الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

البلكـونة..بقلم سناء البيسي

شعور غريب ينتابني كلما نظرت لتحت وأنا فوق‏.‏ للأرض البعيدة بينما أطل عليها من سور البلكونة‏.‏ إحساس كما لو كانت الأرض تناديني‏.‏ تستدعيني علي عجل‏.‏ تقول لي اتفضلي عندنا‏.‏ تدللني ياللا يا حلوة هيلا هوب‏,‏ وحبا حبا مين يجيني ينام علي صدر ماما‏.‏ تستنفر بداخلي روح المغامرة وشجاعة الريادة بعدم استخدام فكرة الباراشوت النمطية في عملية القفز من المرتفع‏.‏ تفرش لي طريق الهواء بزخات الندي وحضن الياسمين وترانيم عبدالحليم تعالي تعالي تعالي كي آخذ الهبوط الفضائي ببساطة تجاه غايتي ومرتعي ومهبط رأسي‏,‏ كما لو كان الأديم مخدتي‏,‏ والبسيطة غطائي‏,‏ والأسفلت سريري أنام عليه وأنا مرتاحة البال‏..‏ تقترب الأرض مني وأنا في الدور السابع عندما أطل عليها كما لو أني قد أعطيت نفحة من سيدنا الخضر عليه السلام الذي مشي علي الماء‏‏ فبمجرد ما أرفع ساقي وأخطي السور سوف أكمل علي الناحية الأخري مشواري مهرولة‏,‏ أو بخطي مشية التراك الرياضية شافطة بطني وفاردة صدري ومنظمة فتحة الساق من وراء الساق‏..‏ تتلاشي بيننا أنا والأرض المسافات لدرجة إحساسي أني لو مددت لها يدا من فتحة في السور الحديد فسوف أملس علي الأسفلت‏,‏ وأعالج رضوض مطبات الغش في مونة الزلط والزفت‏‏ وأنقي مسطحات النجيل من جيوش النمل‏,‏ وأكنس بكفي تراب الرصيف‏...‏ مصيبة‏...‏ هذا الذي ينتابني بمجرد خروجي للبلكونة والنظر من فوق لتحت‏..‏ من هنا تلقاني أترك ما بيني وبين السور مسافة آمنة تحسبا من نداء الجاذبية الأرضي‏,‏ والاكتفاء برفع البصر إلي معجزات السماء من مواكب بزوغ الشمس وغروبها‏,‏ وصعود القمر بدرجاته محاقا وهلالا وبدرا إلي كبد السماء‏..‏ وإذا ما كنت قد توازنت قليلا في المسألة الأرضية فهذا شيء لا يذكر بقدر توجسي الدائم من المسألة الخلفية‏,‏ أي من منطقة القفا‏..‏ من أن أخرج بوجهي إلي البلكونة وظهري مكشوف‏.‏ من أن أمنح خلفيتي للمجهول حتي ولو كنت في شقتي وحدي ومسوجرة بابي بترابيس بطول الضلفة‏,‏ مع كلبشة بسلسلة مركب ليس بآخرها هلب‏,‏ لكنها لحظة ما تنام تروسها في بيتها علي الضفة الأخري من حلق الباب تصدر تكات إحكام الانغلاق‏,‏ وقفل سبع قفلات ولسان بروحين ومستورد‏..‏ رغم كل تلك الوسائل الأمنية‏,‏ وعدم وجود صديقة مقيمة مش هيه‏,‏ أو طباخة منهمكة في تخديعة تقلية‏,‏ أقول لروحي تروحي فين يا فالحة أمام من لا غلبة عليهم‏,‏ ولا يقف في سكتهم باب ولا شباك‏,‏ جماعة بسم الله الرحمن الرحيم‏,‏ من يأتون من الخلف بنيات غامضة ودفعات تكفي علي الوش تطب منها ساكت وماتحطش منطق‏.‏ والحمد لله أن عنواني القاهرة ولست نزيلة لندن لينفذ في حكم السقوط المدوي من البلكونة مثلي في ذلك مثل الليثي ناصف‏,‏ والنجمة سعاد حسني‏,‏ وأخيرا الدكتور أشرف مروان‏.‏في طلعتي البلكونية وأنا خارجة أفتش هذا الأسبوع الحراري عن شمة هواء تكون تائهة من أيام الطراوة‏,‏ أو تخلفت عن ركب نسمة فاتت جنبنا ساعة عصاري‏,‏ أو حتي نفحة ملتاثة مرتدة من زعابيب أمشير‏..‏ أي حاجة تحرك أي حاجة في أي حاجة بدلا من أبواب الجهات الأربعة الموصدة‏.‏ طرف فستان‏,‏ أو ورقة شجر‏,‏ أو قرطاس جنب الرصيف‏,‏ أو كم جلابية علي حبل غسيل‏...‏ وجدتني في بلكونتي أمام تكرار حوادث الوقوع أو الانتحار أو الدفع من الخلف أو الدوخة الفجائية المزعومة التي تطلع صاحبها ليقف علي كرسي ويكسر الشباك ويعدي الحديد وينط‏..‏ وجدت أن الأمر أصبح يستحق منا فتح ملف البلكونة‏,‏ حيث أصبح مدلولها الآن لدي جيل الأبناء الطريق إلي الآخرة بينما كانت علي أيامنا مرآة للحياة تعكس طبائع مجتمع بسلوكياته وعواطفه وأفراحه وأحزانه‏..‏ كنت تقدر من خلال حبل غسيل في بلكونة متابعة تطورات حدوتة عيلة مصرية‏..‏ في البداية مع قدوم الجهاز يتم مد الحبال عدة صفوف مستقيمة ينشر عليها مع رص العفش الجديد منديل يد حريمي بحلية من الدانتيل مسحت به العروس آثار شفاهها من علي خد العريس وتم غسله علي عجل طبعا بدون صابون‏,‏ وبعدها تضج الشقة بزغاريد الدخلة وتتصدر المنشر مشابك بلاستيك منمنمة تعض بأسنان لبنية قطع الملابس الداخلية الأنثوية وذيول قمصان نوم ساتان طولها فوق الركبة‏,‏ ولا تمضي الشهور حتي تتمدد وتتمطي وتنتفخ بيجامة العريس وتوسع بنطلوناته‏,‏ ثم تتواري النواعم وتختفي لمعة الساتان لتمسك المشابك الخشبية بمفصلاتها الغليظة بتلابيب خيام هدوم الحمل‏,‏ وفجأة مظاهرة بيضاء بلفف وكوافيل وبافتات وأحزمة بطن لزوم المولود والتي سرعان ما تتقلص علي الحبال في بارباتوز لبني للولد وكرانيش بمبي للبنت‏..‏ ويكبر العيال ويتشنج الجينز فوق تراخي الحبال‏,‏ وتستبدل بيجامة الوالد بجلابية مرحرحة تخفي الكرش‏,‏ وتخلي الجوارب النايلون الشفافة مكانها لهدوم تصل للأرض‏.‏وكم من بلكونات سكنت جنبنا بسور حديد مطروق وبالأسمنت الصب وبقواعد وكرانيش علي الطراز الباروكي والروكوكو وبغيات حمام ولبلابة تطلع لحد الجيران تعجبهم في الأول وبعدها يصرخوا من زحف النمل وهجمات الهاموش‏,‏ وطفلة تقف في بلكونة تحدف بعزم ذراعها الهش سنتها القديمة في عين الشمس الشموسة وخدي سنة الجاموسة وهاتي سنة العروسة‏,‏ وسبت بحبل يلبي جميع الطلبات‏,‏ وأباجورات امتحانات مولعة للفجر‏,‏ وشابة في الركن القصي غاوية تسح الدموع‏,‏ وجدع رياضي في استعراض صباحي لنفخ العضلات‏..‏ و‏..‏ بلكونات ضجت بزغاريد وعناقيد الفرح وبنواح السواد ساعة خارجة السباع والأرانب والفئران‏..‏ بلكونات عاش فيها ناس وشاوروا لناس وشموا الهواء ومصوا القصب في الشمس‏,‏ وأغلقت مصاريعها بعد رحيل الناس‏..‏ وتنام وتصحي تلقي الموات أصبح حياة والشقة العتمة سكنت ووقفت شغالة مقروضة تخانق الشيش بسلاح الخرق القديمة وتضرب السجادة بمضرب بطولها يثير التراب‏,‏ وساعة العصاري تأتي بجلسة المؤانسة‏,‏ الأستاذ بالروب الكاروهات مع الهانم في روبها المشجر يحتسيان قهوة صينية السبرتاية علي مهل بعدما تقشر له وتفصص له وتزغطه فص من وراء فص‏,‏ وتقوم تهز طولها اسم الله وعرضها ترفع الغطاء النحاس تناوله يشرب هنيئا مريئا من صينية قلل ممشوقة القوام يتوسطها زير وارم فخاره أحمر كما الديك وسط عشة فراخ‏,‏ يرفع القلة لزوره تزغرد وهو يكركع في الفم المبخر مستمتعا بفنون شبابيك القلل‏..‏وفي المسألة الهندسية قد يكون تصميم البلكونة طوليا وهذا يحتم في وضع الجلوس ثنائيات الدردشة وتمرير تحية السلام والكبايات من واحد للآخر‏,‏ أما في التصميم الدائري فالمكان متاح لاشتراك الجمع في موضوع واحد مطروح يسيطر علي قراراته صاحب الصوت الجهوري‏..‏ وبلكونة لا تنساها الذاكرة في عمارة فرحات المجاورة تقوم الأم فيها بربط طفلها الشقي في السور طوال الوقت‏,‏ وبلكونة في الدور الأرضي بمدخلها الخاص التي ظلت محاطة بطابع السرية حول شاغلها‏,‏ يأتي إليها في مطلع كل شهر واحد وواحدة بنظارات غامقة يقعدوا جوه ساعة زمن مع مزيكة خفيفة ويطلعوا يمشوا‏..‏ وعلي جميع النواحي وفي كل الجهات بحري وقبلي وفي أدوار مختلفة تظل هناك بلكونات بمثابة أبراج مراقبة‏,‏ القائمون عليها من قواعد النساء أو المسنين الرجال بعد المعاش‏:‏ شايفاها بعيني اللي حياكلها الدود واقفة مش علي بعضها علي الناصية وجت عربية كحلي سايقها جدع أشقر بجاكتة مقلمة ونضارة نظر وكرافتة حمراء طلعت ركبت جنبه وطلع بيها‏..‏ جماعة أول دور عندهم ضيوف بايتين‏..‏ صاحبك رجع وش الصبح‏..‏ داخل طالع عليهم من يوم ما جوزها مات‏.‏ طول النهار تصرخ من البلكونة حمادة يا حمادة والواد حمادة مابيردش‏..‏ سمعت أبوها بيقول البت دي ماتطلعشي البلكونة‏...‏ويأتي الصيف بهوجة الشقق المفروشة وتمتد حبال الغسيل البيضاء والسوداء وحبال الرغي حتي الصباح من البلكونات بلهجات عربية تخطف النهايات وتحود بالحروف وتفهم بعضها‏..‏ وتصعب علي بلكونات شافت لها أيام عز وبغددة فتحت عيونها الصبح وخرجت تشم الهواء فوجئت بدلا من الأشجار الغناء بكراكاس حديد وأوناش ترج الأرض‏..‏ ركب عليها الكوبري بسياراته ودباباته وأوتوبيساته وموتوسيكلاته وعوادم شكماناته‏,‏ وأكملت نفثات عربية الطعمية المقلية من تحت الكوبري حلقة إطار يسد النفس والأنفاس‏..‏ وبلكونات انتحرت لأجل تنور لغيرها‏,‏ لغت وجودها بفلوس لافتات أفلام ومعجون أسنان‏,‏ ومن البلكونات عشرات تم إغلاقها وصندقتها ــ من صندوق ــ وضمها لجوه لنوم العيال محتفظة خارجها بأطباقها الصدئة وأرايلها كشوارب الصراصير‏.‏وأصبحنا نعض في الأرض من بلكونات أصبحت ترسم بمظهرها المتدني جزءا من لوحة التلوث البصري التي نعيشها ولا تمت بصلة لبلكونات حوض البحر المتوسط الذي نتبعه جغرافيا بأحواض زهورها الخلابة في واجهات المباني‏,‏ وأضحك في سري وأمصمص وأقارن سلوكنا بسلوك بلد مثل السويد تقوم بتغريم من يسيء استخدام البلكونة لأغراض مثل التخزين أو غيره مما يؤدي إلي تشويه المدينة‏..‏ وبإمعان النظر حولي أصبحت أؤمن أن الغرض الأساسي من البلكونة في بلدنا هو التخزين‏..‏ بصل وثوم وزعافة صلعاء ومقشات متآكلة وفوارغ معلبات وهلاهيل شغالات طردن بالجلابية اللي عليهن‏,‏ وفوط سوداء متخشبة كانت في زمانها صفراء وناعمة ومطبقة كما المناديل‏,‏ ووسط الزحام علي الدوام مصيدة فئران قد أدت غرضها واستكانت بسوستة باب مكسورة‏,‏ وقصاري زرع مهجورة لم تغسل من طينها‏,‏ وعجل عيال متوارثة بعاهاتها‏,‏ وقشر رمان لزوم الصبغة وشوال فحم أخرست الأمطار شهيته للاشتعال‏,‏ وقزاز براويز مكسر‏,‏ وكاوتش مخروم يمكن ننفخه تاني‏,‏ وعدة تليفون قديم يمكن يرن تاني‏,‏ ورصة كتب معقودة بدوبارة لغاية ما ييجي المسافر لجردها‏,‏ وهيكل صاج هلامي كان أصله ترابيزة مطبخ لغاية ما يجيله صاحب النصيب‏,‏ وطشت نونو صدئ كان بانيو لمواليد الأسرة الذين أصبحوا عرايس وعرسان وفتحوا بيوت ياما شاء الله‏.‏وبلكونات أثرت خيال المبدع ليظل المشهد الغرامي لرائعة شكسبير روميو وجولييت عالقا بالأذهان لأشهر شرفة غرام عرفها تاريخ الأدب العالمي‏..‏ ومن جانبنا لن نسقط من بلكونات الذكري مشاهد شرفات سينمائية من نجومها زينات صدقي وقذائفها السائلة فوق أم رأس النابلسي‏,‏ وليلي مراد أميرة الشرفات في إطلالتها علي نجيب الريحاني أستاذ حمام غزل البنات‏,‏ ومحمد فوزي شحات الغرام‏..‏ و‏..‏ محمد عبدالوهاب من لم يترك نجمة معه لم يسحبها خارجا بها وسط الغناء من الحفل الصاخب للشرفة الرومانسية ــ التي لابد وأن تدور الكاميرا علي جوانبها تتصيد من وراء الأعمدة والشيش الثنائيات الحاضنة في الظلام ــ هابطا بها السلاملك الرخام إلي خميلة الحديقة‏,‏ وعندما يقهره الحب وتدميه لوعة الفراق يغني وحده في التراس لنجمة مالت ونجمة حلفت ما تتاخر فالنوم ياليل نعمة يحلم بها الساهر في الليل لما خللي‏..‏ومن تراث أغاني البلكونات الست منيرة المهدية وفيك عشرة كوتشينة في البلكونة‏,‏ وإرخي الستارة اللي فريحنا لحسن جيرانك تجرحنا يا مبسوطين قوي قوي يا احنا‏..‏ ولأن بعض التصميمات الهندسية تفتح الشبابيك علي البلكونات فليس هناك من خلط قد يتصيده البعض عندما نستعين في سياقنا اليوم بذكر أغاني الشبابيك أيضا وتصبح الإجازة واردة بأغنية شادية شباكنا ستايره حرير من نسمة شوق بتطير‏,‏ وفايزة في ترديدها من الباب للشباك رايحة وجاية وراك لكن مش لاقياك لا في باب ولا في شباك‏,‏ أو بمحرم فؤاد عندما يشدو من بحور الغزل الحلوة داير شباكها شجرة فاكهة‏,‏ أو بعبدالعزيز محمود وشباك حبيبي يا خشب الورد‏,‏ أو عن يوم صحت فيه نجاة علي صوت فرح بصت من الشباك لقت زينة وفرح وناس كتير رايحين هنا وهناك شاوروا لها بإديهم وقالوا لها عقبالك‏,‏ هللت من الفرحة وسألت‏:‏ قالوا لها جارك‏..‏ جاري حبيبي اللي ساكن قصادي وبحبه‏!!!..‏ وبلكونات كانت مسرحا وملعبا ومنصة ومنبرا أخرجت لنا مشاهير وساسة وملوك وثوار من الداخل ليطلوا علي الجماهير المزروعة في الميادين‏..‏ عبدالناصر والجموع الحاشدة يوم الوحدة مع سوريا‏,‏ ويوم إعلانه في المنشية تأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية‏..‏وطلة فاروق عابدين من الشرفة الملكية‏,‏ وبابا روما علي ساحة الفاتيكان‏..‏ وهتلر الواقف في شرفته ساعات مخشب أمامه ذراعه لتمر من تحته جيوش شباب النازي‏..‏ وشرفة صغيرة جانبية في استراحة السادات بالإسماعيلية شاور لنا عليها أثناء حديثه بمناسبة إنشاء جريدة مايو حول مائدة غداء خفيف وصحي وبيتي للغاية‏,‏ وكان طبقه الوحيد فيها القريش وحده‏:‏ عارفين يا ولاد صاحبكم جاب كرسيه وقعد جنبي هناك في البلكونة دي يرغي ويبرر ويحلل ويعتذر وأنا ولا أنا هنا‏,‏ حيلعب علي مين؟‏!‏ كلامه يدخل ودني من اليمة دي يطلع من اليمة التانية وأنا مش معاه خالص‏,‏ ولما زهق وشعر بعدم جدوي محاولاته استأذن وقام‏,‏ وأنا ولا أنا هنا‏...‏ وتلعب شرفة أخري في حياة السادات مأساة جلس فيها متأنقا مستعرضا فخورا بأبنائه‏,‏ وراح منها مأسوفا عليه محمولا علي الأعناق‏..‏ وشرفة أطل منها رينيه أمير موناكو في شبابه معه عروسه الهوليوودية جريس كيلي يردان علي تحية جماهير إمارة القمار‏,‏ وشرفة ظهر فيها شارلز وديانا يوم الفرح العظيم قبل الطلاق الحزين والمصرع الغامض تحت الكوبري‏,‏ وشرفة بنوار ضمت في الأوبرا الجديدة أوجيني وإسماعيل يشاهدان أوبرا عايدة الجديدة‏,‏ وشرفة أطلت منها لبني قطعة المارون جلاسيه في الوسادة الخالية ترقب عبدالحليم لتلحق به بكرة وبعده في سكة مصر الجديدة لما كانت صحراء‏.‏ وشرفة منصة ليجفارا خطيبا‏,‏ ومصطفي كامل‏,‏ وسعد زغلول‏,‏ والنحاس‏,‏ وشرفة نادي القضاة‏,‏ ونيرون يطل من فوق علي دخان حريق روما‏!‏وتماما مثل قراءة الكف فالبلكونة مرآة للداخل وإن صدق المثل في البعض من بره هللا هللا ومن جوه يعلم الله‏,‏ وهذا المثل ينطبق علي بيوت اليمن وإن كانت بداخلها مرتبة ورحبة ونظيفة لكن الاهتمام الجمالي مركز بالذات في الواجهات المغالي في نقوشها وتزيينها بالفتحات والبروزات والوحدات الهندسية‏,‏ وهذا الانشغال بالمظهر الخارجي ينسدل أيضا علي ملابس اليمني بزخرفات العمة والحزام والشال والخنجر حتي إنه لو وقف بجوار عمارة بيته لما اختلفت الأذواق والإغراق في البرقشة‏,‏ وأخيرا اختارت منظمة اليونسكو مدينة زبيد اليمنية في الشمال كأجمل مدينة أثرية في العالم بمعني أنه لو أحيطت بسور خارجي لتحولت إلي متحف قائم بذاته‏..‏ هذا عن اليمن أما في السعودية فقد قامت تقاليد المجتمع المحافظ بتشفير فكرة البلكونات‏,‏ حيث ينفر المواطن السعودي من الجلوس مع عائلته في البلكونة علي مرمي من أنظار الجيران‏,‏ ويؤكد في شرحه لوجهة نظره علي أن التصميم المعماري العربي في التاريخ الإسلامي يتجه إلي الداخل وليس إلي الخارج كنوع من الخصوصية‏,‏ ويري في البيت حرمة يمارس فيه تحركاته براحة تامة بعيدا عن عيون التلصص‏,‏ إلي جانب الطقس السعودي المتقلب طوال العام بطبيعته التي تصدر الغبار والتراب والرياح والزوابع‏...‏وفي دول الخليج ظهرت البلكونة منذ نصف قرن في البنايات الحديثة بتأثير من المهندسين المصريين الذين نقلوا معهم ذوق وطرز التصميمات المصرية المستحبة‏,‏ ولكن تلك الدول عادت في العشرين سنة الأخيرة إلي فكرة إلغاء البلكونة وضم مساحتها للشقة لسببين‏,‏ أولهما حرارة الطقس علي مدي غالبية شهور السنة الذي لا يجدي معه الجلوس خارج الجدران‏,‏ هذا إلي جانب أن البيت في حد ذاته قد تحول إلي مجموعة داخلية من البلكونات بأجهزة التكييف‏,‏ ثم إنه أولا وأخيرا لم يعد هناك وقت بعد هدة يوم العمل الطويل لقعدة البلكونة‏,‏ أما عملية نشر الغسيل في بلكونات الخليج فمحظورة بحكم القانون الذي يلزم المواطنين وبالذات الهنود بعدم نشر أي حاجة بره البيت‏.‏ومثلما يلعب التكييف الآن دوره الأساسي في تلطيف الحرارة فقد ظلت المشربية منذ العصر المملوكي تقوم بهذا الدور‏,‏ حيث تتيح الفرصة لتيار هوائي متجدد يرطب المكان‏,‏ إلي جانب وظيفتها الاجتماعية بتحقيق الخصوصية لأجنحة المنزل وقاعاته خاصة أجنحة الحريم للجلوس بمعزل عن العيون المتطفلة مع إمتاع النظر بكل ما يدور بالخارج عبر ستائر الدانتيللا المزودة بشبابيك متعددة الأحجام والفتحات منها ما يفتح رأسيا أو أفقيا دون حاجة إلي غراء أو مسمار تشكلها قطع أخشاب مخروطة لها أسماء ومصطلحات مختلفة عند أهل الصنعة باختلاف أشكالها وأنواعها مثل العرناس والمسدس الدقماق والمتلوت والوردة والعريجة والميموني العدل والمايل والصليب الفاضي والمليان‏,‏ والتي تتداخل بترديدات لا نهائية في نسيج متكامل ومتوازن تضفي ثغراته علي الضوء المتسرب حسا روحيا وأجواء شبيهة بالأحلام مما حرك في ابن خلدون حسه الشاعري ليذكرها في وصفه للقاهرة‏:‏ من لم ير القاهرة لم يعرف عز الإسلام‏,‏ فهي حاضرة الدنيا وبستان العالم وإيوان الإسلام وكرسي الملك‏,‏ تلوح بالقصور والأواوين والمشربيات‏,‏ وتزهر بالمدارس والخوانك‏,‏ وتضئ البدور والكواكب‏.....‏ وتظل مشربيات التراث ــ بلكوناته ــ شاهدا علي العمائر البديعة التي بقيت لليوم نابضة بالفن والجمال مثل بيت السحيمي بالجمالية وكان يخص أحد القضاة‏,‏ وبيت الهواري بالأزهر وكان يخص أحد الأطباء‏,‏ وقصر المسافرخانة بالجمالية وكان يخص شاهبندر التجار في القرن الثامن عشر‏,‏ ومنزل زينب خاتون بالقرب من جامع الأزهر‏..‏ وفي بداية القرن العشرين خلال فترة الاحتلال الإنجليزي ظهرت بعض المحاولات تواكب حركة النهضة الوطنية لتشييد مبان تحافظ علي المفردات التراثية في التشكيل وعلي الأخص المشربية والقمرية ــ فنون شباك الزجاج المعشق ــ وأمثلتها مبني بنك مصر‏,‏ ومعهد الموسيقي العربية‏,‏ وفيلا هنداوي بالقاهرة‏..‏ وتبقي المشربية رمزا وجمالا وتراثا خالدا يقتبسها البعض فتؤدي لحن الأصالة‏,‏ إلا أن الواقعين في غرامها لابد وأن يعزفوا نغمتها الصحيحة بحسن استخدامها في البناء الحديث حتي لا تتكرر مأساة ما حدث في قرية الصحفيين علي الساحل الشمالي التي حجبت فيها الرؤية من بعد الهواء من جراء المشربيات التي خرمت المباني من الجهات الأربع حيث التصقت الرمال في دانتيلا الثقوب وعششت بفعل الرطوبة ونوات الشتاء‏,‏ هذا بينما مفهوم السكن علي البحر بلكونة فاتحة صدرها علي المالح‏!!‏وانتهيت إلي أن البلكونة ليست في ذلك البرواز المربع أو المستطيل أو المستدير خارج حدود المبني في الهواء الطلق‏,‏ لكن مفهومها أوسع وأعمق وأشمل بكثير‏..‏ لقيتها رئة وحرية ومعني‏,‏ لقيتها فلسفة الحياة‏,‏ لقيتها نظرة للبعيد‏,‏ ومني ومنه ومنها للسماء‏..‏ لقيت ثقافتها تختلف ما بين ابن الأمير وابن الغفير‏.‏ لقيت سقفها جاري وأرضها جارتي وصباح الخير ومساء الخير علي يميني وشمالي‏.‏ لقيت بلكونات الفلاحين مساطب‏,‏ والشحاتين الرصيف‏,‏ والناس الغلابة قعدة ع الكورنيش‏,‏ ولقيتها في الحسينية وباب الشعرية والجمالية والعطوف ع السطوح‏,‏ وفي القطامية الروف‏..‏ و‏..‏ تحت التكعيبة في المركز بلكونة حضرة المأمور‏,‏ وبلكونة التلامذة الحوش‏,‏ وبلكونة الذئب في فتحة الديكولتيه‏,‏ وبلكونة الدرويش حلقة الذكر‏,‏ وبلكونة حرامية الجامع ساحة قلع الجزم‏,‏ وبلكونة المعارضة حرفان متعانقان اللام والألف‏,‏ وبلكونة المظلوم يوم يبات ظالم‏,‏ وبلكونة العانس قعر فنجان القهوة‏,‏ والفسخاني بلكونته وش برميل الفسيخ‏,‏ والتربي ممر ما بين شاهدي قبر يمدد فيه ساقين وسط تيار هواء الميتين‏‏ أما بلكونة السجين فطاقة قرب السقف تسجن السماء بقضبان الحديد‏..‏ وبلكونة المفكر جوه نظارته‏,‏ وبلكونة العاشق عيون حبيبته‏,‏ وبلكونة العرفي الوعد بالشرعي‏,‏ وبلكونة الحران قلب بطيخة‏,‏ وبلكونة الجائع خروف‏..‏ وبلكونتي أنا في ضحكة سن الحفيد‏..‏ وبلكونة بالفرنساوي‏,‏ أو مشربية بأصل مملوكي‏,‏ أو شرفة من أشرف وشارف ومشرف في مختار الصحاح‏,‏ أو فراندة بالأسباني‏,‏ أو بنوار بلغة المسرح‏,‏ أو تراسينة ومذكرها تراس‏..‏ كلها كلها مطلوبة وموصوفة ومستحبة وهاوية ومأمون جانبها‏..‏ اللهم إلا إذا أعلنت بغشم أنه في نية البعيد كتابة مذكراتك‏..‏ ساعتها قل علي روحك يا رحمن يا رحيم‏,‏ وقبل ما تطلع بلكونتك تتهوي أو تشاور أو تحاور انظر خلفك‏..‏ والمصيبة أنه قد لا تكون هناك حتي فرصة للنظر للخلف‏!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق