الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

العجوز والقهر ..بقلم سناء البيسي

في شقة الرابع علي يمين الأسانسير‏,‏ المطلة علي الشارع‏,‏ بشبابيكها وبلكوناتها وغسيلها وخراطيم أجهزة تكييفها المهترئة التي تعزف مع سائر خراطيم الواجهة المنشعة سيمفونية بلل لكل من تسول له نفسه المرور أسفل العمارة‏,‏ أو يدفعه قدره التعس للمروق من أرض الطريق لبئر السلم‏..‏ شقة الأستاذ المعار التي ترقد علي أقدام مدخلها مساحة جزم جديدة لنج بكنار بلون الزرع يتوسط إطاره عبارة‏welcome‏ بالإنجليزية بمعني حللت أهلا ونزلت سهلا‏..‏ الشقة السوبر لوكس الكافة التحابيش والكرانيش والنيش والمقابض الكريستال‏,‏ ببابها الأرو الماسيف دونا عن بقية أبواب جميع الأدوار المصنعة يادوب من الخشب الموسكي المفرغ‏,‏
وإن علا شأن بعضها فلن يبلغ أن يكون التغليف الخارجي بقشرة من الزان‏..‏ الباب المميز بمقبضه اللامع الخاطف للنظر‏,‏ ومفصلاته الذهبية الوارمة‏,‏ ولافتته البارزة‏,‏ وهامته بتاجها المخروطي الذي يعلوه حرز الحصن الحصين‏,‏ عاكس الحسد والعين اللي تندب فيها رصاصة‏,‏ لكل من لا يدخل برجله اليمين ويقول يا ساتر‏..‏ الحرز الذي لابد من استكمال مكوناته الرادعة ليأتي بمفعوله الأكيد من الخرزة الزرقاء‏,‏ ومقشة بحجم الكف‏,‏ والكف‏,‏ وسنبلة قمح ناشفة مشرعة كما القنفذ‏,‏ وهلال نحاسي غامض الدلالة‏,‏ وشقفة فخار شرحة‏,‏ ومن فوق الحرز تاج من الصبار‏,‏ ومن فوق الفوق آية قرآنية يجثم علي صدرها فانوس أرابيسك يوزع الأضواء بالألوان الهندسية شمال ويمين‏,‏ وعلي كل من جانبي الأرو صاروخ مرآة مثبت في الجدار لا يعكس من شدة ضيقه وجها لبشر‏,‏ وإنما انعكاساته لأضواء المشهد الفولكلوري المحيط‏,‏ خاصة إذا ضرب الجرس القادم من الصين‏..‏ البلد القادر بشطارته الاستشعار عن بعد‏..‏ قياس اتجاه الريح‏..‏ معرفة نقاط الضعف والضغط‏,‏ ومن أين تؤكل أكتاف الأمم الساذجة‏.‏ البلاد النايمة في العسل‏.‏ التي خمدت قواها وسلمت أمرها‏,‏ وحطت إيدها علي خدها‏,‏ وتعب سرها‏,‏
وخلعت راسها تدعي علي اللي في بالها‏,‏ وأغرقت عيالها في مية الأحمر والأبيض‏.‏ الصين‏..‏ البلد التي سرقت تاريخ الدمايطة والمحلة وخان الخليلي وأخميم وخالتي بمبة وناباروة بفسيخها‏,‏ والقلل القناوي‏,‏ وفوانيس تحت الربع‏,‏ وصاجات سنباط وجلاليب كرداسة‏,‏ وجريد الوادي الجديد‏..‏ الجرس الصيني الجديد الذي ما أن تتصل دائرة الكهرباء فيه حتي تتجلي حكمته وحنكته وتجلياته‏,‏ حيث يستبعد أصوات ضلال الرنين والزقزقة والصوصوة والمزيكا الآثمة ليعلو صوت الخشية والإيمان ادخلوها بسلام آمنين‏,‏ فشقة الأستاذ المعار المهاجر من رحابها طول السنة إلا الثلاثين يوما‏,‏ لها حرمتها‏,‏ وبابها المقدس لا ينفتح إلا علي عباده المتقين‏..‏
في شقة المعار أعواما‏..‏ الأياب لماما‏.‏ الغائب دهرا العائد شهرا يقلص ويركز فيه عطاء أبوته وزخم فحولته‏..‏ يعود محملا بصناديق زاخرة وحقائب عامرة وأكياسا ناضحة‏,‏ يحل رباطها ويمزق أغلفتها ويفرغ محتوياتها أمام الدائرة الحميمة المغلقة‏,‏ المستبعدة البت الشغالة للمطبخ‏,‏ فتتصاعد آهات الإعجاب‏,‏ وتدوي صرخات الاستثارة‏,‏ وتستشري نيران الغيرة‏..‏ واشمعني هو؟‏!‏ واشمعني هي؟‏!..‏ وفين اللي قلت لك عليه في التليفون؟‏!‏ ولا لسه حاستني للمرة الجاية‏!!..‏
بعدها تدور الست هانم زكية الرائحة المستوردة‏,‏ مقنطرة معطرة الحنايا والثنايا‏,‏ ملساء الجبين والخد والقد والساق واليد‏,‏ تدور في الحجرات بقمصان نوم شفتشي وارد الشنطة وذوق المشتاق المعار‏,‏ وتحمل للخياطة والترزي ومحل التطريز بخيوط السوتاج والخرز وخرج النجف والترتر الجانجاه أمتارا لامعة لتشكيلها ماكسي بعيدا عن الجسم لزوم الالتزام في ملابس الخروج‏,‏ وملتصقة بشفافية كشف الكنوز لزوم الشهر المفترج بقدوم المسافر المعار الذي في غيبته يطلع في نافوخها كنزوة في الليالي المقمرة‏,‏ ومع انسياب غنوة ميادة أنا باعشقك أنا كلي لك‏,‏ ونوم العيال بدري‏,‏ وغيبة الاستخدام‏,‏ أن ترتدي الشفاف لروحها‏..‏ لمزاجها‏..‏ لاجترار ذكري‏..‏ لكن المتعة سرعان ما تنقلب حسرة علي وقف حال جمال في رف ثلاجة ينقصه الذوبان علي لهيب النار‏.‏
تقعد أمام التسريحة من بعد الامتنان والدعاء للقادم بخيره أن يوسع عليه وعليها كمان وكمان‏..‏ تقعد لتجريب هدايا المصاغ‏,‏ وقياس أطوال سلاسل الذهب البندقي حول العنق‏,‏ وتقدير الأوزان داخل باطن اليد‏,‏ وهزها الجنيهات والسبائك المدلاة‏,‏ ولوي الذراع بخيلاء لقدام ووراء بالساعة الماسية الجديدة التي سرعان ما تعيدها للاسترخاء في علبة الماركة لدسها بجوار لحود شقيقاتها من السفريات السابقات لحين ما تأتي المناسبة اللي تستاهل وتكيد فيه العوازل‏,‏ وبالذات سلفتها العقربة‏,‏ وتقول قدامها أصل الأستاذ جاب لي‏..‏ أصل الأستاذ يموت في الحاجة الحلوة‏..‏ أصل الأستاذ يحب الغالي للغالي‏..‏ أصل الأستاذ كنا واحشينه بالقوي‏…‏هذا من ناحية مسرات الزوجة أما من ناحية الأولاد فمدفوعون بمجرد دخول الوالد من باب السكة للاستيلاء علي ريموت الطيارات والدبابات ورجال الفضاء‏,‏ ومدافع ومسدسات تفرج بعبواتها المزيفة عن شحنات مكبوتة في صدور الصغار‏..‏ وعرائس تقلعها البنية هدومها الداخلية وتلبسها البكيني والشورت الساخن وجونلة هاواي وتي شيرتها العاري‏,‏ فتهز العروسة وسطها اللولبي بحرفية ميكانيكية لتتجاوب معها عروستنا برقصة هي أحسن منها‏.‏
ويسافر الزوج لتشكو الزوجة الأرق من جديد‏,‏ ولا تؤنس الوحدة ولا الوحشة ولا التردي في منازل الإحباط‏,‏ لا السلاسل الذهب‏,‏ ولا الساعة الألماظ‏,‏ ولا القميص الشفتشي‏,‏ ولا أوربت القنوات‏..‏ فتظل تكيل اتهامات قلة النوم والجفون المفندقة لوش الصبح لجهاز التكييف الذي أصبح زي عدمه‏,‏ فهو لا يدفء شتاء‏,‏ ويعلو أزيزه الجهنمي بينما الحر لا يطاق‏..‏ وقد يعود الأرق كما قالت الست والدتها لفناجين القهوة التي تتجرعها عمال علي بطال‏,‏ ولابد من زيارة طبيب أمراض النسا للكشف عن أسباب الصهد والعراقان اللي زاد بمجرد ما تسحب فوقها الغطاء وتعسل لها دقيقة لا غير‏..‏ و‏..‏ في فترات الأرق تلك يهبط تفكيرها للأدني‏..‏ لأسفل نقطة عند الأرض‏..‏ لتحت السلم‏..‏ حيث يتكوم عم محمد مع مراته‏,‏ مع عياله الخمسة داخل صندوق خشب يطلقون عليه مجازا اسم أودة البواب فترسل إليه من منطلق والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم قطعا من الملابس القديمة‏,‏ وفوارغ زجاجات الميه المعدنية‏,‏ وهيكل لعبة عيال فقدت زمبركها‏,‏ وقزازة زيت مركونة لنصفها‏,‏ وساندوتشات أكل العيال همبورجرا وسابوا عيشها ع السفرة‏.‏
وبمثل تلك النفايات كان سكان العمارة الأجاويد يجودون علي سكان الجحر وفئرانه‏..‏ بقية صينية بطاطس بفوهات فارغة كانت تعلوها ساعة نضوجها هبر من اللحم الحلال‏..‏ الطبيخ البايت اللي انقطع حيله من الغلي مرات وزهدت فيه الشغالة وبات علي شفا بلوغ مرحلة الحموضة‏..‏ بقايا أقراص كعك العيد المجففة التي لابد من نقعها لتسترد مقومات أصولها من الدقيق والخميرة ورائحة الكعك التي تحولت كينونتها ورائحتها مع طول التخزين لما يشبه مسحوق إبادة الحشرات‏..‏ مرايل المدارس التي ضاقت من بعد ما تتهرأ الكيعان وتطويل الذيل مرات واندلاق الأحبار علي الواجهة وتطاير الأزرار‏..‏ مقعد فقد جميع مقومات الجلوس والقيام‏..‏ إبريق شاي أحيل إلي المعاش بعد سنوات خدمة تركت آثارا منها ثقب جرئ في القاع واحتراق للذراع‏..‏ مخدة متهالكة القوام تجمعت ثمالة قطنها المسوس في الزاوية المائلة‏…‏ لكن الحق يقال إن زوجة المدرس في الشقة نمرة سبعة اللي قدامها قصرية الصبار خلعت عليه ذات شتاء بطانية في نسيجها فتلة صوف‏,‏ لم يكن يعيبها سوي مواضع محترقة من آثار سخونة المكواة‏..‏ وأيضا عندما لاحظ الدكتور أبونضارة كعب كوباية ساكن الشقة البحري إن عم محمد يسعل بشدة
ويكاد ينكفئ علي وجهه فوق الصاج أثناء غسيله للعربة‏,‏ تمهل ليكتب كلمتين لدكتور زميله في القصر‏..‏ وكانت الهانم الكبيرة بنت الأصول التي تعيش في أول بلكونة مع خادمة حرقوبة تهد بدنه في مشاوير ما لها لزوم تهدده إن لم ينفذها بالعجل أن تفتن عليه لستها بأنه مش راضي وبيشتم وبيرطم ويحسبن عليها هي واللي مشغلاها‏..‏ ستها التي ترسل له ورقة بربع جنيه يوميا طوال شهر الصيام كفارة عن إفطارها تبعا لأوامر الدكتور‏,‏ مع ما يقرب من ربع كيلو لحمة ويمكن أكتر من خروف الضحية في العيد يتعرف بها عياله علي مذاق اللحم حتي لا ينسوها تماما‏..‏
ولأن الهانم من بيت كرم حقيقي كانت ترسل له أيضا فطيرتين رحمة في طلعة رجب‏,‏ وطبق عاشورة في موسمها‏,‏ وكانت عندما يسندها من فتحة الأسانسير‏,‏ لدرجات السلم‏,‏ لحد باب تاكسي يحضره من وسط سيل الميدان بمواصفات خاصة‏,‏ أولها اتساع المقعد الخلفي‏,‏ وسماحة وجه السائق‏,‏ ووجود أكرة للباب‏,‏ والسؤال من البداية عن سعر المشوار واللي أوله شرط يا أسطي آخره نور‏..‏ كانت بعدما يرفع ساقيها من أرض الطريق ليبيتهما معها داخل التاكسي تقوم بمد يدها إلي فتحة صدرها من تحت كولة البالطو لتخرجها بكيس الفلوس لتفتحه وتناول أحد صغاره ما فيه النصيب‏,‏ وتوصيه بمراقبة الشقة في غيابها وشباك البلكونة المؤهلة للنط‏,‏ ولا تنسي توجيه انتباهه ليأخذ باله من الفلوس التي أعطتها للواد الصغير أحسن يضيعها و‏..‏ اطلع يا أسطي واحنا من دلوقت متفقين علي الأجرة والشاهد علينا عم محمد البواب من قبل ما تدوس بنزين‏..‏
أنبل السكان قلبا وقالبا وأكثرهم شهامة الباشمهندس‏.‏ العازب‏.‏ الجدع الأمير الخالي من العيوب كما عود القصب المسكر‏.‏ الحليوة أبو وش ضاحك الذي يقرئ عم محمد السلام في الداخلة والخارجة‏.‏ المدندن في الطالعة والنازلة كأنما لا شيء هناك في الكون يعكر المزاج‏,‏ ولا هم هنا في دنيانا يكبس علي المراوح‏..‏ كان إذا ما انتشي وازداد إشراقا وتأهبا لسعادة في انتظاره فوق في داخل شقته يتوقف لحظات‏,‏ تضيء فيها أساريره‏,‏ يضع فيها يده علي كتف عم محمد مربتا بحنان‏,‏ وقد يتمادي لدرجة يقرص فيها خد العجوز المغضن مداعبا ليسأله عن سير أحوال الجواز مع الزنقة وسط العيال العوازل الخلابيص‏,‏ ويمنحه جنيها كاملا ليشتري للولية حاجة مسكرة‏,‏ وساعات يغمزه بورقة بخمسة ليقول لأي زائرة تسأل عليه أثناء وجود أخري لديه‏,‏ إنه قام بتسليمه تلغراف جاي من البلد فأخذ في وشه وسافر علي ملي وشه‏..‏ وماتنساش يا عم محمد يا همام تسألها بأسلوب حنين يطيب خاطرها أقول له مين حضرتك لما يرجع؟‏..‏ أصل المسألة يا عم محمد كلها دخلت في بعض والمخ مش دفتر‏!!‏
عم محمد البواب بمراته وعياله النموذج المثالي لتلقي الصدقة التي تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار‏,‏ كان له جواز مرور آخر إلي قلوب السكان إلي جانب الفقر والإملاق والأفواه المفتوحة‏,‏ فهو يتمتع بخفة ظل رباني تتمثل في ردود تلقائية علي السليقة لا يقصد بها استدرارا للضحك أو امتهانا لكرامته بأن يلعب دور البلياتشو أو عبيط القرية‏..‏ بساطته الشديدة في الكلام كان يقابلها علي الدوام غفران علي الجانب الآخر الذي ينكشه قصدا وعن طيب خاطر‏,‏ والذي لا يصنف الصراحة بالوقاحة‏,‏ وإنما بتخاريف عجوز محموم لا يدري ما يقول‏..‏ ويضحكون‏..‏ ويسألونه بالذمة والأمانة والديانة المشورة في مشاكل البلد وخراب البورصة وثبات الوزارة والتوريث ولعب الحديد وختان الإناث وأكياس الدم وشلوت المدرس ومدينة الأحلام و‏..‏ فيجيبهم بحكم وأقوال وأمثال يستملحها البعض ويمجها البعض‏..‏ ويضحكون‏..‏ الست صاحبة العمارة غاوية فرفشة ترسل في استدعائه ليقف وسط الصالون بطلعته المقشفة ووجه مملوء بحفر قديمة نصف مردومة من آثار هجوم جدري قديم فاشل‏..‏ يتوسط ضيفاتها الأرامل المرحات اللاتي يسألنه بتلميحات وتصريحات وتوريات عن سنه وسن آخر العنقود‏,‏
فيرد عليهن بتفاصيل ساذجة فاضحة تتعالي من وقعها ذيول ضحكات بعضها حشرجات تتخللها آهة حسرة ساخرة‏,‏ وحسد تهكمي من امرأته ساكنة الخن اللي بتاكل وتنكر‏..‏ وتشخلل ذراع بضة أساورها ثعابين ذهب تمنحه صاحبتها السخية المرحة الشربات هبة تخروش جنيهاتها الجديدة فوق الرؤوس المغطاة والمكشوفة‏,‏ توصيه بحمل بوسة لكل خد لمراته المسعدة اللي لها زوج لسه عايش وبيؤدي‏,‏ وقول لها يا عم محمد دعواتك يا طايلة ويعطينا مما أعطاك الله‏..‏ ويخرب مطنك يا راجل حقيقي حقيقي هي مراتك لساها بترضع؟‏!!!!‏
وتنام العمارة قريرة العين مرتاحة الضمير علي أمل إلا أن يكون جزاء الإحسان بالإحسان‏,‏ تظن بسكانها أنهم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏..‏ تغط شققها في سحابات من وهم التراحم والسمو والتسامي ونصرة الضعيف وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين‏..‏ تتزاحم خلف جدرانها الحكم والمواعظ والآيات لن تناولوا البر حتي تنفقوا مما تحبون‏..‏ تتعالي ابتهالات سكانها من بعد صلوات الفجر والضحي والشفع والوتر والركوع والسجود والتشهد والتبتل وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلي أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين‏..‏ تسعد الطوابق بأزواجها وزوجاتها وعيالها وحمواتها وجدودها وشغالاتها فقد أدت فريضة الزكاة أحد أركان الدين الخمسة في شخص عم محمد البواب‏..‏ وتنهر ساكنة من شباك المنور في أول دور شغالة آخر دور لأنها تنادي علي البواب الغلبان للصعود علي السلم حاملا المكتب الإيديال الذي لا يتسع له حيز الأسانسير‏,‏ وتتهمها هي وأسيادها بغلظة القلب والوحشية فالرجل العجوز يلف كالنحلة من طلعة الشمس يخدم اللي يسوي واللي مايسواش‏..
‏ وتعرج الأخت الفاضلة ساكنة الشقة المفروشة التي قدمت من البلد العربي الشقيق لنيل الدرجة العلمية من الجامعة الأزهرية‏,‏ تعرج علي أودة البواب قبل سفرها لبلدها لتعطي امرأته ريالين ودولار وكبشة فرنكات ودراهم وسنتات باقيين معها‏,‏ وكيس فستق‏,‏ وحبيتين مانجة‏,‏ وثلاثة بشملة‏,‏ وواحدة كيوي‏,‏ وعلبة ماكنتوش مهدرة‏,‏ وزجاجة ماء فيشي‏,‏ وخرطة جبن جرويير‏,‏ وحقين لبن نستلة‏,‏ وباكويين كابيتشينو‏,‏ وقالبين صغيرين زبدة‏,‏ وعودين باتون ساليه‏,‏ وعلبة كبريت‏,‏ وكيس صابون غسالة الأطباق ممتلئ للمنتصف‏,‏ وكريم للقشف‏,‏ ومج لشرب الشاي‏,‏ وحلة بريستول‏,‏ وصابونة وجه بالجلسرين‏,‏ وفيتامين صناعة مصرية رسخ أول قرص منه علي فم معدتها ولم يزحزحه ساخن ولا بارد ولا الفوار‏..‏
و‏..‏ ذات ليلة تكهرب الجو داخل العمارة‏..‏ تعالي الهمس وساد خبث الطنين‏..‏ علا صوت العجب‏,‏ وياللعجب‏,‏ وتشعلقت حواجب الدهشة فوق للأعالي‏,‏ وانزوت الشفاة إلي الجانبين في موجات المصمصة المشمئنطة‏..‏ ومن تحسبه موسي يطلع فرعون‏..‏ وهبطت هوانم حافيات بقمصان نوم بحمالات بعدما استدعي عامل السرعة الخروج سافرات‏,‏ وذلك ليسترقن النظر إلي أرض الحقيقة‏,‏ ويشاهدن بأعينهن علي الطبيعة الضوء الأزرق المتذبذب المتسلل من ثقوب ألواح الخشب المتساندة التي تصنع بالكاد بابا يغلق الصندوق علي عم محمد البواب وعيلته ومعيشته ونومته في الحيز الضيق تحت السلم الذي أطلق عليه مجازا أودة البواب‏..‏ الخبر إذن صحيح‏..‏ الأمر كما انتقل بحذافيره‏..‏ الحيطان لها ودان والمستخبي ظهر وبان‏..‏ لا مجال للشك أو التكذيب أو التهوين‏..‏ الواقعة لها دلالتها وتبعاتها وأصولها وجذورها ودوافعها ومنحنياتها وسلبياتها‏..‏ الرجل العجوز الداهية المدعي الفقر المستموت اشتري تليفزيون وقاعد يتفرج لي علي قناة الجزيرة‏..‏ حقيقي يا حبيبتي ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما‏..‏ انت بتصدقي حكاية إنه بواب حقيقي‏..‏
وحياتك يا أختي تلاقيه محوش ملايين تحت البلاطة‏ ..‏ هو بيكسب شوية‏,‏ ده زي المنشار طالع واكل نازل واكل من الغلابة اللي زينا‏,‏ ده احنا يادوبك الصيت ولا الغنا‏..‏ تلاقيه زعيم عصابة‏..‏ تلاقيه فاتح بعيد مكتب تخديم وسمسرة شقق مفروشة باليوم وبالساعة‏..‏ تلاقيه خريج سجون‏.‏ تلاقي له موقع علي النت‏..‏ تلاقيه مأجر الولية والعيال‏..‏ تلاقيه بيطلع جولاته بالليل وأودة البواب ما هي إلا ستار لأعماله الخفية‏..‏ تلاقيه مخاوي ومراته جنية‏,‏ وعياله أولاد أبالسة‏..‏ تلاقيه مرقد لنا تحت السلالم‏..‏ تلاقيه هو اللي زق من البلكونة‏..‏ تلاقيه عنده مدينة عراقية علي أرض أمريكية‏..‏ تلاقيه دابح له رقاصتين في دبي‏..‏ تلاقيه واخد له شقلة من ليبيا‏..‏ تلاقيه المحرض الحقيقي لثورة عرابي والترابي وشهبور ودمنهور ودارفور‏..‏ تلاقيه السبب في اجتياح التحرش وزيادة معدلات العنوسة وقلة الذكورة وانعدام المروءة وتشريد البنوك وشنطة المرور‏..‏
تلاقيه في نادي القضاة وعلي سلم النقابة وفوق برج الجزيرة وفي استقبالات المطار وفي داوننج ستريت وفي بورصة الكويت‏..‏ تلاقيه هو اللي سرق الونش‏..‏ تلاقيه المستورد الوحيد للمادة اللاصقة للمناصب والكراسي والصحون والتماثيل‏..‏ تلاقيه هو أساس التشويش علي الراجل الجد اللي يحب الجد‏..‏ تلاقيه وراء السحابة السوداء وكسارة البندق وتلويث بحيرة البجع وهز المقطم وسرقة الآثار‏..‏ تلاقيه هو اللي شفط الصحفي إياه‏..‏ تلاقيه هو اللي جاب الديب من ديله وطرد ناس ومد خدمة لناس جابت عاليها واطيها‏..‏ تلاقيه هو اللي دفع بقانون هنا تسليك وهنا توليع‏..‏ تلاقيه هو اللي جاب علف البهايم وزعل منا زويل‏..‏ تلاقيه هو اللي قادها نار‏..‏ تلاقيه هو اللي غرق أسمهان‏..‏ تلاقيه في القاعدة والواقفة والنايمة‏..‏ تلاقيه وراء أحداث سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر ويناير وفبراير ويوليو وبين السرايات‏..‏ تلاقيه هو اللي بدع الكفت‏..‏ تلاقيه لا هو عجوز ولا حاجة‏!..‏
من الفجر تعالت النداءات الصارخة الزاعقة المتوعدة المهددة لسي زفت الطين بضرورة السرعة وجلب ألف طلب وطلب في التو والساعة‏..‏ واتحرك يا راجل بس شاطر تشيلهم علي قلبك‏.‏ بس شاطر تسهر لي لوش الصبح تشوف المسلسلات‏..‏ بس شاطر تعمل لي عيان وطرشان ومسخسخ والنفس مقطوع‏.‏ بس شاطر تركن شوية هنا وشوية هنا‏,‏ وتختفي لما نناديك من علي وش الأرض‏..‏ قسما عظما تمشي تزك لي برجلك‏,‏ أو تمسك لي قلبك‏,‏ أو تبربش لي بعينك‏,‏ أو تسند لي ظهرك‏,‏ أو تقول علي الظالم يارب والكحكة في إيد اليتيم عجبة‏..‏ ربنا ياخدك‏,‏ حتتلقي وعدك يا بعيد يا مفتري يا كداب يا ضلالي‏..‏ تليفزيون يا راجل وقاعد لي تسهر وتؤانس وتنادم وتعمل لي أفلام يا عينك يا جبايرك‏..‏ و‏..‏ واحدة قلبت صينية الأكل البايت في صفيحة الزبالة وهي تبرطم حار ونار في جتته‏..‏ الباشمهندس مر به في الصباح مرور الكرام دون أن يقرؤه السلام‏..‏ هانم أول بلكونة قالت لشغالتها المفترية قومي اقفلي الشباك مش قادرة أشوف وشه‏,‏ وأنا اللي من سذاجتي يا ناس كنت باقول له يحرس لي شقتي في غيبتي‏!!‏
صاحبة البيت صرخت في وجهه المخطوف الشاحب بعيون زائغة لا تعرف جريرتها‏,‏ بأن عمارتها التي شيدتها طوبة فوق طوبة بشقي عمرها وعرق جبينها وما تركه المرحوم والدها من إرث‏,‏ لم ترفعها علي الأرض لمزاجه‏,‏ ولا لتسلية سيادته‏,‏ ولا لتصبح تكية أبوه يسحب علي حسابها الكهرباء لتليفزيونه من نور السلم‏..‏ يعني يا ابن الرفضي أنا مش ناقصة‏.‏ يعني يا نوري حلاقيها من حرامية السلم ولا حرامية الكوبانية اللي بيحاسبونا بالجزافي‏,‏ ولا حرامية البلد‏..‏ أنذرته بالطرد هو وعياله للشارع‏..‏ هددته بالكلبشات هو واللي يتشدد له‏..‏ أقسمت براس والدها المدير لترجعه لبلده خالي الوفاض وقفاه يقمر عيش ياكل هناك طوب ودبش ويتقلب ينام من المغربية علي لمبة جاز‏,‏ وإن لقاها‏..‏ هذا إذا لم‏..‏
إذا لم يفكر بمخ نظيف ويحسبها ويدورها في دماغه بالعدل والمقلوب‏,‏ ويطلع مراته كل يوم من الفجر تمسح وتكنس وتغسل وتطبخ وتعجن وتخبز وتساعد في شغل البيت‏..‏ اشمعني يعني هي اللي علي راسها ريشة‏,‏ الكل شغال والكل بيجري علي لقمة عيشه‏.‏ عيالك يشتغلوا كمان في أيتها ورشة‏,‏ وبنتك العرجاء تقعد تشيل أخوها المولود والقزازة جواها الرضعة‏..‏ ومن دلوقت‏..‏ من الساعة دي‏..‏ روح غور وابعت لي مراتك تنضف الكرشة‏..‏
ويعود المعار زوج ساكنة شقة الرابع علي يمين الأسانسير من السفر بحقائب مكتظة بالهدايا والهدوم وسلاسل الذهب‏,‏ مضيفا لديكورات باب الشقة لافتة نحاسية للبسملة ولا إله إلا الله بالخط الكوفي‏,‏ ورقم الشقة محفورا بالميناء بالإنجليزية‏..‏ وتجلس الزوجة إليه بالقميص الشفتشي من بعد تهدئة الأشواق وتلهي العيال بسيديهات الألعاب‏,‏ وانهيار قوام رماد البخور في الأطباق‏,‏ تحكي له آخر الأخبار‏..‏ أكثرها إثارة خبر عم محمد البواب‏..‏ العجوز الداهية‏..!‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق