثقتها في أجهزة الاتصالات الرسمية فاستبدلوا الموبايل بتليفزيونات الدولة وإذاعاتها, تماما كما استبدل الخوميني زمان الكاسيت بإذاعات الشاه, ورغم تعسف السلطات الإيرانية التي أوقفت حاليا خدمة رسائل الموبايل لقطع الاتصال بين المتظاهرين أو التنسيق فيما بينهم ووضعت ضغوطا علي استخدام الإنترنت فإن التواصل للخارج قد ازداد علي موقع تويتر الذي أسس أصلا للترفيه والذي تلجأ إليه الآن قنوات الـسي إن إن وفوكس نيوز الإخبارية الأمريكية للحصول علي آخر التطورات في إيران, وأصبح تويتر الذي يرسل الشباب الإيراني من خلاله أحدث الأخبار بلغة إنجليزية متقنة هو المورد الرئيسي للصحافة العالمية مثل التايم والنيويورك تايمز التي تفتح أذان صفحاتها لسماع صوت الضجر المتعالي في جنبات إيران..الضجر والمزاج المعتل من شوارع لا ترتدي فيها الفتاة سوي الأسود والرمادي والبني.. الضجر من تأثير المشاكل الاقتصادية وطوابير البنزين وتأثير تقنينه.. الضجر لحد أعتاب الغضب بسبب تقنين الكهرباء التي تنقطع يوميا ثلاث ساعات.. الضجر لحافة الإحباط بسب عدم استخدام الكمبيوتر.. الضجر بسبب خرس الثلاجات والتليفزيونات والمصاعد والأجهزة والآلات خلال ساعات الانقطاع.. الضجر لشفا الانهيار في بلد به ثالث أكبر احتياطات نفطية علي مستوي العالم لكنه يستورد40% من احتياجاته من الغاز الجازولين لأنه يفتقر إلي المواد أو المعرفة اللازمة لتحديث معامل التكرير لديه بما يمكنه من ضخ المزيد من النفط.. الضجر لحد لافتات الرفض لمن يريدونها دولة الشهداء بينما سكانها يريدونها دولة الأحياء.. الضجر إلي حد الدموع تأثرا من القنابل المسيلة للدموع.و.. ذهب الليل.. لا لم يذهب.. وسط الليل يخترق الظلمة صوت نسائي غض يكبر ويكبر ويكبر: الله أكبر.. يجاوبه علي الناحية الأخري صوت آخر أكبر: الله أكبر.. وصوت أكبر أكبر موشي بالغضب بلهجة تشكو لله الأكبر تهفو إليه وتهرع: الله أكبر.. وتنضم لباقة الشكوي الغضبي أصوات لرجال ونساء من كل الأعمار آتية من كل الأرجاء.. من فوق الأسطح ومن منافذ الأرض ومن الأسواق ومن تحت الجلد وتحت السلم ومن بين سحابات الفرن وبين ذرات تراب تثيره الأقدام المولية هربا من طلق النار.. ويصرخ صوت جهوري: يا حسين.. لتردد جوقة الاستغاثة: مير حسين.. ويرتفع الصوت الخشن الآخر: مارغ بار ديكتاتور, مارغ بار ديكتاتور.. لقد دعا مؤيدو المرشح الخاسر مير حسين موسوي الإيرانيين الذين أدلوا بأصواتهم لصالحه بالصعود إلي أسطح منازلهم فيما بين الساعة التاسعة والحادية عشرة ليلا للتعبير عن رفضهم التزوير في الانتخابات,فكان التكبير لأنثي فوق السطح وفي فتحة الشباك وكان له علي الأرض عشرات من نساء إيران علي رأسهم كوكبة تتقدمها زهراء رهنورد بالشادور والحجاب زوجة زعيم الحركة الإصلاحية في إيران مير حسين موسوي, أول امرأة تتولي منصب رئيس جامعة منذ قيام الثورة الإسلامية, وفايزة هاشمي ــ ابنة آية الله رفسنجاني ــ وزوجة حسين مرعشي وإحدي قريباتها وابنتها وشقيقتها اللاتي اشتركن في مسيرة الاحتجاج علي نتائج الانتخابات وتم التحفظ عليهن في أقرب قاعدة عسكرية حفاظا علي سلامتهن من الأعمال الإرهابية التي يرتكبها مثيرو الشغب!!!! وإذا ما كانت فايزة قد أعيدت لبيت والدها ــ الذي ذهب لمدينة قم قلب المؤسسة الدينية في إيران ليبحث في صحبة أعضاء مجلس الخبراء الذي يرأسه مع مراجع الحوزة العلمية هناك طريقة لحل الأزمة ومواصلة الضغط علي المرشد الأعلي لقبول جولة انتخابات ثانية ــ فإنها ليست المرة الأولي ولا الثانية التي تخرج فايزة فيها علي رأس مظاهرة علنية تخطب وتحمس أنصار موسوي مما أدي إلي منعها من السفر هي وشقيقها مهدي رفسنجاني,وليس الميدان السياسي وحده هو ما تمارس فيه فايزة نشاطها فهي تعد أول رائدة نسائية في إيران تؤسس في التسعينيات أول صحيفة متخصصة لشئون المرأة وهي زن وكان لها دور كبير وفعال في تشجيع الصحافة النسائية المستقلة.. و.. يحاول باناهي الطبيب خطيب الشابة الإيرانية الحسناء ندا أغا سلطان25 عاما إقناعها بعدم المشاركة في المظاهرات خشية إصابتها أو اعتقالها فتجيبه: لقد أدليت بصوتي ولم يتم حساب صوتي, لهذا فالمشاركة من أجل الديمقراطية والحرية للشعب الإيراني أمر مهم لابد وأن نحرص عليه حتي ولو أطلقوا رصاصة في قلبي.. وبالفعل أطلقوا رصاصة في قلب ندا ليتابع أحد المتظاهرين بعدسة الموبايل تصوير مشاهد مقتلها في دفقات من الصور أثناء سقوطها علي الأرض مضرجة في دمائها تنزف من فمها وأنفها.. و.. يكبر المتظاهرون اللقطة الأليمة ليرفعونها فوق الرؤوس إلي جانب صور مير حسين موسوي في المسيرات الغاضبة التي ينظمها الإيرانيون اعتراضا علي نتائج الانتخابات الرئاسية, فقد صارت ندا ملاك إيران ورمزا للثورة الخضراء..وتأتي أوامر السلطات بعدم تأبين ندا أو الحداد علي فقدانها بصوت مرتفع ودفنها في صمت وبأسرع وقت ممكن ومنع أي من المساجد الأخري من إحياء تأبين بها.. وتجاب أوامر السلطات ليسود الصمت لكنه السكوت الذي يسبق العاصفة, فدارسة الموسيقي الشعبية الفارسية عازفة البيانو عاشقة الرحلات ندا قد دخلت تاريخ الاحتجاجات رمزا ووقودا لحركات النضال, وأصبح وجهها الملائكي الدامي راية ومشهد مقتلها توءما لمشهد يسكن ضمير العالم كله عندما انهال رصاص الجنود الإسرائيليين علي مدي45 دقيقة علي الطفل محمد الدرة الذي حاول والده عبثا الاختباء به خلف البرميل فتحول إلي رمز الانتفاضة الثانية.... وأصبح مقتل ندا رمزا للمعارضة السلمية من جانبها والهمجية علي الناحية الأخري.وأبدا لا يتركني كفاح فايزة ولا تضحية ندا ولا شموخ زهراء ولا الله أكبر في العاشرة مساء.. لكن الرجل هناك في حوزة قم يشدني يدهشني يبهرني يفحمني يحفزني لصعود جبال الأوليمب لأتقصي أخبار صحته داعية له بطول العمر بعدما بلغ المائة, فهو وحده من فوق سطح الأرض الذي يستطيع أن يلين رأس المرشد آية الله خامنئي, وقد ألانه بالفعل ليجعله ينظر في طعون الانتخابات عندما ذهب إليه رفسنجاني يطلب منه العون كي تتبدد المظاهرات.السيد كلبايكاني أقوي رجل في إيران من خلف الستار والذي يبلغ مقلديه13 مليون نسمة موزعون علي إيران وباكستان وأفغانستان والخليج والذي يعد كيانا ماديا ومعنويا مستقلا لا علاقة له بالدولة ولا بالمراجع الآخرين, والمرجع مثل كلبايكاني له مملكته العريضة التي تتجاوز أحجام بعض الدول, وله موارده الوفيرة التي يفترض أن ينفق منها علي مقلديه وتلاميذه وعلي مختلف النشاطات الأخري مثل عمارة المساجد وإقامة المدارس أو المستشفيات, أو أية مصاريف أخري, وإزاء هذا الوضع فللمرجع وكلاء هم حلقة الاتصال بينه وبين المقلدين ويغدو الوكيل المعتمد بمثابة البنك الذي تتجمع لديه أموال الزكاوات ليحولها بدوره إلي المرجع في مقره, وفي بعض الأحيان يغدو الوكلاء بمثابة البنوك في الاحتفاظ بودائع المقلدين الذين يريدون تجنب المصارف الربوية,وهذا الاستقلال الذي يتمتع به المراجع, بالأخص في الموارد المالية قد حولهم إلي قوي لها وزنها حتي في مواجهة الدولة التي يعيشون في ظلها, وهو اعتبار كان له دوره في علاقة قم بالشاه قبل الثورة, وفي علاقة المراجع الحاليين وعلي رأسهم السيد كلبايكاني بالمرشد آية الله علي خامنئي حاليا من بعد الخوميني.. ومن خلال صفحات الكتاب الأوحد عن إيران من الداخل للكاتب القدير فهمي هويدي نجده في عام1987 قد زار كلبايكاني في بيته ليكتب في ثنيات اللقاء: خلعت الحذاء ومررت بحجرات عديدة مليئة بالأتباع والتلاميذ حتي وقفت أمام ستارة بيضاء انفتحت فإذا السيد جالس القرفصاء في ركن جانبي, وعلي يمينه اثنان من مساعديه, عمامته سوداء وبشرته بيضاء ووجهه المتغضن ينطق بسنين عمره التي اقتربت من التسعين ــ ملحوظة بأن اللقاء في87 ــ ونظارته ذات الإطار الأسود سميكة بأكثر مما ينبغي,ولحيته طويلة ناصعة البياض وصلت ما بين رأسه ومنضدة صغيرة وضعت أمامه فأخفت جسده النحيل المتكور, وكانت أمامه قصاصات ورق صغيرة إلي جوارها وضع ختم يحمل اسمه, وفهمت أنه يملي ردوده علي من يتوجهون إليه بالسؤال, ويقوم تلاميذه بنسخ ما يقول, ثم يردون إليه الأوراق مرة ثانية ليقرأها ثم يوقع عليها بختمه الذي يحبسه في أحد أدراج المنضدة.. رفع الرجل رأسه ببطء كمن كان يحرك عقارب الزمن ورحب بي بعربية فصيحة ووجه إلي عدة نصائح بصوت آت من ماض سحيق.. وران الصمت علي الحجرة والرجل ساكن بلا حراك والمنضدة أمامه قد حوت خزانتها شئون وشجون الملايين من البشر في داخل إيران وخارجها, من تعلقت ضمائرهم به, وتوقفت مصائر معاشهم وعلاقاتهم علي إشارة صغيرة يبعث بها إليهم في قصاصة تقول: يجوز أو لا يجوز! وكان المشهد برمته ينتهي إلي عصور اندثرت وما بقي منها أودع المتاحف بعناية بالغة وعولج بالتبريد تارة وبالكيماويات تارة أخري ثم حجب عن الناس بزجاج كثيف بينما أحيط بأجراس الإنذار وعدسات التصوير الخفية, ووقف الحراس ببابه يرصدون الداخلين والخارجين!!ذلك هو حضرت آيت الله العظمي جناب آقاي حاج سيد محمد رضا كلبايكاني الذي أومأ برأسه المشتعل شيبا من بعد المائة وبصم بخاتمه بأنه يجوز قبول الطعون في التزوير!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق