الأحد، 30 أغسطس 2009

عمـر بن عبدالعزيز‏..‏خامس الخلفاء..بقلم سناء البيسي

في حلوان جاء مولده عام‏61‏ هـ أيام كانت مرتعا وملعبا وجنة وهواء عليلا طيبا وينابيع شفاء‏..‏ أيام كانت حلوان عاصمة في زمن آل مروان هروبا من طاعون البلاء‏..‏ أيام كانت حلوان شجرا وثمرا وحدائق غناء ونخيلا وأعنابا وقصرا منيفا لحاكم البلاد‏..‏ أيام كانت حلوان ملاذ الأمان لعمر بن عبدالعزيز بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف‏...‏ و‏..‏تبقي حلوان من بعده قرونا جنة الرحمن التي نلحق بها في زماننا نلهو أطفالا بين ربوعها وتغمرنا ينابيعها ونبيت فيها منتجعا للصحة والجمال‏..‏ حتي‏..‏ حتي سكن الطير وتحجر الشجر وانسدت الرئات واختنقت الحديقة اليابانية وانكفأ تمثال بوذا علي وجهه حزنا علي ما أصاب ملجأ الخلفاء ومدينة الشفاء بعدما زحفت المصانع والمداخن والتلوث والسناج والهباب‏,‏ وكانت نقطة البداية الرعناء انتقال مصانع الحرير لصاحبها اللوزي من دمياط إلي حلوان‏,‏ وبعدها أتاها نذير الموات مع الحديد والصلب والصهر والطرق وذرات كربون وغبار أسمنت معلقة في الفضاء وأسياخ الأفران ودرن الرئات‏..‏في زمانه وزمان حلوان رمح الأمير الصغير في حدائق قصر والده لتسوقه قدماه إلي حظائر الخيل فيثب بينها لاهيا يمسح علي رؤوسها ويدور من حولها ويتأرجح مع أذيالها فإذا بجواد ملول يترفع عن اللعب مع الصغار يزيحه بركلة تلقيه أرضا بعدما شجت جبينه فيحمل لوالده والدم يغطي وجهه الباكي البريء‏,‏ وقبل أن يغشي الأب الأسي علي ابنه طافت بخاطره ذكري ألقت علي وجهه راحة كبري ليزف لزوجته سبب البشري‏:‏ أبشري يا أم عاصم لقد تحققت نبوءة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ابننا الحبيب بهذه الدماء‏..‏ وكانت بداية النبوءة عندما كان ابن الخطاب يطوف ليلا في طرقات المدينة لعل هناك جائعا أو مريضا أو مقهورا في حاجة لمعونة‏,‏ وعندما أرهقه الطواف لاذ بحائط دار فقيرة فترامي لأذنيه حوار بين أم وابنتها حول اللبن الشحيح الذي جاد به ضرع عنزتهما العجفاء‏,‏ وكانت الأم تدعو ابنتها لتخلط اللبن بالماء ليفي ثمنه بحاجاتهما‏:‏ يا بنية امزقي اللبن بالماء‏..‏ وتجيبها الابنة‏:‏ كيف أمزق وأمير المؤمنين نهي عنه‏!..‏فتعود الأم‏:‏ إن أمير المؤمنين لا يرانا الآن‏..‏ امزقي‏..‏ وتجيبها الابنة‏:‏ إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فرب أمير المؤمنين يرانا‏..‏ و‏..‏ عاد أمير المؤمنين لداره ليدعو عاصم ابنه موجها نصيحته‏:‏ اذهب فتزوج الابنة فما أراها إلا مباركة ولعلها تلد رجلا يسود العرب‏..‏ وتزوج عاصم الفتاة لتلد له ليلي وكنيتها أم عاصم التي تزوجت بدورها عبدالعزيز بن مروان لتلد له عمر بن عبدالعزيز‏,‏ وتكتمل النبوءة عندما يري أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رؤيا نهض منها ليسأل قبل أن يأتي الحفيد بأربعين عاما‏:‏ من هذا الأشج من بني أمية؟ ومن ولد يسمي عمر يسير بسيرة عمر ويملأ الدنيا عدلا؟‏!!..‏ و‏..‏ تركل الفرس جبين الموعود فيشج ليتذكر والده نبوءة الجد فيهتف غبطة‏:‏ إن تكن أشج بني أمية‏,‏ إنك إذن لسعيد‏!!‏ابن الرفاهية والنعيم جميل الطلعة أبيض البشرة نحيل القوام مسدل الشعر علي الأكتاف‏,‏ من كان إذا سار هب عبق المسك يعلن قدومه‏,‏ ويطبع بخاتمه فيفوح موضعه العنبر‏,‏ ويشتري الثوب الثمين ليرتديه مرة واحدة‏,‏ وفي اليوم الواحد يغير حلتين‏,‏ ويسبل إزاره حتي يكاد يتعثر بذيله الهفهاف‏,‏ وربما دخل نعله فيه فيشقه فلا يخلع النعل‏,‏ ويسقط أحد شقي ردائه عن منكبه فلا يرفعه‏,‏ ويمشي مشية متأنقة متبخترة يحسده عليها الطاووس سميت باسمه المشية العمرية التي أصبحت من آيات الأناقة لدي الرجال والنساء ــ تلك المشية التي لم يستطع تركها بعد زهده حتي يقول لغلامه مزاحم‏:‏ ذكرني إذا ما رأيتني أمشي بها لأقومها‏..‏ لكنه لم يكن يستطيع إلا الرجوع إليها بلا عمد ــوكان ركبه في السفر أربعين جملا تحمل متاعه من الكتب وأفخر الثياب وأطيب الطعام والشراب‏..‏ ركب يغادر مصر إلي المدينة بالغلام ليدرس بها ويتفقه وهي يومئذ منارة للعلم ومجتمع يموج بالنبوغ الإنساني في فنون الشعر والعزف والغناء‏,‏ ويستجيب لرغبة والده في أن يدرس إلي واحد من كبار فقهائها صالح بن كيسان‏,‏ وحدث أن تأخر عمر عن صلاة إحدي الفرائض مع المصلين بمسجد الرسول فسأله بن كيسان عن سبب تأخره فأجاب الغلام في صدق‏:‏ كانت مرجلتي ــ ماشطتي ــ تمشط شعري فقال أستاذه في عتاب‏:‏ أو تقدم تصفيف شعرك علي الصلاة؟‏!!..‏ ولأن الأب عبدالعزيز بن مروان حاكم مصر قد أوصي بن كيسان بالكتابة الدائمة له عن آخر أخبار ولده فأرسل إليه بهذه الواقعة ليأتي أمر عبدالعزيز للابن عمر بأن يحلق شعره جميعه‏!..‏في شباب عمر كشف نزوعه الفني عن موهبة أصيلة في الغناء والتلحين‏,‏ ولو احترف عمر صاحب الصوت العذب الشجي لبذ بصوته أساطين الغناء‏,‏ ولو مضي في التلحين لنافس أقطابه‏,‏ ويسبق الموهبتين لدي عمر بن عبدالعزيز ولعه بالشعر‏,‏ يقبل عليه حافظا متذوقا ناقدا‏,‏وهو الذي وضع لحنا آسرا للأبيات التي تغني بها ابن سريج عميد الغناء بالحجاز‏:‏عـــلق القــلب سـعـــادا عـادت القـلب‏,‏ فعـاداكــلمـا عـــوتب فـيهـــــا أو نهي عنها تمــاديوهو مشغوف بسعدي قد عصي فيها وزاداورغم استمتاعه باللحن الأصيل وصوته الندي الشجي لم يرخ عمر العنان لموهبته واستمتاعه‏,‏ فقد كان صوت التقي يعلو بداخله دوما ليظل ينصح ابن سريج لله در هذا الصوت لو كان بالقرآن‏..‏ ويتولي عمر إمارة المدينة في عهد الوليد بن عبدالملك لتغدو من عاداته تفقد أحوال الرعية تحت جنح الليل كما كان يصنع جده عمر بن الخطاب‏,‏ وعرف من خلال جولاته ليالي أنس خلف الأبواب المغلقة داخل البيوت فلم يعرض لأصحابها وقال للشرطة من حوله‏:‏ ما ضمت عليه البيوت فلا شأن لكم به‏..‏ وحرج عليهم أن ينتهكوا حرمة بيت أو يفضحوا أهله‏..‏وكان أن اشتهرت في المدينة جارية لها أجمل الأصوات فجاء أحد أثرياء العراق لشرائها فوجدها عند القاضي الذي سأله عن سبب تحمل كل تلك المشقة إليها؟ فقال لأنها تغني فتجيد الغناء‏..‏ ولما لم يكن القاضي علي علم بموهبتها طلب منها الغناء فغنت فانتشي واستخفه الطرب حتي جثا علي ركبتيه زاحفا ككبش يريد الذبح في الحج فداء لها طالبا منها ألا تكف عن الغناء ولتفعل به ما تشاء‏..‏ وكان طبيعيا أن قام بصرف طالب الشراء الذي ذهب إلي عمر أمير المدينة ليروي له ما كان من أمر القاضي فقال عمر‏:‏ قاتله الله لقد استعبده الطرب وقام بعزله من منصبه‏,‏ فلما علم القاضي بعقابه قال‏:‏ لو سمعها عمر لقال ما لم يقله وربما ما قلته أنا‏..‏ فلما بلغ ذلك عمر أرسل إلي القاضي والجارية‏,‏ فسأله عما قاله فعاد يردده مؤكدا‏:‏ كل نسائي طالقات إن لم يحدث هذا‏..‏فأمر عمر الجارية بالغناء فأتي شدوها‏:‏كأن لم يكن بين الحجون إلي الصفاأنيس ولم يسمر بمكة ساحربلي‏,‏ نحن كنا أهلها فأبادناصروف الليالي والجدود العواثرفطرب عمر واستعادها مرات وقد فاضت دموعه وعذر القاضي وأعاده إلي منصبه‏...‏ وأيا تذهب مواهب عمر وتحلق فإن لفضائله ولدينه الكلمة الأخيرة‏,‏ فمع ولعه بالشعر نراه يعزف عزوفا نبيلا عن كل ما فيه من إسفاف حتي إنه عندما يغدو واليا للمدينة يخرج منها عمر بن أبي ربيعة لما كان يزخر به شعره من مجون واستخفاف بالحرمات‏,‏ وربما ترسب في أعماق عمر ما كان من تعرض ابن ربيعة لفاطمة بنت عبدالملك بن مروان قبل زواجه منها‏,‏ حيث كان يدور من حولها في موسم الحج معجبا ولا يذكر اسمها خوفا من أبيها الخليفة فلما ارتحلت قال فيها‏:‏كدت يوم الرحيل أقضي حياتيليتني مت قبل يوم الرحيللا أطيق الكلام من شدة الخوفودمعي يسيل كل مسيل‏!‏وتمر الأيام ولا يدخل علي عمر بن عبدالعزيز في خلافته إلا الفقهاء والعلماء والزهاد وأصحاب الحاجات‏,‏ ويقف الشعراء ببابه ولا يأذن لهم‏,‏ وقدم جرير فأطال الوقوف بالباب وعمر لا يأذن له حتي شفع له عالم زاهد فأذن له لينشد قصيدة طويلة جاء فيها‏:‏إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنامن الخليفة ما نرجو من المطرهذي الأرامل قد قضيت حاجتهافمن لحاجة هذا الأرمل الذكر؟فأشفق عمر علي جرير وسأله حاجته فقال‏:‏ ما عودتني عليه الخلفاء من قبلك يا أمير المؤمنين قال‏:‏ وما ذلك؟‏..‏ قال‏:‏ أربعة آلاف دينار وتوابعها من الحملان والمطايا والكسوة قال‏:‏ أربعة آلاف؟‏!!‏ إنها لتكفي حاجة أربعمائة بيت من بيوت المسلمين وأعطاه من ماله الخاص أربعة دنانير‏!!‏في الخامسة والعشرين أولاه الخليفة الوليد بن عبدالملك إمارة المدينة ومكة والطائف لتكون أولي حسناته فيها عقده مجلسا للشوري من عشرة من كبار الفقهاء أصحاب العلم والمعرفة لا أصحاب المال والنسب‏,‏ وبعدها لم يقطع أبدا بأمر إلا بعد مشورة العشرة‏,‏ ويقبل علي الإصلاح بإطلاق السجناء من أصحاب الآراء المعارضة بمنهاج‏:‏ متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا‏..‏ ويعين للقضاء العالم الورع أبوبكر بن حزم متوجا قراره بدستور يقضي بأنه لا ينبغي للمرء أن يكون قاضيا حتي تكون فيه خمس خصال‏:‏ أن يكون عالما مستشيرا لأهل العلم‏,‏ ملقيا للطمع‏,‏ منصفا للخصم‏,‏ مقتديا بالأئمة‏....‏وأراد الخليفة أمير المؤمنين الوليد في دمشق إعادة تعمير المدينة فدعا عمر مجلس شوراه ليقرأ عليهم كتاب الوليد الذي أمره فيه أن يدخل في المسجد حجرات أزواج الرسول‏,‏ وأن يشتري ما حول المسجد من مبان ليهدمها ويضمها إلي مساحة المسجد ليكون مربعا مائتي ذراع في مائتي ذراع‏..‏ ويرسل عمر للوليد ينقل إليه أن الناس يؤثرون إبقاء حجرات أمهات المؤمنين كما تركها الرسول فيرد الوليد أن يفعل ما أمره به‏,‏ فباع أصحاب المباني المجاورة للمسجد مبانيهم وأخذوا أثمانها وكانوا يبكون كلما رأوا الهدم‏,‏ وأرسل الوليد إلي ملك الروم يخبره بتعمير المسجد النبوي طالبا منه إمدادا بمعماريين مهرة‏,‏فأرسل إليه بمائة منهم‏,‏ ومعهم حمل أربعين بعيرا من الفسيفساء ليزين بها أرض المسجد‏,‏ ومائة ألف مثقال من الذهب هدية من ملك الروم إلي ملك المسلمين لتوسيع المسجد النبوي‏..‏ ويذهب الوليد بعدها للحج فلما أتي المدينة لم يجد الاستقبال كما توقع فالناس تغشاهم كآبة لأنه أمر بتوسيع المسجد النبوي من ناحية القبلة وسائر نواحيه وأمر بضم حجرات أمهات المؤمنين إليه‏..‏ ولولا شوري عمر لأذعن الناس في رأيه للأمر صاغرين كما كانوا علي عهد أبيه عبدالملك الذي ما كان يسمح لأحد بأن يراجعه‏,‏ ولقد أنذر الناس أن يقطع رقبة من يقول له اتق الله‏..‏ عمر في رأيه قد زلزل هيبة الملك حتي تجرأ مجلس شوراه علي نكران ما صنعه بالمسجد النبوي الشريف بمواجهته بقولهم‏:‏ أنت تجعل بنيان المسجد عاليا شاهقا باذخا‏,‏ولكن الحجرات قصيرة السقوف‏,‏ وسقوفها من جريد النخل‏,‏ وحيطانها من اللبن‏,‏ وتركها علي حالها كان أولي‏,‏ لينظر الحجاج إلي بيوت النبي عليه الصلاة والسلام فيعتبروا ويكون ذلك أدعي للزهد في الدنيا‏..‏ و‏..‏ ويوغر الحجاج بن يوسف الثقفي ــ عدو عمر التليد ــ صدر الوليد ليعزل ابن عمه عمر ليولي مكانه عثمان بن حيان للمدينة وخالد بن عبدالله القسري لمكة وذلك بترشيح من الحجاج ليعلق عمر علي ذلك بقوله‏:‏ الحجاج علي العراق‏,‏ وأخوه محمد باليمن‏,‏ وخالد القسري بمكة‏,‏ وقرة بن شريك علي مصر‏,‏ و الوليد بالشام‏!!‏ امتلأت بلاد الله جورا وظلما‏!!..‏وأدرك عمر أن الوليد عندما استدعاه بحجة أن يكون وزيرا بجانبه في دمشق إنما عزله ليبقيه تحت رقابته وعيون الحجاج الطاغية الذي بلغ في سجونه بالعراق وقتها مائة ألف سجين‏,‏ والذي لن تنسي المدينة المنورة أنه سماها الخبيثة‏,‏ والرسول سماها الطيبة‏,‏ ولأنه حين حكم المدينة أخافها‏,‏ وحين رحل عنها أهانها‏,‏ وفي الحديث الشريف‏:‏ من أخاف المدينة أخافه الله‏..‏ وهو الذي دخل المدينة غازيا بعد أن ذبح عبدالله بن الزبير وأرسل برأسه لعبدالملك وختم أيدي من بقي فيها من الصحابة بالرصاص وكان فيهم أنس بن مالك‏,‏ ودمر بجيوشه البيت الحرام‏.‏ويهتف أحد العلماء‏:‏ ليت أهل العراق يثورون عليه ويقتلونه‏!‏ فيقول عمر‏:‏ إن للحجاج عقوبة من الله‏,‏ فلا تتعجلوا عقوبة الله بالسيف‏...‏ ويأتي بريد العراق بخبر موت الحجاج وإذ سمع عمر النبأ سجد لله شكرا وصلي ركعتين‏..‏ ويقبل أهل الشام يعزون الوليد في الحجاج فتخلف عمر فسخط عليه الوليد ليلومه‏:‏ مامنعك يا عمر أن تعزيني في الحجاج كما عزاني الناس؟ ورأي عمر أن يصطنع الحيلة في الرد علي من في وجهه نية الفتك‏:‏ إنما الحجاج منا أهل بيت ونحن نعزي به ولا نعزي فاستراح الوليد قائلا‏:‏ صدقت‏!!‏وتأتيه الخلافة بكتاب سليمان أمير المؤمنين‏:‏ من عبدالله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبدالعزيز‏,‏ إني وليته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبدالملك‏,‏ فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم‏..‏ ويدخل عمر المسجد فإذا هو غاص بحشود الوافدين فرآها فرصة للخلاص من المنصب الكبير قبل أن يتشبث بكاهله‏,‏ فصعد المنبر وخطب في الناس‏:‏ أما بعد‏,‏ فقد ابتليت بهذا الأمر علي غير رأي مني فيه‏,‏ وعلي غير مشورة من المسلمين‏,‏ وإني أخلع بيعة من بايعني‏,‏ فاختاروا لأنفسكم‏..‏ولم يكد يفرغ حتي اهتز المسجد بدمدمة الاعتراض‏:‏ بل إياك نختار يا أمير المؤمنين‏..‏ ويكتب المؤرخون عبارة هي الخلاصة لمفهوم خلافته‏:‏ بويع عمر بن عبدالعزيز فقعد للناس علي الأرض‏..‏ بمعني الخضوع المطلق لحقوق الناس الذين يلي الخليفة أمرهم ويحمل مسئولية مصائرهم فإنه بمكانه هذا يكون بين أيديهم وليسوا هم الذين بين يديه‏..‏ قعد علي الأرض زاهدا في فراش الملك إلي الحصير ليهدم كل ما للسلطة من بذخ واستعلاء ولينزلها عن عرش الصلف والكبرياء إلي أرض البساطة والرحمة‏..‏ويناديه رجل‏:‏ يا خليفة الله في الأرض فيرد عمر‏:‏ صه‏..‏ إني لما ولدت اختار لي أهلي اسما فسموني عمر فلو ناديتني‏:‏ يا عمر أجبتك‏,‏ فلما كبرت اخترت لنفسي كنية أبي الحفص‏,‏ فلو ناديتني‏:‏ يا أبا الحفص أجبتك‏,‏ فلما وليتموني أموركم سميتموني أمير المؤمنين فلو ناديتني‏:‏ يا أمير المؤمنين أجبتك‏..‏ وأما خليفة الله في الأرض فلست كذلك ولكن خلفاء الله في الأرض داوود النبي عليه السلام فقد قال تبارك وتعالي يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض‏.‏ربيب الملك وحفيد المجد وابن القصور الناعمة والمباهج الغامرة لم يستغرق انقلابه الروحي الهائل المفاجئ سنين ولا شهورا بل جاء ابن اللحظة التي اختير فيها أميرا للمؤمنين‏..‏ ولم يكن وراء الانقلاب يأس من غاية أرهقت طموحه‏,‏ ولا هزيمة في الحياة راح يلتمس عوضا عنها‏,‏ ولا رد فعل لإفراط في شهوات النفس‏,‏ ولا نوبة تقي دفعت به إلي صوامع العابدين‏,‏ ولا نزعة تشاؤم تري العدم وراء الأشياء فتلوذ بصيحة اللامبالاة‏:‏ الكل باطل‏..‏ تنازل عن كل شيء‏..‏ عن ثروته حتي ولي الخلافة وكانت أربعين ألف دينار سنويا‏,‏ وأرضه التي يملكها وجواريه وقصوره وماله وثيابه حتي فص الخاتم في يده رده إلي بيت المال قائلا عنه‏:‏ أعطانيه الوليد من غير حقه‏..‏وبقيت له قطعة أرض صغيرة اشتراها بحر ماله لا تعطي أكثر من مائتي دينار في العام لحاكم أعظم وأكبر وأغني إمبراطوريات عصره يعيش بها هو وأسرته طوال العام وعرضه‏..‏ ويسرج شمعة من المال العام يقضي علي نورها حوائج المسلمين فإذا فرغ أطفأها ليقضي حوائجه علي سراجه‏...‏ يرفض الجزية علي الذين أسلموا من أهل البلاد المفتوحة ويخففها عن غير المسلمين مطلقا صيحته‏:‏ إنما بعث محمد هاديا لا جابيا‏..‏ يصدر أوامره الصارمة الحازمة إلي الولاة في كل الأمصار‏:‏ لا تهدموا كنيسة‏,‏ ولا تزيلوا معبدا‏..‏ يمنع التعذيب للحصول علي الاعتراف قائلا‏:‏ لأن ألقي الله بمعاصيهم خير من أن ألقاه بدمائهم‏!..‏يكتب لكل عماله في البلاد‏:‏ لابد لكل رجل من مسكن يأوي إليه‏,‏ وخادم يكفيه‏,‏ وفرس يجاهد عليه‏,‏ وأثاث في بيته‏,‏ فإذا كان غارما‏(‏ مدينا‏)‏ فاقضوا عنه ما عليه‏..‏ وهو الذي اشتهي التفاح فأتاه هدية فرده فلما قالوا له‏:‏ النبي قبل الهدية أجاب‏:‏ هي له هدية ولنا رشوة‏..‏ وهو الذي ردد قول الرسول عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا تنظروا إلي صيام أحد ولا صلاته‏,‏ ولكن انظروا إلي صدق حديثه إذا حدث وأمانته إذا اؤتمن‏,‏ وإلي ورعه‏..‏ وهو الذي قال‏:‏ يهدم الإسلام زلة عالم‏,‏ وجدال منافق في القرآن‏,‏ وأئمة مضلون‏,‏ وهو الذي أمر بجمع الأحاديث والسنة بعدما رأي اختفاء بعض الأحاديث الصحاح واندثارها بموت حفاظها وشيوع بعض الأحاديث المنحولة‏,‏ وشجع آل البيت علي تدوينها وإظهارها قائلا‏:‏ إن أوثق الأحاديث هي ما رواه زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام ويرسل عمر إلي علماء التدوين يذكرهم بالحديث الشريف الذي اختفي‏:‏ عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة‏..‏وهو الذي أبطل سب آل البيت علي المنابر‏..‏ و‏..‏يمنع الحراس السير بين يديه وأن يقوموا له حين يطلع عليهم‏,‏ ويكتب إلي والي مصر‏:‏ بلغني أن بمصر إبلا نقالات يحمل علي البعير منها ألف رطل‏,‏ فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يحمل علي البعير أكثر من ستمائة رطل‏..‏ وتفيض الأموال وينصلح الحال ويدور المنادون في كل مكان في الحضر والبادية لينادوا في الناس‏:‏ أيها الغارمون‏(‏ المدينون‏)‏؟ أين من يريدون الزواج؟ أين المساكين؟ أين اليتامي؟ ويخرج الأغنياء بزكاة أموالهم فلا يجدون فقيرا يأخذها‏,‏ وحتي المولود له راتبه وعطاؤه بمجرد ولادته وليس بعد فطامه حتي لا تتعجل الأمهات فطام الرضع فيتعثر نموهم وتخور قواهم‏,‏ وكفل عمر علي حساب الدولة لكل مريض خادما ولكل أعمي من يقوده‏..‏ وحتي الخوارج جادلهم بالتي هي أحسن ليقول له رسولهم‏:‏ أشهد أنك علي حق وأنني بريء ممن خالفك‏..‏ و‏..‏ تشاركه زوجه فاطمة التقشف الذي فرضه علي نفسه وبيته وترتعد أوصالها من الجوع والصقيع قائلة‏:‏ ياليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين‏..‏فوالله ما رأينا سرورا قد أدخلته علينا‏!!..‏ وإذا ما كانت الشهور التسعة والعشرون التي عاشها عمر بن عبدالعزيز خليفة تعتبر بالنسبة للتاريخ الإنساني كله بمثابة لحظة فإنها اللحظة التي أعطت للإنسانية ما تستطيع الإرادة أن تحققه من عدل إذا ما جعلت الله رقيبا‏..‏خشي بنو أمية أن يترك عمر الأمر شوري بعده فيخرج الملك من أيديهم فدسوا له السم الزعاف ليفيق من نوبات الألم يلتمس مرأي أقرب الناس إليه ليهونوا عليه‏,‏ فسأل عن ابنه عبدالملك فوجده يحتضر‏,‏ وعن أخيه سهل ومولاه مزاحم فعلم أنهما انتقلا إلي رحمة الله‏..‏ فمن يعينه بعدهم علي ما ابتلاه الله به؟‏!!!..‏ فاضت عيناه بالدمع إشفاقا علي نفسه من ثقل الأمانة التي يحملها والتي عرضت علي السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها‏..‏ راح يسابق المنية في إنجاز ما يستطيع إنجازه‏,‏ فحياته علي جناح طائر ولن يلبث بين الناس إلا قليلا وعليه أن يملأ اللحظة العابرة بجهاد أعوام ثقال‏..‏ وأرسل للأغنياء لرعاية الفقراء حتي يأتي خراج البلاد البعيدة فتثاقلوا عنه بل وطالبوا لأنفسهم بمزيد من الأموال‏,‏ والفقراء ياعمر يلحون شاكين‏..‏وتغدو ابتهالاته‏:‏ اللهم اقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط‏,‏ ويرسل في طلب عبدالله بن أبي زكريا الشيخ المستجاب الدعاء يسأله في إلحاح أن ادعو الله أن يميتني‏,‏ ويشتري قطعة أرض بدير سمعان تكون لجسده مثوي فينصحه الأصفياء إذهب إلي المدينة فإن أدركك الموت بها دفنت مع الرسول وصاحبيه فيأتي رده حاسما‏:‏ ومن أنا لأكون أهلا لهذا المقام‏..‏ ويشتد المرض وتتحول ملايين أمته إلي أطفال يوشك اليتم أن يدركهم حين يفقدون الأب الراعي الحنون الذي تفوح سيرته العطرة خارج أمته كالعبير حتي إمبراطور الروم يرسل كبير أساقفته‏,‏ وكان بالطب خبيرا‏,‏ راجيا منه صنع المستحيل لإنقاذ الخليفة العادل والقديس الجليل‏..‏ لكن السم كان قد سري في بدن ينتظر النداء بلهفة مشتاق‏,‏ فنادي علي زوجته الوفية وأولاده الاثني عشر بنتا وولدا جاءوه في ثياب خشنة وقد زايلت وجوههم الشاحبة نضرة النعيم من سنين‏..‏جلسوا يحيطون به فيعانقهم بنظراته الحانية يغالب دموعه فتغلبه فيواريها وراء كلمات يودع بها أعز الأحباب‏:‏ إن أباكم قد خير بين أمرين‏..‏ أن تستغنوا ويدخل النار أو تفتقروا ويدخل الجنة‏,‏ فاختار الجنة وآثر أن يترككم بين يدي الرحمن وهو يتولي الصالحين‏..‏ وبينما هم ينصرفون من المشهد الجليل لمحوه يحرك كفيه إشارة ترحيب لاستقبال ضيوفه القادمين‏..‏ ملائكة جاءت تصحب خامس الخلفاء الراشدين‏:‏ أبوبكر وعمر وعثمان وعلي و‏..‏عمر بن عبدالعزيز‏..‏ ملائكة الرحمة تواكبه في رحلة الفردوس‏..‏ ويسمعه الذين خارج غرفته يردد الآية الكريمة تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا‏,‏ والعاقبة للمتقين‏..‏ ومال رأسه فوق وسادة حشوها ليف مغمضا عينين لم تغمضا عن حق لله ولا حق للناس‏..‏ وعاد المسافر إلي داره‏..‏ عاد مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏..‏و‏..‏وكانت أخبار صلاحه قد ترامت للرعاة في رؤوس الجبال البعيدة فكانوا يتساءلون منذ ولي عمر‏:‏ من هذا العبد الصالح الذي قام علي رأس الناس؟ فقيل لهم‏:‏ وما أعلمكم به؟ قالوا‏:‏ علمنا من سالف الزمان أنه إذا قام علي رأس الناس خليفة عدل كفت الذئاب عن شياهنا‏..‏ وعادت الذئاب تشرع الأنياب وشكا الرعاة في الوديان الفسيحة وعلي رؤوس الجبال البعيدة سطوة الافتراس بلا رحمة بعد أن ظلت نحو عامين ونصف وما من ذئب واحد يفتك بشاة واحدة‏..‏ فعلم الرعاة أن إمام العدل مات‏!..

الخميس، 27 أغسطس 2009

مطلوب رئيس ..بقلم عبدالعظيم مناف

يقول ديجول:
( لا يمكن إنجاز عمل كبير بدون رجال كبار، وقد كانوا كذلك لأنهم أرادوه لأنفسهم).
ويقول «نيتشه»:
( إذا أردت فقد نجحت).
ويقول «الكواكبي»، وكان من المفترض أن يكون أول كلام هذا المقال باعتباره عربيا، لكن المقولة ثقيلة في الاستهلال فهو يقول:
( المستبد يود أن تكون رعيته بقرا تحلب وكلاباً تتذلل وتتملق).
ويقول أيضاً:
( المستبد عدو للحق.. وعدو للحرية وقاتلها).
تلك مقولات أربع مقدمة لـ «الجمهورية الرابعة» وفسادها الذي يملأ أركان الدنيا الأربعة.
عقب مصيبة مقتل الرئيس، وتنصيب النائب رئيساً، ورغم أن الأخير شارك الأول في قرار اختطاف أو سجن 1536 مواطناً شمل كل أقطاب المعارضة وكانت لجنة كارثة الثالث من سبتمبر 1981 أربعة أيضا،ً من بينهم النائب الذي نُصّب عقب المصيبة رئيساً.
رغم أن رئيس المكان الشاغر أو الظرف الطارئ شارك في القرار فإنه - وربما بنصيحة - وفي أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 1981 اختار عددًا من قيادات المعارضة وأفرج عنهم ثم استقبلهم في قصر الرئاسة، وتفاءل الجميع بالخطوة واعتز باللحظة قراراً واستقبالاً، من شملهم الإفراج ومن لم يشملهم، ذوو المختطفين- أو المتحفظ عليهم- أوعامة الشعب.
كانت أسماء المتاجرين في عهد الرئيس السادات قبل اغتياله المعروفين للناس أبرزهم (رشاد. عصمت. توفيق) الأخير للتنمية استورد طيورا جارحة، والأول استأمنه السادات علي الإسكندرية في التلفاز، والأوسط اتهم باستغلال النفوذ تربحاً وتنفذاً وجمده النائب بعد التنصيب عقب مصيبة مقتل رئيسه، وهرب الأخير، وكمن الأول كمونا مؤقتاً ثم ظهر مع مجموعة (روما لمن يدفع) أو (دعه يدفع- دعه يفسد- دعه يهرب). ثالوث جمهورية الدفع الرباعي لـ «الجمهورية الرابعة» وسيط الجهات الأربع.
أما «النوباتجية الثانية» من مرحلة ردة «مايو» علي ثورة يوليو فإليك بعض المتنفذين حول رئيسهم. ندماء في المنتجع مثل قرصان أنبوب غاز التطبيع، أو شركاء أراضي «البوغاز» سمسار الأرخبيل. عدو النيل ابراهام، والمغربي والزوربا وخميس وأبونصير ومنصور- أولاد الخالة- وأبوعينين ولجنتين، و«بسه» السعد والريان مافيا الأموال التي تفجرت مشكلتها في عام انفجارغضب قوات الأمن المركزي عام 1986 ومشروعات «توشكي» و«أبوطرطور» وشرق التفريعة» وضباع «الضبعة» وذئاب «القلعة» وقراصنة «القرصاية».
ومن المراجل إلي المناجم، ومن أرض «الميريديان» إلي أرض القلعة وفتح القصر ليصل القلعة بالضبعة.
في الأزمة المفتعلة بين «عز» قفاز اللص الحقيقي و«رشيد» جليس الجاني الحقيقي، وفي جلسة امتدت حتي الرابعة صباحاً في باريس- عشق رئيسهم- حيث كان الغاضب «رشيد» مبعوثاً من رئيسه إلي «فرنسا» لترتيب زيارة الأخير إلي «باريس» لحضور قمة «من أجل المتوسط» التي ستنعقد في 13 الجاري.
في الجلسة الممتدة في «باريس» حتي الرابعة صباحاً- كما نشرت الصحف- نصح وزير سابق قيل إنه مغضوب عليه، ثم ظهر نشاطه في قصر الرئاسة عقب خروجه من الوزارة- نصح الأخير الوزير «رشيد» أن يدخل مستشفي فرنسيا بدعوي إجراء فحوص حتي يهدأ غبار أو«زوبعة» عز، وذلك عقب غضب رشيد لانتصار ولي العهد لعز مسئول قطاع الحديد.
ومع أن رشيد ليس اشتراكياً يترصد «الأراجوز» الماسك بخصر عز ليؤدي دور المضحك. فأن أنصبة قراصنة المافيا في الصفقة والسلعة والنسبة يحددها القرصان الكبير. وليس عز ورشيد ونظيف فما هؤلاء إلا خطوط تليفون للاتصال أو أسلاك حديد للوُصَل أو أغلفة تعليب للتوصيل.
في عهد السادات كانوا ثلاثة «رشاد. عصمت. توفيق» وفقط هم الذين يعرفهم عصر الرئيس قبل تنصيب النائب عقب المصيبة، والآن انظر حولك أيها القارئ الكريم. ليس السعد والريان وعز ومني وهدي ورشيد وأبوعينين ومصطفي وأبونصير ونظيف وهاني وسرور وممدوح- لاحظ الأسماء تماما كما «رشاد وتوفيق وعصمت» كلها بغير مدلول.
ورغم أن الثلاثة في عهد السادات «رشاد وتوفيق وعصمت» أصبحوا آلافاً في عهد نائبه بعد أن أصبح رئيساً، وكذلك أصحاب الآلاف أصبحوا أصحاب مليارات وكلها من دم الشعب. فكيف لشخص مثل عز أو غيره لبس جلد أسد علي قلب جرذ يمكن أن يمتلك ثروة تفوق أربعين ملياراً؟! وسواء كان مجرد أمين خزانة. أو أمين مخازن. أو أمين تنظيم أو خلافه، فقد تابع القارئ الكريم ما نشرته صحيفة الدستور عن الحوار الخاص بإنفاق عز ثلاثمائة مليون جنيه علي الحزب، ورد عليه الدكتور «زكريا عزمي» بأنه استردها ثلاثة مليارات عوائد ومكاسب، وفي عصر الردة كان أيضاً «توفيق» وطيوره الجارحة وأكذوبة التنمية الشعبية أكواخًا منتشرة تشوه ميادين القاهرة وتوزع السموم أغذية فاسدة، وتملأ المستشفيات بالضحايا المسممة، وفي عهد النائب بعد أن أصبح رئيساً نُصّب عقب مصيبة رئيسه أصبح القتلي بالدم والدور والدوار براً- دم ملوث- وبحراً- عبارات وهجرة بحثاً عن عمل وجواً طائرات تُسقُط أو تَسقَط. وعن مافيا الصحة والدم الملوث ومقاول العبارة والعمارة وخلافه حدث ولا حرج. فهل ما كان في عهد السادات يقاس إذا استحضرت كوارث عصر النائب بعد التنصيب عقب مصيبة؟
ومع إدانة ما حدث منذ 1971 ـ وحتي الآن باستثناء العبور العظيم والنصر المجيد ـ يختلف عز ورشيد ويتدخل خدام الحرامين من أمثال «إبراهام سليمان» سمسار الأرخبيل، عدو النيل لينصح أو يهدئ رشيد في باريس هو وقطعان من قُطَّاع الأعمال شعبة رشيد. أو جناح الحديد. أو عسس الـ «سي. دي» أو «نظيف» علي «رشيد» حتي في باريس.
سواء اختلف أو اتفق عز ورشيد. أو رشيد ونظيف. أو عائد إلي الإسكان مطبل الطبالي بدلاً من لص أرض التحرير هل ستنخفض أسعار السلع ومنها الحديد أو الحرير؟ أو يتوقف نهب بنك القاهرة وعمر أفندي أو أرض العياط لحساب سعودي أو كويتي؟ وهل تعود أموال المسبوكات والمراجل ويحبس عبيد؟ وهل يعاد النظر في عقود «أكور» والغاز وسالم والمغربي ومنصور أو غيرهم؟ وهل سيعود ضحايا العبّارة أو الطائرة أو الهجرة أو العمارات الساقطة بفساد المحليات وانحراف الفسدة اختيار حكم الفساد والاستبداد والعناد الذين يفاخر رأسه بأنه يحمل دكتوراه في العناد، وهل كان مشرف رسالة نيل الدكتوراه هو المعتوه الغشوم الإرهابي الصهيوني «بوش الصغير»؟
هل تراجع عدد الخونة أو اختفي أو رد السرقة أحد اللصوص؟ انظر حولك بين هارب ومبرأ من حافظ إلي الغريب وأشباههما، ومن هارب إلي مهرب، ومن مختف إلي مخفي مثل ابراهام سمسار عائلة إغلاق الصحف. وبعض الرؤساء كبعض الهواتف منها الثابت الذي توضع فيها «العملة» فتعطي «الحرارة» تعطي «العمولة» فيبدأ «العمل»، ومنها «النقال» يتقاضي «المقابل» وسيط المتعامل» أو سمسار القرار.
سواء اتفق أو اختلف هؤلاء يظل أصل الداء. مصدر الوباء. وجذر البلاء. والقضية والإشكال والحل ليس عند عبيد أو نظيف أو عز أو رشيد.
عقب الإفراج عن الدفعة الأولي من المتحفظ عليهم، واستقبال «الجمهورية الرابعة» لهم رغم مشاركة رئيسها في قرار الثالث من سبتمبر 1981 الأربعة كما جاء في حوار النبوي إسماعيل وزير داخلية سبتمبر وأحد الأربعة، رغم أن «الجمهورية الرابعة» شاركت فقد أفرجت وهذا مطلوب ومحمود، لكن العواقب لم تكن بالمتوقع أو المأمول. فقد استدعت «النوباتجية الثانية» شخصية بارزة بعد مدة من استقبالها لبعض قيادات المعارضة للقاء ثنائي فاجأ الشخصية البارزة الفذة الفريدة.
في الطريق إلي المقابلة، وخلال المسافة ما بين المنزل واللقاء، ولحظات قطعتها السيارة والطائرة أخرج النابه البارز الفذ ورقة صغيرة سجل عليها أفكاره، ورتب أولوياته حسب ما يتيحه وقت اللقاء.
بدأ الراسل في طلب الرجل الحديث بأنه لم يكن يعرفه، وأول ما سمع عنه كان في قاعدة «أنشاص» الجوية حين كان الرئيس عبدالناصر يتحدث عنك، وسألت زميلي فور سماعي اسمك لأول مرة: مَنْ فلان؟ وقال «أشرحلك بعدما يخّلص الريس» وأشار إلي أن زميله لكزه في صدره «قالها باللهجة العامية الدارجة في مصر» حين سأله سؤاله، واستمر في الحوار لفترة ثم عرض خدماته علي الرجل المستدعي علي عجل، والذي لم يبلغ إلا قبل ساعات من الموعد عُبئت لها عناصر التاريخ وقتا، والجغرافيا أمكنة، والاتصالات بشرًا وهاتفًا وسيارة وطائرة.
وإزاء الرحلة، وربما لتخفيف الصدمة والفارق بين المظهر والمنجز كان لابد من كلمة لتأكيد الاعتبار، وتوصيل القرار حين يتعثر بالاحتباس -تجاهلا أو جهلا- الحوار.
قال العالم البارز. المَعْلَم الشامخ. العَلَم الوارف. المترفع الآثر -قال- لمستدعيه علي عجل. غير العارف بوقع المفرد علي المرهف «لم أكن أعرفك»!!
- سيادتك أعمالك كثيرة، واهتماماتك بعيدة، وأنا غير مشهور لديك أو قريب من مجالك. فطبيعي ألا تعرفني، واشكرك علي استقبالك ولك مشاغلك. أنا لست في حاجة إلي شيء، وحتي لو احتجت -ولا أعتقد- فإن حاجتي لا تشغلك فمسئولياتك أكبر، واهتماماتك أبعد.
كرر المستقبل عرض خدماته. لكن المستدعي كان قد استأذن واقفا كعادته قيمة وقامة وقمة وأذن له، ولم تكن الطائرة قد أخذت فاصلا كافيا بين الإقلاع والهبوط ثم الهبوط بعد إقلاع.
في العودة استمتع العالم المعلم العلم بحوار مفيد مع المرافق في رحلة الإياب بعد أن وقف علي حقيقة المعتاد، و«العادة أقوي من القانون»، كما يقال، ولا تكسب عادة في سن متأخرة وبالتالي فلا عائد من التفكير في إصلاح المستبد المعاند فهي ليست «زيد أو عبيد أو نظيف أو رشيد».
بعد العودة هاتف العالم العلم المَعْلَم كاتب السطور وحدد عقب صلاة العشاء موعد اللقاء ذات مساء.
ساعتها قال العالم المجرب المشارك في صنع المجد رأيه بوضوح: سيسوء الوضع ويزداد التردي حتي يحدث تغيير حقيقي وليس تبادل أدوار.
وحكي المناضل الكبير بعض ما حدث في واقعة الإفصاح عن عدم المعرفة بالشخصية، وتجاهل التعرف علي أفكار المجرب في الخروج من الجب. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث ومعني ذلك أن إهدار الفرصة ربما يكون مصدر «حسرة.. أو ربما يصبح عادة تفرز كوارث وليس كارثة أو «جرسة»، وليس فقط «حسرة».
ويمضي الزمن وتأتي الفرص وتهدر. تماما كما أهدرت فرصة لقاء بزعيم مجرب. خاض معارك، وحسم قضايا، وحقق انجازا وعرف بمعجزة.
وبعد أكثر من ربع قرن ثبت صواب رأي ورؤية الرجل رحمه الله رحمة واسعة وكتب لمصر وأمتها، وطنا ومواطنا، السلامة من الندامة والجهالة والجهامة.
عقب نهاية السادات كان يمكن لأي حاكم -أي حاكم- أن يحقق شعبية واسعة. لكن نائبه بعد مصيبة اغتيال رئيسه وتنصيبه خمس دورات كلها غير شرعية قال معترفا في خطابه بمناسبة عيد العمال في 30 أبريل 1987:
(الشعب لازم يشارك في اختيار ممثليه. إذ كان الممثلين يكون نتيجة قلة قليلة اللي تعطي أصواتها لن يكون الممثلين حقيقة يمثلوا كل هؤلاء المواطنين، ولكن أنا عايز أقول ملاحظة في محافظاتنا، محافظة القاهرة الأصوات اللي فيها مليون وحوالي 200 ألف، القاهرة اللي قاعدين طول النهار أكبر استهلاك في الجمهورية، أكبر مصاريف تليفونات، كهرباء، مياه، مجاري، كباري، صحف، بنكتب في الصحف، وماشيين حالنا تمام تفتكروا كام واحد راح أعطي صوته من المليون و200 ألف «200 ألف»!!) «راجع ......».
وبفرض أن الجميع انتخبوا سيادته، فهل يحق للحزب رئيسا ومرءوسا أن يتحدث عن الأغلبية؟
لم تكن فرصة حل مشكلة العراق والكويت بدلا من تأزيمها. أو مشكلة احتلال الصهاينة بيروت كأول عاصمة عربية خلال الشهور الأولي لتسلم النائب موقع الرئيس الشاغر، ولم يكن قصف الصهاينة حمام الشط في تونس واغتيال الشهيد أبو جهاد، ولم يكن اغتيال الشهيد الكبير الشيخ أحمد ياسين، ولم يكن اجتياح القدس الشريف من قبل الإرهابي الصهيوني شارون، كل هذه لم تكن إلا فرصًا لإنهاء أو تجميد كامب ديفيد، ولم يكن اغتيال أبناء عرب مصر جندا أو مدنيين برصاص الصهاينة في سيناء إلا فرصة لإغلاق مستوطنة الصهاينة المسماة زورًا سفارة، تفصل بين «الجامع» والجامعة. مسجد صلاح الدين وجامعة القاهرة.
لم تكن الحرب من الانفصاليين «مراكسة المربد. مراقصة الجنادرية» بتمويل العائلة العلة ضد وحدة اليمن إلا فرصة لتأكيد الإيمان بالثورة بدلا من الردة عليها بالوقوف ضد الوحدة. أو فرصة لإثبات الوفاء لشهداء مصر وبقية أشقائهم العرب في اليمن.
لم يكن رفض أو إجهاض مؤامرة الكويت ضد العراق إلا فرصة أُهدرت بالذهاب إلي «حفر الباطل» أو الباطن لا فرق- وكذلك مؤامرة الكويز لحساب الشركاء سماسرة البيجو والبوينج. الحديد والحرير. الغاز والبوغاز. ثروة وأرضا.
لم يكن كل ذلك إلا إهدار فرص ظهرت بوادرها وأطلت من جحرها في لقاء عكس الفارق بين الثائر والطائر. وظل المنوال، لكن دوام المحتال من المحال.
ظلت لبنان شهورا بدون رئيس ولم يحدث شيء، وجاء رئيس ولم يتغير شيء. وهنا فإن المطلوب هو رئيس لا تكون «العملة» مصدر «الحرارة» كالهاتف أو البراد، تعطه «العملة» يعطك «الحرارة» أو «القنينة» الغازية، وإنما يكون رئيسا فاهما. فاعلا، وقبلهما منتميا يختلف عن رؤساء شعارهم (روما لمن يدفع) لا يصافح اللصوص، ولا يعانق الجواسيس.
ليست القضية رشيد أو عز. نظيف أو عبيد. إنما المطلوب رئيس، رأس استوعب درسا. فأيهما أنفع لمصر وأمتها الدكتور عزيز صدقي رحمه الله. أم مصطفي خليل الذي بات في منزله صهاينة وقد تجاهل رئيسه الأول وشارك في جنازة الأخير.
إن أمثال أو أمثولة حكام طبَّعوا وذهبوا إلي فلسطين المحتلة ووقفوا باكين أو معزين «!!» فوق قبر المقبور المجحوم المذموم الإرهابي الصهيوني «رابين» هم أنفسهم المتآمرون المحرضون المتورطون في حصار واحتلال وتدمير العراق وإعدام رئيسه الشرعي الفارس الرئيس الشهيد صدام حسين.
ولأنه لا فرق بين صهيوني ومتصهين ففي عام 2006 قال الإرهابي الصهيوني «أولمرت»: إن حرب العراق كانت بالنسبة لنا نعمة.
قال أيضا متصهين آخر: «ربنا بعت لنا حرب العراق من السما. من غيرها كنا هنعمل إيه؟»
في أواخر عام 2005 أي بعد ثلاث سنوات من مهانة مرور سفن وطائرات العدو الأمريكي في مياه مصر وأجوائها لاحتلال العراق قام الدكتور فتحي أبوعيانة الأستاذ بجامعة الإسكندرية بدراسة مسحية كشفت عن وجود 74 ألف مليونير في مصر تبلغ ثرواتهم حوالي 650 مليار دولار، وأن هناك 37 مليون شخص تحت حد الفقر و9 ملايين أسرة لا يزيد دخلها علي دولار واحد يومياً وبمتوسط خمسة أفراد للأسرة يصبح المجموع حوالي 45 مليون شخص، وأن الصعيد أكثر فقراً فقد بلغت ـ وفق الدراسة ـ نسبة الفقر في الوجه القبلي- الصعيد- 44 في المائة، بينما كانت في الوجه البحري 33 في المائة.
كان ذلك منذ ثلاث سنوات قبل ارتفاع سعر الحديد والدقيق وسعار التاجر والفاجر والفاسد. حتي سقطت هيبة الدولة في كل مكان ومكانة . قوميا وقطريا -أي داخليا- حين صفع سائق «ميكروباص» ضابط شرطة يقوم بواجبه بشارع قصر العيني أمام مجلسي الوزراء والشعب (قُطّاع الأعمال حملة الأسهم. وحملة الحصانة في نفس الوقت) بعد عبور الشارع بسرعة لتسريع التشريع عند سرور إلي نظيف.
ومن ظلم للمواطنين إلي العسف بالقوانين وزير «أكور»، ونائب لجان «الديكور» ملوث الدم أو مُهرب الفياجرا، ومن الكويت إلي الكويز بين مفتقد الهُوِية ، مزدوج الجنسية، منعدم السوية.
كل هؤلاء كالشياطين يتداوون بدماء البشر. هل رأي القارئ الكريم إلي أي قدر خيانة مصافحة طالباني لباراك؟ لا فرق بين الخفيف المهزار ونظيره ومثيله الخفيف المهزار المئكال.
رحم الله الشاعر الثائر الضابط الحر «مصطفي بهجت بدوي» القائل:
لن يدوم زمان تائه تعس
مصر فيه و«إسرائيل» خلان
ما هذه مصر لا بل مصر رافضة
تاريخها لم يصادق غصب قرصان
فانهضي يا مصر
نقلا عن
الموقف العربي

الشاه السعودي ..بقلم عبدالعظيم مناف

في كتابهما (طريقنا يبدأ من بغداد - صقور البيت الأبيض) كتب «ويليام كريستول» و«لورانس. ف. كابلان» علي صفحة مائة وواحد وأربعين من ترجمة «رجاء الشلبي» يقولان:(إن الديكتاتوريات العربية «الصديقة» كانت فعلاً مقززة، لكن كان من الممكن أن يكون خلفاؤهم المحتملون أسوأ منهم أيضا، ولم يمتنع أولئك «الديكتاتوريون الأصدقاء» عن تذكير الإدارة الأمريكية بذلك. هكذا-وفي رسالة موجهة إلي الرئيس بوش العام الفائت- لفت الأمير الوارث للعرش السعودي مشيرا إلي أن: «إذا لم تبدُ الولايات المتحدة أكثر تأثرا إزاء الوضع الصعب الذي يواجهه نظامه، فالعائلة المالكة قد تعاني نفس المصير الذي واجهه شاه إيران) «انتهي الاقتباس». في الهامش رقم 178 قال الكاتبان: الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، رسالة إلي الرئيس بوش، في 28 تشرين الأول 2001-أي قبل عامين من احتلال العراق بعد قصفه.وفي اللحظة التي يحبر فيها هذا المقال تكون طائرة الجمهورية الرابعة قد أكملت رحلتها الثانية والخمسين للعاصمة الفرنسية «باريس» في رحلات متواترة غير مسبوقة التسرع والعدد لدولة شاركت في عدوان صهيوني بريطاني فرنسي ثلاثي بعد أربع سنوات من قيام الثورة، التي لم يكن رئيس الجمهورية الرابعة - كثير السفر- من ضباطها الأحرار.وقضية كثرة الجمهورية الرابعة للسفر إلي فرنسا حتي كانت الأولي قبل عواصم العرب تحتاج إلي تحليل قد يفضي إلي تفسير. فالعشق الدائم حيرة دائمة. فبينما يتغير الرؤساء في فرنسا يظل حب الرئيس اللصيق لفرنسا. فما هي المشتركات رغم تغير الرئاسات؟!كان ميتران مثلا عاشقا للمطبخ، وكانت زوجته عاشقة للصهيونية، محرضة علي ضرب العراق، وبين الحصار والاحتلال زارت الأكول «طالباني» في الشمال معانق نظيره الإرهابي الصهيوني «باراك».وفي نفس السياق -عشق الصهيونية والنساء- جاء الصهيوني «ساركوزي» مع عشيقته إلي «أسوان» ولم يستطع أن يذهب بها إلي الهند، وقد أبلغت إدارة مراسم خارجيتها سفارة فرنسا بذلك، وقد قال «ساركوزي» : «إن أمن فرنسا هو من أمن إسرائيل» «!!» لأن جده لأمه يهودي.هذه خيوط فرنسية صهيونية. فهل هي جزء من تشابك العلاقات في الرئاسات أو معها؟ ويظل السؤال: كيف تستمر هذه العلاقة الساخنة مهما تغير الرؤساء في فرنسا، من جانب عاشق السفر إليها لا فرق بين «شيراك» الديجولي و«ساركوزي» الدون أو «ميتران» الأكول؟«من أجل المتوسط» ولحضور اجتماعها سافرت طائرة «التوسط» إلي باريس، وحضرها الرئيس العربي السوري «بشار الأسد» بعد انفراج في العلاقات السورية الفرنسية التي سارت فيها الجمهورية الرابعة في ركاب المملكة السادسة بعد أن آل العرش السعودي للوريث المستجير بـ «بوش» حتي لا يلقي مصير الشاه الشاهنشاهي. وللقارئ الكريم حق السؤال: ما موقف الحاقد والتابع الآن بعد رباعية الأسد، ميشيل، ساركوزي، حمد؟!وإذا كان وقت استيعاب «الديكتاتوريات الصديقة» للدروس قد فات أوانه في أنظمة إهدار الفرص لا فرق بين الرئيس الرابع والملك السادس إلا أن سير الأحداث قد يفيد الحريص.في أمثلة سريعة حول العلاقات الأمريكية الفرنسية خاصة، والعالم عامة، ونظرة أمريكا إلي فرنسا، وألمانيا أيضا إلي فرنسا، وبريطانيا وأمريكا. تؤكد كلها أن طغمة إشعال حريق العراق المحرضين علي الاحتلال بالقصف، والمتورطين في الحرب والحصار «حانوت الدول والأنظمة» أو «الديكتاتوريات الصديقة» إنما هم منجذبون إلي فرنسا في «المتوسط» وقبله لأغراض شخصية. إما لمصلحة شخص وإما عائلة. لا فرق كما أشارت رسالة وارث العرش السعودي وهو الخوف من مصير الشاه.في كتاب «طريقنا يبدأ من بغداد» جاء في خاتمته بالصفحة 173 ما يلي:(ستظل أمريكا المهذبة جدا والقوية دائما عقبة أمام طموحات الصينيين، وستظل تغيظ الإسلاميين، وتزيد من حدة العقدة الدونية لدي الفرنسيين).وهنا يلاحظ القارئ الكريم صياغة وصف نظرة أمريكا إلي فرنسا «حدة العقدة الدونية».وسبق أن قالت وزيرة خارجية «بوش الأول» البولندية الأصل «مادلين أولبرايت»: «إن عليهم أن يقنعوا بما أخذوا». وكانت تتحدث عن تذمر فرنسا بعد حرب 1991 ضد العراق، ونصيب فرنسا من السرقة الاقتصادية خاصة بعد تخفيض نسبة مبيعات «الصلب» الفرنسي. بعد «عاصفة الحقراء».أما «روبسبير» فقد وصف فرنسا بأقذع الألفاظ حين قال:(إن السياسة الفرنسية كالعا تستطيع أن .... مع رجلين في.... واحد) الحذف حياء.وفي بغداد وأثناء مؤتمر دولي حضره عضو في الجمعية الوطنية الفرنسية عقب عدوان الأطالسة الأبالسة الصهاينة ضد العراق 1991 وفي مداخلة من كاتب السطور، ومن بين ما جاء فيها بشأن سياسة «باريس» تجاه العرب:(إن فرنسا لها وجه الصديق وقلب العدو فهي تبدو حريصة ولكنها تنتهج في الواقع سياسة خطيرة).وعاتب عضو البرلمان الفرنسي كاتب السطور عقب الجلسة وأشار إلي موقف بعض الحكام العملاء من الملوك والرؤساء في الوطن العربي.ومع أن هذه نظرة أوروبا وأمريكا إلي فرنسا فإن تعلق بعض العالقين بسياستها في لبنان حسب الريح الصرصر السعودي كأعواد البرسيم تمايلا في كل اتجاه، أو حسب إرضاء أي رئيس فرنسي مهما تغير لا فرق بين المنفلت «ميتران» والمنضبط «شيراك» أو المتصهين «ساركوزي». كل هذا يدعو إلي الدهشة ويؤكد أن الموضوع لا علاقة له بالمصلحة العامة. فما هي مصلحة مصر مثلا في أن تدخل في كل تشكيل أمريكي صهيوني أو فرنسي صهيوني. لا فرق بين «بوش» و«ساركوزي» من «الكويز» إلي «من أجل المتوسط» مرورا بــ «الكويت»؟أما نظرة بريطانيا القوة العظمي الآفلة إلي أمريكا القوة العظمي الآيلة للسقوط والافول فقد حسمتها «أم مارك.. تاتشر» رئيس الوزراء الأسبق حيث قالت :حين أسمعهم -الأمريكان- يتكلمون أشعر وكأن أطفالا قاموا من نومهم ووجدوا الفراش تحتهم مبلولا.إن أمريكا وكل دائر في فلكها -عميلا لها أو متعاملا معها- يعمل علي أن يكون الكيان الصهيوني هو القوة المهيمنة لا فرق بين «سلام بوش» أو «متوسط ساركوزي». يقول «كريستول» و«كابلان»:(ورثت أمريكا أيضا من الحرب الباردة حلفاء أقوياء في أوروبا وآسيا و«إسرائيل» «!!» في الشرق الأوسط. تشكل هذه التحالفات سدًّا من أجل النفوذ الأمريكي).وبذلك فإن أي تورط في المخطط الصهيوني «من أجل المتوسط» هو لخدمة الكيان الصهيوني. فهل المتحمس لمخطط «من أجل المتوسط» يجهل ذلك. أم أنه شارك بوعي ومتورط؟لقد ذهب هؤلاء للحرب ضد العراق في عام 1991 بعد أن أجهض المتآمر ساكن الطائرة هادم القاهرة مدنس الطاهرة -أجهض- الحل العربي في الإطار القومي.. حتي شوهدت الآن الطائرات الصهيونية في أجواء العراق و«الموساد» في شماله. بعد أن كان سدا منيعا. وسيعود بإذن الله قريبا بعد اندثار نفايات الوباء والبلادة والبلاء طغمة العملاء، من الحقود المالكي الدموي والأبله طالباني، ونظيره الخفيف الأكول المهزار المسفار السمسار الصهيوني وبقية العملاء والأعداء.في نهاية التسعينيات ورغم الحرب الإيرانية العراقية حصل العراق علي جائزة «اليونسكو» العالمية في محو الأمية، ورغم قسوة الحرب فقد كان العراق في الترتيب العاشر صحيا علي مستوي العالم.أي سابق علي دول اوربية في تقرير عالمي أيضا سجلته منظمة الصحة العالمية. وكانت البطاقة التموينية ورغم الحصار تفيض علي حاجة المواطن وأسرته في العراق، مما أذهل أيضا خبراء الأمم المتحدة وشهدوا بذلك، هذا علي مستوي الغذاء والدواء والتعليم. فما هو الحال الآن بعد مؤامرة الأعداء وتواطؤ العملاء؟هؤلاء الذين استعجلوا بالرسائل والرسل «بندر وأمثاله» ضرب العراق وإعدام رئيسه الفارس الشهيد «صدام حسين» من أجل ألا تلقي هذه العناصر مصير الشاه فتآمروا ضد العراق وشعبه وأرضه وتراثه وثرواته وحضارته، وتشكلت العصابة من الأعداء والعملاء، ملوكا ورؤساء.في مقاله بعنوان «بوش والعراق» في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» بتاريخ السابع من تشرين ثان - أكتوبر 2002 كتب «أنتوني ليفيس» يقول:(العراق بلد واسع وحديث ومتمدن كثيرا. إذا قسمناه إلي أجزاء بإلقاء القنابل عليه، هل سنكون متعقلين بما فيه الكفاية لإعادة لصقه من جديد) «راجع ص 164 من المرجع كريستول وكابلان».حتي الغربيين ضجروا من تصرفات الصهاينة «بوش» وزمرته من الأعداء إلا أن المتصهينين ملوكا ورؤساء لم يتحرك لهم ضمير رغم حصول ما حدث للأشقاء، وكأن القابلة قد انتزعت من هؤلاء العملاء ضمائرهم مع خلاصهم عند ولادتهم.لقد خلص بعض مفكري الغرب إلي أن «الديمقراطية المزعومة» أو «الملغومة» علي الطريقة الأمريكية الملعونة وهْمٌ بكل المقاييس، واعترف بذلك أمريكيون أمثال السفير الأمريكي السابق في حلف شمال الأطلسي «ريبورث إليسورث»، و«ديمتري سميث» من مركز نيكسون حيث قالا:(إن الفرضية التي تريد أن تجعل قيمنا عالمية هي فرضية خاطئة لأنها غير صحيحة بوضوح، وهي فرضية غير أخلاقية لما ينبغي فعله كي تتبني شعوب غير غربية المؤسسات والثقافة الغربية، وهي فرضية خطيرة قد تؤدي إلي الحرب) . «راجع واشنطن بوست 29 كانون أول يناير 1999، ص 156 من كريستول وكابلان».أما الوهم الذي يعيشه الواهن «عود البرسيم» الذي يميل حيث أي ريح مادام يحمل «تربح» ملك سادس أو ثان، رئيس رابع أو قابع، فهو مجرد وهم لأن الحقيقة والواقع علي الأرض تصنعه إرادة الرجال النشامي والنساء الماجدات علي امتداد الوطن العربي الكبير، خاصة في العراق تسطره ملاحم نصر «القيادة العليا للجهاد والتحرير».وإذا كانت عائلة إغلاق الصحف قد أوصلت بائع المصانع عدو المراجع مدمن التراجع إلي الانكفاءة والتبعية والانجرار من «حفر الباطن» أو «الباطل» إلي «بيروت»، فإن أمريكا كفيلة كليهما -الملك والرئيس- لا تقبل بالانكفاء لنفسها وإلا فما الذي جاء بها إلي العراق والصومال والسودان مع الفارق بين إرهاب أمريكا ومقاومة العرب.وكما أن «جورج تينيت» مدير المخابرات الأمريكية السابق قد اعترف في حوار مع أحد نظرائه الجواسيس كما جاء في مذكراته بعنوان « في قلب العاصفة» أن الديمقراطية الأمريكية للتصدير لا الممارسة، فإن الانكفاءة تعليمات للعملاء تصديرا وليست ممارسة أيضاً.. لكن أمريكا ستدفع ثمن التصهين، وفي العراق ومن العراق خاصة.وإذا كان طغمة التدمير الصهيوني في إدارة الإرهابي «بوش الثاني» قد قالت: «طريقنا يبدأ من بغداد».. فإن قافلة التحرير والتعمير القومي العربي بقيادة «القيادة العليا للجهاد والتحرير» قد بدأت أيضاً من بغداد.لقد كسرت المقاومة البطلة الباسلة المنتصرة «في العراق» استكبار الصهاينة الأعداء والمتصهينين العملاء. واعترفوا بالهزيمة تعساء أذلاء، يقول الصحفي البريطاني الكبير «جوناثان ستيل»:(إن غزو العراق واحتلاله هما أكبر خطأ ارتكبته السياسة الخارجية الأمريكية منذ «أزمة السويس»، وإذا كانت النية عدم تكرار الخطأ فلا بد أن نعرف كيف وقع ولا بد من أن نعرف الآن).إن مصر التي اختصها الله بالكثير من النعم والمنح، وأثني خاتم رسله النبي العربي الكريم سيد البشر محمد صلي الله عليه وسلم علي رجالها النشامي بـ «أنهم خير أجناد الأرض»، وهو الذي لا ينطق عن الهوي، لا يمكن أن تكون إلا رائدة بين قومها. عزيزة علي أشقائها. كبيرة قائدة في أمتها ولأمتها وبأمتها، في غير استعلاء أو خيلاء. بغيرتفضل أو تطفل. ولا شك أن هذه المرحلة الحالية طارئة سوف تكون -بإذن الله وقريبا- «نسيا منسيا»، فالتعيس الطاووس الورقي وزير الخارج «أبوالتخبيط» أو رئيس التخارج من أي وحدة أو اتحاد باستثناء الكويز أو الكويت «التصهين» أو «التوسط» «من أجل المتوسط» كل هذا وذاك إلي زوال ومرحلة لن تكون «شيئا مذكوراً»، فالبهلوان الذي يقف علي رأسه طويلا لا بد أن يسقط وهذه الفترة الثلاثينية وإن طالت فهي في عمر الدول معتادة، والدول الكبيرة ومصر في المقدمة كـ «السفن الكبيرة تأخذ وقتاً في الاستدارة».ورغم «لزاجة وسذاجة وسماجة» وجوه المرحلة «جهالة وجهامة وجلافة»، فقد شارفت المرحلة علي الأفول.وإذا كنا نعيش ذكري ثورة 23 يوليو/ 1952 التي أنجزت أول وحدة عربية في التاريخ حين قامت «الجمهورية العربية المتحدة» بزعامة الناصر عبدالناصر فقد شهد عام الوحدة 1958 قيام الثورة في «العراق» تماما كما كانت ثورة 1919 في مصر سابقة علي ثورة العشرين في «العراق» كانت ثورة 23 يوليو 1952 في مصر مقدمة لثورة 14، 17 تموز في العراق.وإذا كانت ساحة العراق تُناوب الآن عن أمتها ممثلة في «القيادة العليا للجهاد والتحرير» كما كانت مصر تناوب عن أمتها 1956، فقد اتفق المقدوني «الاسكندر الأكبر» والفرنسي «الملك فيليب».. علي أن مصير مصر مرتبط بالعراق وكذلك بقية الأمة، فقد قال «الاسكندر» المقدوني: أنا لا آمن علي قواتي في العراق ما لم آمن عليها في مصر وقال الملك «فيليب» الفرنسي:( عندما تحرر ضفاف النيل تحرر ضفاف الفرات)واذا كان«آدم سميث» الاسكتلندي قد قال:(إن للحكومة مهام ثلاثا هي: الحفاظ علي الأمن، والدفاع عن الوطن، والقيام بالمشروعات التي يعْرِض الأفراد عن القيام بها، ويحجمون عن الدخول فيها بينما يحتاج إليها المجتمع) فإن «آدم سميث» التايواني في لجنة التعاسات قد جعل مهمة لجنته الجباية والتسريع بالخصخصة، والتصفية لكل مؤسسة رابحة، فهل هناك عقلية سليمة تستطيع عرض بيع مصرف يكسب مليارا في عشرة شهور بمبلغ يربحه المصرف في أقل من سبع سنوات؟!في حوار سبق نشره بين المستفز عز والدكتور زكريا عزمي تبين أن المستفز أعطي الحزب الحاكم ثلاثمائة مليون أخذها ثلاثة مليارات، كما نشرت الصحف أن رئيس الحزب فاجأ وزير الجباية بالعلاوة التي بلغت أربعة مليارات، كما بلغت الضرائب أو الجباية في أعقابها أربعة عشر مليار جنيه، علي طريقة عز المستفز ووزير الجباية عضو لجنة التعاسات في جمهورية التخارج من كل وحدة أو اتحاد وفق سياسة وزير الخارج «أبوالتخبيط».وإذا كان وريث العرش قد طلب من «بوش» محاربة العراق.. حتي لا تلقي عائلته مصير الشاه، ومرر أبو الوريث المؤامرة ضد العراق في لقاء المنتجع بين «الميت» و«العقبة»، فإن من شخصيات أدب الأطفال وحكايات السلطان شخصية «حب الرمان» وإذا كان من مذهلات عصر البهلوان شخصية «عود البرسيم» الذي يتمايل حسب الريح والربح -الأولي بنقطتين والثانية نقطة- فإن «حب الرمان» طعام الإنسان أما «البرسيم» فطعام الحيوان. هكذا شاء الرحمن.وإذا كان من بين دماء الشهداء في عام 1956 الشهيد العربي السوري «جول جمال»، فإن الشهيد اللغز، العالم الفذ، «يحيي المشد» كان أول شهداء معركة التفاعل والمفاعل والتفعيل العربي في المواجهة الصهيونية التي يناوب فيها الدم العراقي الآن بتضحيات كبيرة ودماء غزيرة، لكن القيم أغلي والأعراض عزيزة، والعقول معطاءة قادرة بالإرادة علي تحقيق النصر -وعد الله سبحانه جل شأنه لجنده- وتجسيد السيادة حصاد الإرادة.وصدق المتنبي القائل:«يهون علينا أن تصاب جسومناوتسلم أعراض لنا وعقول».فانهضي يامصر

السبت، 22 أغسطس 2009

جوته مسلما..بقلم سناء البيسي

لأنه ولأنه ولأنه ولأنه ولأنه‏..‏ هرعت في شوق إليه أقف في طابور الانتظار لزيارة بيته لأطوف في أرجائه وأتملي من أشيائه وأغوص في عالمه وألمس ذا الجدار وذا الجدار‏..‏ لأنه كان الأديب العبقري الشاعر الإنسان المفكر الرسام رجل القانون والعلم والطب والسياسة ورئيس الوزراء‏..‏ لأنه كان أحد رباعية قمم الأدب الغربي‏:‏ شكسبير وهيروموس ودانتي و‏..‏ يوهان فولفجانج جوته‏..‏ لأنه كان منصفا‏..‏ لأنه وقف شامخا ضد التيار‏..‏ لأنه قال كلمة الحق‏..‏ لأنه وجد الشرق والغرب يلتقيان‏..‏ لأنه الألماني ابن فرانكفورت الذي شغف بالإسلام وشريعته‏,‏ والقرآن وبلاغته‏,‏ ومحمد ورسالته‏..‏ لأنه كان قاب قوسين أو أدني من أن يغدو مسلما أو أنه بالفعل كان مسلما كما تعكس سلوكياته مثل صيامه رمضان مع المسلمين‏,‏ وتردده علي أحد المساجد للصلاة فيه‏,‏ ومشاهدته يصلي الجمعة مع بعض الجنود الروس المسلمين في‏27‏ يناير‏1814‏ في مدينة فايمر‏,‏ وحفظه لآيات عديدة من القرآن الكريم‏,‏ وعقده جلسات في أحد قصور الأمراء لتلاوة آي الذكر الحكيم‏,‏ واعتكافه في العشر الأواخر من رمضان‏,‏ وعزمه عند بلوغه السبعين علي الاحتفال بالليلة المقدسة التي نزل فيها القرآن الكريم ليلة القدر‏,‏وتقبله التهنئة في الأعياد والمناسبات الإسلامية‏,‏ ورفضه فكرة الصلب المسيحية لدرجة نطقه مرتين بالشهادتين في كتاباته‏,‏ وتدوينه مئات الصفحات يمجد فيها ويمدح المصطفي صلي الله عليه وسلم‏,‏ وقراءاته ومحاكاته للمعلقات السبع‏,‏ ومحاولاته الدؤوب لإتقان الخط العربي للاقتراب من روح الشرق التي غزت قلبه وتملكته فمضي منقبا في لغات الشرق وآدابه‏,‏ ليصف الشعر العربي في الجاهلية والإسلام بأنه ترانيم سماوية‏..‏ لأنه وصف أمة العرب بأنها أمة شجاعة باسلة لا تهاب الموت‏,‏ بل إن الموت يهابها‏..‏ لأنه من فرط إعجابه برسالة محمد صلي الله عليه وسلم نطق شعرا يقول‏:‏ إذا كان الإسلام يعني التعبد لله فإننا جميعا نعيش ونموت مسلمين‏..‏ ولأنه عندما عكف علي تراجم السيرة النبوية للمستشرقين أدرك عالمية الدعوة ليقول‏:‏ ما كان لهذا الفيض النوراني أن يبقي مقصورا علي الصحراء يغيض في رمالها وتمتصه شمسها ويصده الكثيب‏....‏ ولأنه ولأنه ولأنه ولأن رمضان جانا وفرحنا به وجدت في جوته خير استهلالة لرمضان‏..‏ أهلا رمضان‏.‏عندما أتت ذكراه الـ‏250‏ وأعلنت ألمانيا أن عام‏1999‏ هو عام جوته وصلتني دعوة رسمية ألمانية فسافرت وقتها من بيتي القاهري لبيته الصغير الذي ولد فيه بمدينة فرانكفورت الواقعة علي نهر الماين في شارع جروسن هيرشجرابن في الثامن والعشرين من أغسطس عام‏1749,‏ وتجول السياح الذين بلغت أعدادهم في ذلك العام ما يزيد علي خمسمائة ألف زائر‏,‏ وكنت سائحة بينهم في حجرات الحقيقة والخيال كما وصف جوته بيته في مذكراته‏..‏ بيت من أربعة طوابق يملؤه الضياء والبهجة التي أصابتها الطعنة في الصميم بقذيفة مباشرة في الحرب العالمية عام‏1944‏ فتحول الضياء إلي تل من الظلام والرماد والدخان‏..‏ ولكن ماذا فعل الألمان؟‏!..‏ في نفس المكان عاد البيت من جديد‏..‏ تبرع الشعب الألماني لمسقط رأس سيد الشعراء والمفكرين وقاموا بتشييد نسخة طبق الأصل من البيت التاريخي القديم‏,‏ بالاستعانة بأكثر من‏15‏ ألف مخطوط و‏300‏لوحة تعكس صور الحياة المختلفة في عصر جوته بألمانيا‏,‏ وساعد الحظ أنهم كانوا قبل الحرب قد نقلوا جميع الأثاث القديم بما فيه من لوحات بريشة جوته ومحتويات المكتبة والمتحف ــ وكان قد تم إلحاقهما بالبيت في عام‏1896‏ ــ واستمرت عملية مخاض البيت من رحم العدم لمدة أربع سنوات ليطل من جديد بنفس مواصفاته الأولي‏..‏ الأربعة طوابق المشيدة بالطوب الأحمر علي طراز المباني الألمانية في القرن الثامن عشر‏..‏ والحديقة الصغيرة المحيطة التي كانت ملعبا لجوته وشقيقيه يعقوب وكونيليا‏..‏ وألوان الحوائط بطابعها القديم ليظهر بعضها مهترئا لاكتساب إطار الواقعية‏,‏ وحتي مسامير الأرضيات الخشبية التي تم إحصاؤها عادت مثيلاتها لتثبت الألواح المستطيلة‏,‏ وعندما تعذر وجود نفس النوعية من ألواح زجاج النوافذ القديمة تقدمت إحدي شركات الزجاج في والدشين في بافاريا بفتح خط إنتاج خاص لصنع زجاج يماثل المواصفات القديمة للقرن الثامن عشر‏.‏أزور البيت الجديد القديم لأقف علي حافة البئر في منتصف الساحة الداخلية أكبل اندفاعة يدي المتهورة حتي لا تقوم بالضغط علي طلمبة الماء التي كانت فراو رات ابنة عمدة فرانكفورت أم جوته تجلب بواسطتها ماء البئر لاستخدامات أسرة ميسورة الحال‏..‏ الوالد فيها يوهان كاسبر جوته كان مستشارا للأسرة المالكة وهاويا لاقتناء اللوحات الفنية والنباتات النادرة‏,‏ والجد كان خياطا جاءه طالع السعد في صورة زوجة تملك فندقا يدر عائدا ضخما‏,‏ فانقلب الخياط الماهر إلي مدير فندق أمهر‏,‏ ولكن مهنته القديمة ظلت تطارد بصداها كلا من الابن ومن بعده الحفيد فلا يلقيان الحظوة لدي مجتمع الأشراف حتي منح جوته اللقب الألماني الجليل‏Von‏ فأصبح‏VonGoethe‏ ليمضي به قدما تفتح أمامه أبواب المجتمع الراقي‏..‏ وظل الأب يوهان ينشد لأبنائه رفعة المقام فأتي لهم بالمعلمين تحت إشرافه فقاموا بتلقين جوته اليونانية والإيطالية والفرنسية واللاتينية إلي جانب لغته الأصلية الألمانية ليجيدها جميعا قراءة وكتابة وهو لم يبلغ بعد الثامنة‏,‏ وفي التاسعة تعلم الإنجليزية‏,‏ وبعدها ألح علي والده تعلم العبرية ليدرس التوراة بلغتها الأصلية‏..‏ ويكتب جوته عن تأثره بأبيه وأمه‏:‏ من الأب ورثت القامة والصرامة والنظرة الجادة إلي الحياة‏,‏ومن الأم الصغيرة صفاء النفس والمرح‏..‏ وكان جوته يقصد بتعبير أمه الصغيرة أن والده كان يكبرها بأكثر من ثلاثة وعشرين عاما‏..‏ ونزولا علي رغبة الأب يرحل جوته إلي لايبزج لدراسة القانون‏,‏ حيث لم تنل درجة نجاحه المستوي اللائق‏,‏ وهناك يلتقي بحبه الأول أنا كاترينا ليكتب أول دواوين أشعاره أنيته‏Annette,‏ ويعيد مناقشة رسالته في القانون في مدينة شتراسبورج التي كتبها باللاتينية تبعا لنظام ذلك العصر‏,‏ وكانت تشتمل علي‏56‏ قضية قانونية منها قضية حول الحكم علي امرأة قتلت طفلا رأي جوته أن عقوبة الإعدام هي الحكم المناسب فيها‏,‏ وقد تناول هذه القضية أدبيا في مسرحيته جريتشن المأساوية‏..‏ ويأتيه وهو في الخامسة والعشرين خبر انتحار أحد أصدقائه الذي تلهمه مأساته كتابة روايته آلام فرتر علي هيئة خطابات جميعها صادرة من الأنا‏,‏ وهذه الخطابات لا تجد ردا من العالم الخارجي‏,‏ إنها قصة حب تبدأ في الربيع وتنتهي في الساعة الحادية عشرة مساء يوم‏23‏ ديسمبر توقيت بدء الشتاء أي بدء موت الطبيعة عندما يهزم فرتر في حبه أمام خصمه فيقرر أن يذهب إلي الغابة ويطلق الرصاص علي نفسه‏!..‏ ولقد أدي ظهور هذا الكتاب إلي انتشار مرض مميت لدي المراهقين وقتها عرف باسم حمي فرترفقد أخذ عشرات من شباب أوروبا الفاشلين عاطفيا يذهبون إلي الغابات في نفس ملابس فرتر وينتحرون بنفس طريقته في نفس اليوم المشئوم‏23‏ ديسمبر‏,‏ وتصل أصداء آلام فرتر السلبية لكاتبها جوته فيضطر آسفا علي ما جنت يداه إلي كتابة روايته الجديدة انتصار الحساسية‏TriumphderEmpfindsamkeit‏ بهدف التقليل من كآبة آلام فرتر والسخرية من العواطف الساذجة لدي ضعاف الأحلام‏..‏ولا يذكر جوته إلا وتحتل رائعته فاوست الواجهة‏..‏ فاوست الرجل الذي باع روحه للشيطان وانتهت حياته بالعمي فضاق بتعليمات الشيطان التي جرت عليه خيبة الأمل‏,‏ ولم يجد السعادة التي كان يرقبها‏,‏ فأراد أن يكفر عن خطئه بتجفيف أراضي المستنقعات ليسكنها المشردون والفقراء‏,‏ وهكذا انتصر فاوست علي الشيطان عندما يمم بفطرته في اتجاه النور الإلهي‏..‏ولقد انعكست شخصية فاوست التي ابتدعها جوته علي أعمال عدد كبير من كتابنا في مصر منها أهل الكهف لتوفيق الحكيم‏,‏ ودموع إبليس لفتحي رضوان‏,‏ وانت اللي قتلت الوحش لعلي سالم‏,‏ وعبد الشيطان لمحمد فريد أبوحديد‏,‏ وفاوست الجديدة لأحمد علي باكثير‏.‏وكما في حياة كل منا يدفع القدر بأشخاص في طريقنا دون سابق معرفة أو ترصد أو موعد مسبق ليلعبوا أدوارا مهمة في تحويل مستقبلنا كلية‏..‏ من هؤلاء التقي جوته بالشاعر والفيلسوف الألماني فريدريك فون شيللر‏1759‏ ــ‏1832‏ في إحدي المحاضرات عن النبات في دار جمعية التاريخ الطبيعي لتتوثق الرابطة علي مر السنين رغم اختلاف ظروف وطباع كل من الشاعرين‏..‏ كان جوته في الخامسة والأربعين وشيللر أقل منه بعشر سنوات‏,‏ وكان جوته علي سعة كبيرة من العيش بينما نشأ شيللر في فقر وعاش في ضنك‏,‏ وكان جوته قوي الجسم علي عكس شيللر الواهن العضلات‏,‏ وكان جوته ريالست واقعيا عاشقا للطبيعة بينما شيللر خياليا يلتمس المثل العليا أيديالست‏,‏ وكان جوته يعمل في أول النهار وشيللر من عشاق الليل والسهر‏..‏ وكان جوته يسكن في منزل رحب بينما تضم شيللر جدران غرفة صغيرة‏..‏ ورغم الاختلافات الكبيرة إلا أن الرابطة بين قلبيهما كانت عميقة‏,‏ وصداقتهما كانت أهم شيء في تاريخ كل منهما‏,‏ وعندما حاول الحاسدون زرع بذور النفور بينهما وبدأ التعصب لكل منهما يطفو علي السطح‏:‏ فريق لجوته وفريق لشيللر رد عليهم جوته بأنه أولي بهم أن يحمدوا الله لأن لديهم شاعرين لا شاعرا واحدا‏.‏ويلتقي جوته بنابليون بونابرت الذي احتلت جيوشه ولاية فيمار انتقاما من الأمير كارل أوجست لأنه آوي بعض الجرحي من جنود وطنه الألمان‏,‏ وغضب جوته للظلم الذي وقع علي صديقه الأمير مع أنه لم يفعل سوي ما يحتمه الشرف والضمير‏,‏ ولكن سرعان ما تحسنت العلاقة ليستدعي نابليون جوته إليه في‏2‏ أكتوبر‏1808,‏ ولما وصل كان الإمبراطور يتناول إفطاره ومعه تاليران ودارو وبعض حاشيته‏,‏ فسأل جوته عن عمره وكان قد بلغ الستين فقال الإمبراطور لقد أحسنت في الحفاظ علي قوتك‏,‏ وأخذ يتحدث عن الأدب وكتاب محمد لفوليتر ومدح كثيرا آلام فرتر وقال إنه قرأها سبع مرات أثناء حملته علي مصر‏,‏ وناقش جوته في بعض أجزائها وسأله عن مدي صلة أحداثها بواقعه‏,‏ وانتهي الحديث الذي اقترب من الساعة‏,‏ وبمجرد خروج جوته التفت نابليون إلي من معه قائلا عبارته الشهيرة‏:Voilaunhomme‏ بمعني هذا هو الرجل والرجال قليل‏..‏ وبعد تلك المقابلة بأيام كان اللقاء الثاني بين بونابرت وجوته في حفل أقيم للقائد المنتصر الذي عاود الحديث الطويل مع جوته ليقترح عليه تأليف رواية عن يوليوس قيصر وعظمته والخيرات الهائلة التي كان منتظرا أن يغمر بها العالم لو لم يقض عليه‏,‏ وكذلك دعاه لزيارة باريس‏,‏وقبل سفر نابليون أنعم بنيشان اللجيون دونير علي جوته الذي لم يشارك الألمان فرحتهم في سقوط نابليون بعد تحالف دول أوروبا عليه‏,‏ وكان نابليون هو العامل الأكبر في إيجاد فكرة الوحدة الألمانية فقد اجتمع الألمان علي بغضه والرغبة في التخلص من استعباده‏..‏ وليس غريبا في تلك السنين العصيبة‏:‏ سنين إلبا ووترلو ومؤتمر فيينا اتجاه جوته لحياته الخاصة‏,‏ حيث عقد زواجه الرسمي من كريستيان التي أنجبت له الابن أوجست ويعود لها الفضل في كتابته قصائده البديعة المعروفة باسم المنظومات الروحانية‏..‏ ويعود أيضا لتلك الأحداث تحوله عن أوروبا تماما وتركها وراء ظهره ليلتمس وحيا جديدا ومثارا مؤججا للخيال والشعر والروحانيات فوجد ضالته في الشرق وكان مفتاحه إليه أشعار حافظ الشيرازي والمعلقات السبع وغوصة في عشرات المؤلفات الصادرة عن الإسلام عقيدة وشريعة وتاريخا التي قام بها مستشرقون ومفكرون غربيون ومنها الديانة المحمدية للمستشرق الهولندي هارديان ريلاند وكنوز الشرق للمستشرق النمساوي يوسف فون هايمر‏.‏ويلعب الأمير كارل أوجست حاكم دوقية ساكس فيمار بعاصمتها فيمار دورا مهما في حياة جوته منذ التقاه وهو في الثامنة عشرة ليصبحا صديقين حميمين علي مدي خمسين عاما‏,‏ يتخاطبان فيها بلا كلفة وقد يبيتان في دار واحدة بل وفي حجرة واحدة‏,‏ ويقضيان الساعات الطوال في الحديث عن الأدب والفن وشؤون فيمار‏,‏ ويغدو جوته ساعد الدوق الأيمن الذي يقوم بإدارة كافة شؤون المقاطعة‏,‏ ويتدرج جوته في المناصب حتي بلوغ مقعد رئيس الوزراء براتب يوازي‏1200‏ دولار وكان مبلغا لا يستهان به في ذلك الزمان في دوقية فقيرة كإمارة فيمار‏...‏ وإلي جانب مشاغله الوظيفية كانت هناك اهتماماته العلمية‏,‏ حيث اهتدي الشاعر الأديب الموسوعي إلي كشف عظيم في عالم التشريح‏,‏ يثبت فيه وجود عظمة الفك الوسطي في الجمجمة البشرية‏,‏ وكان شائعا أن تلك العظمة لا توجد إلا في جماجم الحيوانات فقط‏,‏ وبذلك الاكتشاف اكتسب جوته أهميته لدي الأوساط العلمية‏,‏ وظل حتي نهاية حياته منشغلا بعلم الألوان ألوان الطيف بهدف تحرير الضوء من تجارب العلماء التقليدية حوله‏.‏ومنذ القرن العاشر عندما بدأت أوروبا تستعد للهجوم علي الإسلام برزت فكرة التشويه والتخويف والإساءة إلي العالم الإسلامي لتبرير الاعتداء عليه وتعبئة الجماهير المتدينة في أوروبا ضده بدعوي استرداد بيت المقدس من أيدي المارقين أعداء الصليب‏,‏ حيث زجوا باسم الصليب لإثارة المشاعر وتطويع المتدينين للمسارعة للتطوع في جيوش الحرب التي أسموها الحروب الصليبية بينما لم يأت ذكر الصليب علي لسان العرب الذين أسموها حروب الفرنجة وظل تراث تشويه المسلمين ودينهم وقرآنهم ورسولهم مستقرا في الوعي الغربي وقواميسه وموسوعاته ومؤلفاته التي يقوم أخيرا بعض الباحثين المسلمين بتنقية المراجع ومناهج التعليم في كل من فرنسا وإنجلترا وألمانيا من التشوهات التي ظلت محفورة علي جدران العقول علي مدي عشرة قرون يرددها الأبناء عن الآباء والأجداد‏,‏ وقد أصدر مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عدة كتب تضمنت خلاصة هذه الأبحاث‏...‏ الأكاذيب والتشوهات التي لم يستطع الخروج عن اسارها أو الانغماس في مستنقعها إلا قلة ناردة من مفكري الغرب المنصفين للإسلام كان علي رأسهم شاعر الألمان جوهان ولفانج جوته صاحب الديوان الشرقي الذي بدأه بهذه الكلمات‏:‏ يا أيها الكتاب سر إلي سيدنا الأعز فسلم عليه بهذه الورقة التي في أول الكتاب وآخره‏..‏أوله في الشرق وآخره في الغرب‏..‏ وهو بهذا المعني الذي يجمع حضارة الشرق بحضارة الغرب يدعو في وقت مبكر ــ وهو ابن القرن الثامن عشر ــ إلي حوار الحضارات علي العكس من الشاعر الإنجليزي رديارد كلبنج صاحب البيت الشهير‏:‏ الشرق شرق والغرب غرب‏..‏ لا يلتقيانجوته الذي فتنته اللغة العربية وأشعارها ومعلقاتها وأدبها وقواعد النحو والصرف فيها وخطوطها ليقول عنها‏:‏ ربما لم يحدث في أي لغة في العالم هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط مثلما حدث في اللغة العربية‏,‏ وإنه لتناسق غريب في ظل جسد واحد‏..‏ ولقد ظل جوته يحاكي المخطوطات الشرقية ويظهر ذلك في ديوانه الذي بلغ فيه المدي من تأثره بالقرآن في روحه وعباراته‏,‏ والقارئ سيذكر من الآيات القرآنية أكثر من واحدة حين يقرأ المقطوعات التالية لجوته‏:‏ لله المشرق ولله المغرب وفي راحتيه الشمال والجنوب جميعا‏,‏ هو الحق‏,‏ وما يشاء بعباده فهو الحق‏,‏ سبحانه له الأسماء الحسني‏,‏ وتبارك اسمه الحق‏,‏ وتعالي علوا كبيرا‏,‏ أمين‏..‏ والناس في ترديد أنفاسهم آيتان من الشهيق والزفير‏:‏ هذا يفعم الصدر‏,‏ وهذا يفرج عنه‏,‏ كذلك الحياة عجيبة التركيب‏,‏ فاشكر ربك إذا بليت واشكر ربك إذا عوفيت‏..‏ ويعمد جوته أحيانا إلي الاقتباس الصريح من القرآن ومن ذلك اقتباسه للآية الكريمة‏:‏ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فيقول في مقطوعة له بعنوان التشبيه‏:‏ لم لا اصطنع من التشابيه ما أشاء‏,‏ والله لا يستحي أن يضرب مثلا ببعوضة؟ لم لا اصطنع من التشابيه ما أشاء‏,‏والله يجلو لي في جمال عيون الحبيبة لمحة من جماله رائعة عجيبة‏..‏ ولقد أورد جوته بعض أسماء الله الحسني في الديوان الشرقي بل لقد حرص علي أن يستخدم لفظ الجلالة حسب نطقه العربي‏Allah,‏ ويذكر جوته أن القرآن يكرر قواعد تعاليمه‏,‏ ويكرر آيات التبشير البشير والنذير في سورة بعد أخري‏,‏ وهو لا يري في هذا التكرار شعرا بعكس ما يراه النقاد الغربيون لأن محمدا لم يرسل برسالة شاعر لعرض الصور المزوقة من الأخيلة والأوهام لاستحداث اللذة وإدخال الطرب علي الأذن‏,‏ بل إن نبض القرآن بعيد تماما عن هذا الوصف‏,‏ وإنما محمد نبي مرسل لغرض مقدر مرسوم يتوخي إليه أبسط وسيلة وأقوم طريق وهو إعلان الشريعة وجمع الأمم من حولها‏,‏ فالكتاب المنزل علي محمد إنما بعث للناس ليحفزهم للإيمان بالله لا لمجرد المتعة والاستحسان‏,‏ ولذلك نراه إذا ما عرض للقصص الديني لم يعرضها معرض التاريخ والأخبار‏,‏ بل يقتصر فيها علي مكامن الحكمة ومواضع الاعتبار وضرب الأمثال‏..‏ وفي قصيدته حيوانات محظوظة في كتاب الفردوس يري جوته أن بعض الحيوانات سعيدة الحظ ستدخل الجنة‏,‏ ومنها حمار المسيح عليه السلام‏,‏ وكلب أهل الكهف‏,‏ وناقة محمد‏,‏ وقطة أبي هريرة لا لشيء إلا لأن النبي الكريم قد مسح بلطف علي رأسها‏:‏وها هي ذي هرة بنت أبي هريرة تموء حول سيدها تلاطفه لتبقي حيوانا مقدسا علي الدوام فقد مسح عليه النبي عليه السلام‏,‏ وفي باب زليخة أضخم أسفار ديوان جوته يوجد العديد من الكلمات العربية مثل الهدهد والبلبل التي يكتبها جوته علي صورتها العربية فيقول‏:‏ أسرع‏,‏ يا هدهد‏,‏ أسرع إلي الحبيبة‏,‏ وبشرها بأني دائما لها وأبدا‏,‏ ألم تكن في الأيام الخوالي رسول غرام بين سليمان الحكيم وملكة سبأ‏!.‏ولقد اختار جوته لفظة‏Divan‏ ديوان التي كتبها بيده علي لغلاف بعدما أحضر بعض المخطوطات الشرقية ليحاكي المكتوب أمامه وذلك ليؤكد شرقية أفكاره‏..‏ ولقد ظهرت أولي طبعات الديوان عام‏1819‏ وقسمه جوته إلي اثني عشر سفرا‏:‏ الشادي‏,‏ حافظ‏,‏ الحب‏,‏ التأمل‏,‏ الحزن‏,‏ الحكم‏,‏ تيمور‏,‏ زليخة‏,‏ الساقي‏,‏ الأمثال‏,‏ الفارسي‏,‏ والفردوس‏.‏وينفتح جوته علي إبداعات الشعر العربي يتجول بين أبيات حافظ الشيرازي والفردوسي وجلال الدين الرومي‏,‏ والسعدي‏,‏ ليتعلق كثيرا بالمعلقات السبع وشعرائها فيقول عنها‏:‏ إنها كنوز طاغية الجمال ظهرت قبل الرسالة المحمدية‏,‏ مما يعطي الانطباع بأن القرشيين كانوا أصحاب ثقافة عالية‏,‏ وهم القبيلة التي خرج منها النبي محمد‏..‏ ابن فرانكفورت الباحث عن الدفء تحت الشمس العربية أحب العرب واقتبس أسلوب تعبيرهم وألف المسرحيات عن شخصياتهم وأحس بالرقة والمرح وإشراق المعني في معلقة امرئ القيس‏,‏ وبالحيوية والجرأة في معلقة طرفة بن العبد‏,‏ وبالرصانة والحكمة والعفة في معلقة زهير بن أبي سلمي‏,‏ والبراعة والأناقة في معلقة لبيد‏..‏ ثم توقف عند الكبرياء والتحدي وجزالة اللفظ في معلقة عنترة‏,‏ والمهابة والفخامة والقوة في معلقة عمرو بن كلثوم‏,‏ ونفاذ البصيرة والشعور بالكرامة في معلقة الحارث بن حلزة‏..‏لقد استطاع جوته أن ينبهنا وينبه قومه إلي كنز أدبي عربي في المعلقات والشعر الجاهلي لا يقل قدرا عن حكايات ألف ليلة وليلة التي شغف الغرب بانطلاقات خيالها‏.‏وكان الرسول محمد صلي الله عليه وسلم من الشخصيات المحورية في مسرحية جوته الشعرية تراجيديا محمد التي كتبها في فصلين أولهما عن البعثة المحمدية‏,‏ والثاني حول معاناة الرسول أثناء تبليغه الرسالة وما لاقاه من المشركين‏,‏ ويقول في أبيات بعثة محمد‏:‏ حينما كان يتأمل الملكوت جاءه الملاك علي عجل‏..‏ أتاه ومعه النور‏..‏ اضطرب من كان يعمل تاجرا فهو لم يقرأ من قبل والملاك أمره بقراءة ما هو مكتوب‏..‏ وأمره ثانية‏:‏ اقرأ فقرأ‏..‏ ويصور جوته شخصية الرسول في القصيدة‏:‏ كنهر بدأ يتدفق رفيقا رقيقا هادئا‏,‏ ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد‏,‏ فيتحول في عنفوانه إلي سيل عارم يجذب إليه جميع الجداول والأنهار المجاورة ليصب الجميع في زحفها الرائع في بحر المحيط‏..‏ بحر الألوهية العظيم‏..‏ وليس أبلغ من إيمان جوته بالثواب والعقاب من قوله علي باب الجنة لإحدي حوريات بوابة النعيم‏:‏ دعيني أدخل‏..‏ لقد عشت رجلا‏..‏ أي أنني كنت من المجاهدين‏..‏ ألا فأمعني النظر في فؤادي‏,‏ واشهدي ما به من جراح الحياة النكراء‏..‏ اشهدي ما به من جراح الحب المستعذبة‏,‏ ومع هذا فما برحت مؤمنا أتغني بمودة الدنيا الدائرة‏,‏ وقضائها في الآخرة حق المحسنين‏..‏ لقد عملت مع صفوة العاملين‏,‏وجاهدت مع خيرة المجاهدين‏,‏ وتألق اسمي مثلهم بحروف من نور في قلوب الأبرار الصالحين‏..‏ وتطبيقا في الاستسلام للمشيئة الإلهية‏,‏ وانبهارا بأسس التعاليم الإسلامية التي تمزج ما بين الشجاعة والمشيئة يتقبل جوته وفاة ولده أوجست بهدوء‏,‏ ولا يتبقي لديه سوي الرغبة في‏:‏ أن يهاجر كما هاجر النبي محمد من مكة إلي المدينة‏..‏ أن يتواجد في مكان آخر بعيد‏..‏ يرحل إلي الشرق النقي‏..‏ إلي‏:‏ إلي هناك حيث الطهر والحق والصفاء‏..‏ أود أن أنفذ إلي أعماق الأصل السحيق‏,‏ حيث كانت الأجناس البشرية تتلقي من لدن الرب وحي السماء بلغة الأرض‏.‏ويظل الحديث عن جوته الشاعر الفحل مجرد إشارة أصبع لفكره وإبداعاته وإسلامياته لنردد من بعده مقولته الأخيرة وهو علي فراش الموت‏:‏ افتحوا النوافذ ليدخل النور‏.‏

الخميس، 20 أغسطس 2009

جـلال الدين الحمـامصي‏..‏دخان لم يذهب في الهواء..بقلم سناء البيسي

عجبت لماذا؟‏!..‏ لماذا لم يزل رغم السنين يسكنني؟‏!..‏ لماذا يرتفع في أذني ثانية ذاك الرنين البعيد عند توجهي لانتخابات نقابة الصحفيين‏..‏ يومها‏..‏ مع طلعة الشمس ركنت مولودي عاويا بجواري لأسكت علي الجانب الآخر صوت الرنين المتواصل وصرخت‏:‏ آلوووه‏..‏ فأتاني كلامه من بعد سلامه هادئا رقيقا يحمل لي الأثير وقع ابتسامته الدمثة التي لا تغادر أبدا ملامحه وكأن الأستاذ جلال الدين الحمامصي قد ولد في المهد بها‏..‏ هنأني بالمولود الجديد وأعقب تمنياته الحارة برغبته في ضرورة حضوري للنقابة للإدلاء بصوتي في الانتخابات التي ستنعقد هذا الصباح‏,‏ ولم يشأ أن ينهي طلبه الحاسم المشبع بدفء أبوي إلا بحاشية بليغة المحتوي من أن لي مطلق الحرية في اختيار شخصية النقيب‏..‏ وكانت المعركة علي مستوي النقيب غاية في السخونة بينه ممثلا لأسرة أخبار اليوم‏,‏ وبين الأستاذ علي حمدي الجمال علي رأس أسرة الأهرام‏..‏ وكنت أنا في موقع الحيص بيص واقعة في مطب المفاضلة بين ممثل منبتي الصحفي ومسقط رأسي في أخبار اليوم‏,‏ وبين بيتي ونموي وعملي واكتمالي في الأهرام‏..‏ وضعني أستاذي الحمامصي برنينه المبكر في منطقة البين بين ما بين مرتع الصبا وجدران الوقار‏,‏ وكدت أعده بانضمامي لمعسكره مع تقديم كافة فروض الاحترام‏,‏ لكني تراجعت في اللحظة الأخيرة بحجة أن ليس هناك من أترك له مهمة رعاية المولود وهو لم يزل لحمة حمراء‏,‏ فأتتني إجابته العملية الفورية ذات الإصرار بأنه سيرسل لي وبفورية‏Nurse‏ أي مربية تمكث إلي جانبه لحين عودتي‏..‏ وأسقط في يدي وذهبت للنقابة وسلمت عليه وشكرته‏ وتسللت لأنتخب علي حمدي الجمال وفي أذني طنين اصطنعته ليعلو علي صوت الأصول وحق الأستاذية ورد الجميل وغض النظر عن هدية الـ‏Nurse,‏ وحجتي في فعلتي أن الأستاذ جلال ذات نفسه قد منحني حريتي التي استخدمتها بكامل حريتي في انتخاب الأستاذ الجمال‏,‏ وأنا في ذلك لم أحد عن مبادئه وما كرسته فينا دروسه الصحفية‏:‏ نريد جيلا رائدا عملاقا لا يعرف النفاق‏.‏ و‏..‏ أعبر هذا الأسبوع في انتخابات الصحفيين بين صفوف آلاف الزملاء بصعوبة بالغة لأستشعر الفارق في الزمان والمناخ‏..‏ عندما كانت الخيارات متعددة والآن شحت الخيارات‏..‏ عندما كان التنافس بين الشخصيات والآن بين التيارات‏..‏ عندما كان المرشحون عمالقة والآن هناك مرشحون لم نسمع عنهم من قبل‏..‏ عندما كنا محرجين أيا من اليوسفين نمنحه أصواتنا يوسف إدريس أم يوسف السباعي؟‏!..‏ عندما كانت البلاغة لغة الاستقطاب‏,‏ والآن وعلي مدخل العملية الانتخابية يدعوك مرشح لانتخابه بمزيكة حسب الله وكنت فين يا علي وأمك بتدور عليك‏..‏ عندما يسألونك بريبة‏:‏ هل أنت مع تيار الحكومة ــ بمفهوم ضمني أن الانتساب للحكومة من قبيل العار ــ ولا مع التيار التاني؟‏!..‏ عندما تصطف أسماء التيار الحكومي في قائمة الواجهة‏,‏ وترتدي قائمة التيار الثاني ــ الأشرار في مفهوم أنصار الأول ــ طاقية الإخفاء‏..‏ عندما لم يعد مجديا إلا مع من تعدي السبعين فما فوق ولا مجال لجيل الوسط حتي أصبح هناك ما يشبه عقما في الصحافة‏..‏ عندما تقول عمن بداخل الإطار أنا شفته قبل كده‏,‏ بينما تردد قولك حول غالبية ذوي اللافتات أنا ماشفتهمش قبل كده‏..‏ عندما كانت تجذبنا مواقف وأقلام ولم تكن هناك جرعات مالية منشطة للجماعة الصحفية قبل العملية الانتخابية‏..‏ جلال الحمامصي‏..‏ الصحفي المصري الوحيد الذي تم فصله بقرار مكتوب‏.‏ رفده عبدالناصر ولم يعتقله في‏31‏ ديسمبر‏1960..‏ لم يكتب القرار ناصر شخصيا لكنه أوصي به كمال الدين رفعت الذي كان مشرفا علي أخبار اليوم في ذلك الوقت‏,‏ وكانت آخر تعليمات الرئيس من فوق الباخرة‏(‏ الحرية‏)‏ المسافرة به إلي المغرب‏:(‏ أرسل لجلال الحمامصي خطاب فصل‏)‏ وتلقي الحمامصي القرار من سطر واحد يعفي جلال الدين الحمامصي من عمله بمؤسسة أخبار اليوم ولم يكن كمال رفعت بدوره من وقع القرار وإنما عهد به إلي سكرتيره الخاص الصاغ علي إسماعيل الذي سلم القرار إلي الدكتور سيد أبوالنجا العضو المنتدب للمؤسسة وأرفق بالقرار الشيك براتب شهر ديسمبر لعام‏..1960‏ ويسألون الحمامصي لماذا؟‏!‏ فتأتي إجابته‏:‏ لأنني حاربت الفساد في عهد عبدالناصر‏..‏ ومع السادات أيضا كانت للحمامصي حكاية ورواية‏..‏ في‏6‏ يناير‏1946‏ أطلق حسين توفيق الرصاص علي أمين عثمان وكان السادات وراء هذه المجموعة‏,‏ وللاحتياط ولكي يكون بعيدا عن مسرح الأحداث توجه يومها لزيارة جلال الحمامصي‏,‏ وفي التحقيق شهد الحمامصي بذلك وكانت شهادته أبلغ مبرر لبراءة السادات من الاتهام‏..‏ وفي أخريات عهد السادات كان الحمامصي ممنوعا من الكتابة‏!..‏
وليس هناك صحفي قضي حياته في معارك بسبب أفكاره ومواقفه مثلما فعل الحمامصي‏..‏ لم يكن كلامه دخانا يطير في الهواء وإنما نقدا يحرك المياه الراكدة ويعود عليه بالمتاعب‏..‏ اختلف مع عبدالناصر ففصله من الصحافة‏,‏ واختلف مع السادات فمنعه من الكتابة ومن الظهور في التليفزيون‏,‏ واصطدم مع رئيس الوزراء الدكتور عبدالعزيز حجازي حول مياه الحنفيات التي تنزل علي وجوه الناس طينا‏,‏ واصطدم مع حافظ بدوي رئيس مجلس الشعب وقتها بسبب أحد القصور فقال له حافظ بدوي‏:‏ لا تنسي أنني الرجل الثاني في مصر‏,‏ ونسي الرجل الثاني أن الصحفي المقاتل اختلف مع الرجل الأول عبدالناصر‏,‏ ومع الرجل الأول السادات‏,‏ وكشف الحمامصي مبكرا قضية الفساد في شركة هيديكو لصاحبتها هدي عبدالمنعم التي هربت من مصر‏,‏ وكتب متسائلا عن كيفية هروبها ومن ساعدها‏,‏ وضرب مثلا بأن جاسوسا سويسريا هرب من سجنه فاستقال وزير العدل في سويسرا لأنه المسئول عن السجون وبالتالي عن هروب السجين‏..‏ وهو صاحب تحقيق العشرة ملايين دولار التي دخلت ذمة عبدالناصر المالية أيام النكسة من الملك سعود‏,‏ وانبري السادات دفاعا عن ناصر ومهاجما الحمامصي في خطبة عامة‏.‏ ولم تكن انتخابات نقابة الصحفيين هذا الأسبوع وحدها هي التي استدعت في خاطري جلال الدين الحمامصي‏,‏ فهناك تاريخنا الملكي الذي أصبح مكتوبا علينا مشاهدته ليل نهار منذ بداية شهر رمضان وحتي الآن علي جميع المحطات الأهلية والعربية في مسلسل الملك فاروق الذي أتي علي ذكر الكتاب الأسود لصاحبه مكرم عبيد ضد النحاس وكان سببا في اعتقال جلال الدين الحمامصي عام‏1943‏ وراء أسوار معتقل الزيتون لمدة‏18‏ شهرا مع البكباشي أنور السادات والشيخ أحمد حسن الباقوري وموسي صبري والشيخ عبدالمنعم النمر‏..‏ الكتاب الذي شارك الحمامصي في وضعه كنتيجة من نتائج الخلاف الأساسي بين الصديقين النحاس ومكرم‏..‏ ويسأل زملاء المعتقل الحمامصي عن الكتاب فيجيب‏:‏ اتصلت بأحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي وسألته‏:‏ ألا من سبيل لوقف هذا الفساد؟ فرد قائلا‏:‏ لا يمكن أن أتحرك إلا إذا كانت هناك أدلة ووقائع تحت يدي‏,‏ وفي اليوم التالي رويت لمكرم ما دار بيني وبين حسنين فصمت قليلا وقال‏:‏ ما رأيك في أن نجمع الوقائع ووثائقها ثم نضمنها عريضة نرفعها للملك‏..‏ تلك كانت نقطة بداية الكتاب الأسود‏..‏ ويعترف الحمامصي في أكثر من حوار معه في الثمانينيات بأن وقائع كثيرة ذكرت في الكتاب الأسود علي أنها خطيرة وتدين النحاس باشا تبدو له الآن تافهة للغاية مثل ترقية موظف من الدرجة السادسة إلي الدرجة الخامسة بصفة استثنائية أو عن طريق المجاملة‏,‏ أو أن زينب الوكيل زوجة النحاس باشا استغلت نفوذها وأجهزة الدولة في شراء قطعة صغيرة من الفراء وتم ذلك عن طريق برقية أرسلت بالشفرة من رئيس الوزراء إلي سفير مصر في انجلترا‏...‏ يعترف الحمامصي‏:‏ حينما يقال لي الآن أنت كتبت الكتاب الأسود؟ أقول‏:‏ نعم‏..‏ خجلا‏..‏ بينما كنت أقولها عام‏1942‏ افتخارا‏.‏
في مدينة دمياط في أول يوليو من‏1913‏ ولد جلال الدين‏,‏ وفي دمياط التقي وهو في السادسة بالأخوين علي ومصطفي أمين ليصدرا صحيفة طبعوها بالبالوظة‏,‏ وتنتقل الأسرة للقاهرة ليحصل علي الابتدائية من الناصرية وبعدها السعيدية ليفصل في الثالثة الثانوية لاشتراكه في المظاهرات في عهد وزارة إسماعيل صدقي‏(30‏ ــ‏1934)‏ ويلتحق بالجامعة الأمريكية ليلتقي ثانية بعلي ومصطفي أمين‏,‏ ويتزعم مظاهرة فتفصله الجامعة في آخر العام الدراسي ويعود للسعيدية ليحصل علي الشهادة الثانوية ويلتحق بكلية الهندسة جامعة فؤاد الأول ويتخرج فيها عام‏1939..‏ وكانت رحلته الصحفية طويلة منهكة ومرهقة وسببها التمسك بمثالية قد تكون خيالية‏..‏ عمل بجريدة كوكب الشرق لصاحبها أحمد حافظ عوض صديق والده في عام‏1929‏ ثم محررا رياضيا بجريدة الأهرام في العام نفسه ليوقع بلقب الكرباج وهو أول من أقام مسابقة بين فرق كرة القدم بالأقاليم علي كأس في أول مسابقة بمصر عام‏1935,‏ وفي العام نفسه سافر مع وفد مصر للمفاوضات في العاصمة البريطانية‏,‏ وفي عام‏1936‏ وهو طالب بالهندسة كان مساعدا لسكرتير تحرير المصري ومحررا بدار الهلال‏,‏ وفي عام‏1942‏ انتخب عضوا بمجلس النواب وعمره‏29‏ عاما وأسقطت عنه العضوية لعدم بلوغه السن القانونية‏ وبعد المعتقل شارك في إصدار جريدة الكتلة لصاحبها مكرم عبيد‏,‏ وكان يتقاضي راتبا قدره‏170‏ جنيها شهريا تنازل عنها منشقا عن حزب الكتلة لأنه لم يوافق علي الهدنة مع الوفد وتركها ليصدر مجلة الأسبوع عام‏1946‏ التي استمرت ستة أشهر فقط‏,‏ وذلك لضيق ذات اليد وعندما عرض عليه مبلغ خمسة آلاف جنيه من المصروفات السرية رفض الحمامصي وفضل إغلاق المجلة‏,‏ ثم رأس تحرير الزمان لصاحبها ادجار جلاد من عام‏1947‏ حتي عام‏1950,‏ وانتقل لأخبار اليوم كأحد رؤساء تحرير الأخبار التي صدرت عام‏1952,‏ ولمدة عام كان وزيرا مفوضا لمصر في واشنطن‏,‏ وبعدها اختير رئيسا لتحرير الجمهورية‏ وأنشأ وكالة أنباء الشرق الأوسط‏,‏ وترك الجمهورية ليتولي رئاسة قسم الصحافة بالجامعة الأمريكية عام‏1982,‏ وبعدها إلي الأخبار مشرفا علي التحرير‏,‏ ثم في مارس‏1968‏ رئيسا لقسم الدراسات الصحفية بالأهرام‏,‏ وفي عام‏1974‏ يعود رئيسا لتحرير الأخبار ليكتب بابه الشهير دخان في الهواء‏..‏ وتاريخ طويل مدجج بالمواقف الصحفية الحديدية للرجل الذي أقنع والدته سليلة عائلة العلايلي الدمياطية لتبيع أرض أسرتها في دمياط رغم معارضة الأسرة ليتقدم بالثمن إلي صاحبي أخبار اليوم صديقي عمره علي ومصطفي أمين ليضعا أسس بناء أول دار صحفية مصرية عصرية عام‏1950‏ وكانت أحلامهما تفوق العصر‏,‏ وأبدا لم يذكر الحمامصي طوال حياته أنه ساهم في تشييد هذا الصرح لنظل نقول ويقول معنا الحمامصي أخبار اليوم لصاحبيها علي ومصطفي أمين‏..‏ الحمامصي‏..‏ من قالت عنه شريكة حياته ابنة عبدالحميد سليمان باشا ووالدتها كريمة إسماعيل باشا سري وشقيقة حسين باشا سري‏..‏ الزوجة التي كانت تكتب مقالاتها في مجلات دار الهلال تحت اسم مستعار نوال والتي أنجبت له ثلاثة أبناء‏:‏ محمد كامل عام‏1950‏ وفاطمة‏1952‏ وقسمت‏..1954‏ قالت عنه‏:‏ صريح واضح وجوانبه كلها ظاهرة‏..‏ هادئ عاشق للصحافة‏..‏ يهمه أن يعرف أكبر عدد من الأصدقاء والناس ووسيلته في ذلك الرحلات‏,‏ كما أنه عاطفي وإن كان لا يعتني بإظهار عواطفه ويقرأ كثيرا ويصوم ويصلي ويحترم مواعيده حتي أنهم في عمله يضبطون ساعاتهم علي حضوره وانصرافه‏..‏ الحمامصي رجل الساعة من شدة انضباطه كان يلتقي علي كوبري قصر النيل في التوقيت المحدد مع رجل الساعة الآخر نجيب محفوظ فكلاهما حدد ساعته لرياضة المشي فيلتقيان كل صباح عند نقطة منتصف الكوبري بالضبط‏,‏ ويلتقيان أيضا كل صباح علي صفحات الأخبار عندما يقرأ نجيب للحمامصي مقاله اليومي دخان في الهواء‏..‏
ويقول الحمامصي‏:‏ ولقد تابعني الأستاذ نجيب في معركتي مع البنك العربي الإفريقي الدولي عندما كنت أقول إن رئيس البنك أساء إلي اقتصاد مصر‏,‏ وأنه يجب أن يخرج‏,‏ وعندما حققت حملتي أهدافها وخرج قابلني نجيب محفوظ في هذه المرة في نقطة منتصف الكوبري ولم يتكلم إنما رفع أصبعه إلي السماء مشيرا إلي أن هذه إرادة الله‏....‏ وتحاول الزوجة أن تثنيه عن موعد مشواره الأخير‏..‏ لقد فرغ من غدائه وآن وقت المشي في نادي الجزيرة‏..‏ وتلح ويصمم‏,‏ فتصحبه إلي منتداه وممشاه‏,‏ حيث اعتاد أن يسارع إلي هناك كل يوم متريضا ومتأملا‏,‏ وبينما يسيران ويتحدثان تصله الدعوة فتلبي روحه في أوانها راضية مرضية‏.‏ وإذا ما كان لجلال الحمامصي جانب من السياسة والصحافة معروف للجميع فله جانب من الإيمان بينه وبين ربه لم يلحظه سوي الراصدين‏..‏ ما مضي به فجر إلا وكان بين المصلين في مسجد الحسين‏,‏ حيث يذهب يوميا من بيته بجاردن سيتي إلي الحسين سائرا علي قدميه ليصل هناك قبل الفجر بثلث ساعة‏,‏ وما يأتي عصر خاصة طوال رمضان إلا ويصليه بمسجد السيدة نفيسة ليمكث قارئا القرآن لا ينصرف إلا قبل آذان المغرب بدقائق‏..‏ كان إيمانه بالله قويا عميقا‏,‏ وكان سره أنه كان يصلي كلما خرج لمعركة طاحنة مع المفسدين صلاة التسابيح في جوف الليل والناس نيام حتي صدق فيه القول الطاهر‏:‏ عبيد‏..‏ ولكن الملوك عبيدهم‏!..‏ عبيد لله وحده‏..‏ فلم يول عليهم غيره‏..‏ أغناهم عن كافة عباده‏..‏ أخطأوا نعم‏,‏ لكنهم استغفروا‏..‏ أذنبوا نعم‏..‏ ولكنهم تابوا ولهذا أحبهم ربهم‏!‏ فالله يحب التوابين‏..‏ يمضي السؤال وراء السؤال علي مدي‏60‏ عاما صحافة وأكثر من‏20‏ كتابا في السياسة والصحافة أولها الكتاب الرائد حول جنوب الوادي عام‏1949‏ ماذا في السودان‏..‏ وتتوالي إجابات الصحفي التليد التي تملأ مجلدات لا نستطيع أمام قلة حيلتنا سوي اختطاف الشهاب‏:‏ والدي كان شاعرا وأديبا ومستشارا لأحمد شوقي الذي كانت بيننا معه صلة قرابة ونسب‏..‏ خالي متزوج ابنته‏..‏ وما من قصيدة أو مسرحية شعرية كتبها شوقي إلا وقرأها علي مستشاره اللغوي كامل الحمامصي‏..‏ أبي‏..‏ وكان شوقي كمثال لا يشاهد مسرحيته مجنون ليلي إلا وبجواره أبي فإذا أراد أن يغير كلمة في بيت من الشعر فإنه لا يبدي رأيه للمخرج عزيز عيد أو أحمد علام وفاطمة رشدي قبل أن يقر أبي هذا التغيير‏..‏ أنطون الجميل باشا رئيس تحرير جريدة الأهرام كانت له جلسات في مكتبه يحضرها الوزراء والأدباء والشعراء فكانوا إذا اختلفوا في شيء أو بشأن تفسير كلمة يلجأون لوالدي أو يطلبونه بالتليفون ليسألوه رأيه‏...‏ وكان ارتباطي بأمي مختلفا كانت أشد من والدي تخاف أن تأخذني الصحافة عن دراستي بل كانت مصرة علي امتناعي عن العمل الصحفي تماما‏..‏ عادتي في الكتابة مع الصباح أن أعمل فنجان قهوة وأخرج أمشي وخلال المشي تتكون خطوط الموضوع وتطرأ جملة أو فكرة فأدونها في ورقة أحملها في جيبي‏..‏ فصلت من الصحافة لأن عبدالناصر لم تكن تعجبه مقالاتي وقال عني إنني ممرور أي ملئ بالمرارة‏..‏ مازلت أتمني بعد الرحلة الطويلة أن أصدر صحيفة مثالية‏,‏ والمثالية الصحفية في رأيي هي الحقيقة المحبوسة‏...‏ أصدقائي ولله الحمد أكثر من الأعداء‏,‏ وعندما أصدرت كتاب حوار وراء الأسوار ناصبني الناصريون العداء بصورة مفزعة متصورين أن السادات هو من أوحي لي بالكتاب‏,‏ وهذا غير صحيح ولعله كان دافعا له لمهاجمتي في مجلس الشعب‏,‏ وعندما بدأت أكتب في عهد الرئيس السادات ضده آمنوا بأنني أكتب بوحي من ضميري وما أؤمن به فإذا ما كانوا أعداء فهم أعداء رأي‏...‏ عندما كان علي أمين منفيا في الخارج وأراد أن يعود إلي مصر أرسل لي خطابا يطلب فيه ذلك وأردت أن أوصل الخطاب للسادات وكان في ذلك عملا إنسانيا فطلبت فوزي عبدالحافظ سكرتيره وقلت له إنني أريد مقابلة الرئيس‏ ولما لم يرد طلبته مرة أخري‏,‏ ولم يرد أيضا فتوقفت عن الاتصال‏,‏ وظل خطاب علي أمين في جيبي إلي أن عاد من لندن عن طريق اتصال آخر‏,‏ وما أريد أن أقوله إن من طبعي ألا أقترب من الزعامة لأنها تحرمني من حريتي في أن أنتقد ما أشاء‏,‏ وأضرب مثالا علي ذلك أنني كنت من أقرب الصحفيين لعبدالناصر وكنت أحبه جدا وهو الذي اختارني لرئاسة تحرير الجمهورية وإنشاء وكالة أنباء الشرق الأوسط‏,‏ وعندما تقترب من شخص تحبه يجب أن تخلص له النصيحة‏,‏ وكان ناصر يستمع لي في البداية ثم تحول إلي شخص آخر ينفر من هذه النصيحة ويضيق بها‏ وأنور السادات تجنبني لأنه كان يعلم عني هذه الطريقة في التعامل مع الحاكم‏..‏ عيب أنور السادات أنه صبور أكثر من اللازم وأن تنفيذ خططه يأخذ وقتا أطول من اللازم ولهذا ظل الناس طويلا غارقين في عدم الفهم‏...‏ نعم كانت لي قصة حب وأنا لم أزل طالبا في كلية الهندسة‏,‏ وهل هناك إنسان ليس له قصة حب؟‏!‏ كان هدفي أن أقيم حياة زوجية‏,‏ وصحيح هناك القول بأن الصحفي يتزوج الصحافة لكن إذا جاءت من تقبل أن تكون لها ضرة فلا مانع‏,‏ والإنسان إذا وقع في الحب لا تسأله لماذا أحب؟‏,‏ ووقتها واجهتني أزمة شديدة فقد دخلت معترك الحياة السياسية والصحفية‏,‏ وهذا مما يقودني إلي المعتقل والحبس مسوقا للمجهول‏,‏ ومن هنا حكمت صوت العقل وضغطت علي قلبي وعواطفي فما ذنب تلك الإنسانة التي سأتزوجها‏,‏ ومعظم أوقاتي في الحبس‏.‏ أستاذي‏..‏ جلال الدين‏..‏ سامحناسامحنا‏..‏ فقد خان معظمنا بنود الميثاق والقلم‏.‏مهندس الصحافة‏..‏ إن القراء بالكلمات قد كفروا وبالكتاب قد كفروا وبالصحافة والصحفيين وبالمانشيت والصفحة الأولي وصاحب العمود الرأسي وبالعرض وبالنقد وبالتصريحات والإعلان والنعي والكاريكاتير والصور قد كفروا‏...‏ فلماذا القلم حين يخون لا يستل سكينا وينتحر؟‏!‏ أمير الحرف‏..‏ صاحب القلم الذي لم يمسح الغبار عن أحذية القياصرة‏.‏ ‏
المغامر العنيد‏..‏ من كان يكتب بالسكين ويعلمنا كيف يكون الحرف سكينا‏.‏ كيف نفجر في الكلمات ألغاما‏..‏مرفوع القامة والهامة‏..‏ يا من أردت الحقيقة لا أكثر ولا أقل‏..‏ بلا إثارة‏.‏ ورفضت المانشيت الأحمر‏,‏ ورأيت أننا نسرق حق القارئ في أوراق صحيفته بالإسراف في ضخامة العناوين‏..‏ المحترم‏..‏ من اكتسب احترامه من استقلاله فلم يحسب علي أحد وإنما حسب علي قلمه وموقفه الشخصي‏.‏الناقد‏..‏ بالمستند والدليلالجرئ‏..‏ في المواجهةالصحفي‏..‏ بالموهبة والهواية والحرفة‏..‏ من رفع شعارا بأن الصحفي ملك الشعب‏,‏ وأن الكتابة ليست أكل عيش‏,‏ وأن الصحافة مهنة بلا أتعاب‏,‏ وأنه من العار تحول حقوقنا إلي هبات‏,‏ وأن حرية الصحفي أن يكتب لحريات الآخرين‏,‏ وأنه في الصحف القومية حرية صحفيين وليس حرية صحافة‏,‏ وأن أمانة الصحفي في أن يعبر عن ضمير الناس ويحفظ أسرارهم‏,‏ وهي رأس المال الوحيد الذي يتضخم دوما مهما خوت الجيوب‏.‏ المعلم‏..‏ من كان يحب اختلاف تلامذته معه ولا يختلف هو معهم‏..‏ الصلب إلي حد العناد‏..‏ كنت تكتب وتنقد وتجد من يرد عليك‏..‏ الآن يا طويل البال نحن نكتب وننقد ونكشف ونفضح ويتركنا المنقود نهوهو في ساحة اللاجدوي ونعض في الأرض دون أن تمتد لنا يد ترفعنا من علي الأرض‏.‏ صاحب دخان في الهواء‏..‏ الذي أطلقته فوضحت الرؤية ولم يكن سحابة مريبة سوداء تخنق الأنفاس والرؤية‏.‏أستاذ أخلاقيات الصحافة‏..‏ يا من أرضعتنا حليب التحدي ورددت في مسامعنا أن الكلمة الحقيقية هي الكلمة الناقدة‏,‏ وإذا ما كان نزار قباني قد قالها بأن الكتابة عمل انقلابي فقد كنت أنت قائد كتيبة الانقلاب في الصحافة الذي ارتأي أن التصفيق قد يغرق بينما النقد يحذر من الوقوع في المطب‏.‏ المحارب‏..‏ مقاتل برتبة صحفي سلاحه القلم وقلمه السلاح‏..‏ من دخل الميدان متبوعا لا تابعا‏..‏ يسبح ضد التيار ولا يبالي‏..‏ يمارس الصحافة ليعلنها حربا لا هوادة فيها ولا مهادنة ضد المحتل الخارجي والفساد الداخلي‏.‏المستقيم‏..‏ مثال للمثل القائل امشي عدل يحتار عدوك فيك ولقد عجز كل من حاول الهجوم عليك في أن يجد بقعة سوداء في ثوبك الناصع‏.‏مهندس العبارة خريج العمارة من عهدته يمشي في ردهات الصحافة بأسلوبه الرياضي المشرق مرتديا قفازا طويلا أسود يحمي به أكمام دوق الصحافة من بقع حبر الطباعة المغموس فيها ليل نهار‏..‏ من ظل يمشي لنهاية المشوار لا يري أو لا يريد أن يري أن جلودنا قد أصبحت ميتة الإحساس‏,‏ وأرواحنا تشكو من الإفلاس‏,‏ وأيامنا تدور بين تقديم أوراق الالتماس والنعاس‏,‏ وأننا أبدا لسنا خير أمة قد أخرجت للناس‏..‏ لكنه‏..‏ حتما رأي‏..‏ بدليل عنوان كتابه الأخير القربة المقطوعة‏,‏ وبدليل قوله قبل النهاية‏:‏ ماليش نفس أكتب‏..‏ لا أشعر بأي رغبة في الكتابة ثم أضاف‏:‏ اللي نبات فيه نصبح فيه.

الباقوري إمام التيسير..بقلم سناء البيسي

ولا كل من لبس العمامة يزينها ولا كل من ركب الحصان خيال.. ولقد زان الشيخ الباقوري العمامة كواحد من الصفوة الذين أضفوا عليها عزتها وفخارها, وكان أحد فرسان منابر هذا الزمان منذ اعتلاه في شرخ الشباب بنغمة عصرية تقدم المزيج المنشود من عطر التراث ونسيم الحاضر في عذوبة لا تغيب حين يرتفع الصوت الرخيم هادرا غاضبا أو متهدجا متأثرا, أو خفيضا ذاهبا لجلال الصمت فيسكن الجمع الصاغي حتي لتكاد تسمع صوت الدم في العروق.. صوت يخاطب القلب والعقل معا, جامع للوداعة والسماحة والمصداقية, ينم عن نفس خيرة تقية ورعة تشي بإحساس جسيم بالمسئولية.. صوت ينفذ للأعماق في استرسال فذ متدفق بارتجال وكأنه يقرأ من ورقة أويستظهر شيئا حفظه عن ظهر قلب.. كان الخطيب البارع والثوري القائد والمناضل خريج المعتقلات..علي مدي خمسين عاما لم تشهد مصر داعية للإسلام جسد سماحة الدين وجسد قدرته علي التوافق مع مقتضيات العصر مثلما فعل الباقوري الأزهري الصرف الذي تدرج في سلك الأزهر من أول المعهد الديني في المدينة الإقليمية إلي شيوخ الأعمدة في ساحة الأزهر الشريف, يدرس العلوم الأزهرية بمنهج الفهم والاستيعاب لا التلقين والحفظ, مما أتاح له النظر بعمق في اللب دون القشور, والنفاذ إلي الجوهر دون التلكؤ عند المظهر.. ومن هنا اتسعت آفاقه باتساع معارفه لتصبح النصوص والمقولات القديمة مجرد خلفية تنير له طريق الفكر المستنير, أما المبادئ فقد باتت سلوكا إنسانيا يسعي نحو التكامل ما أمكنه ذلك, وأما النصوص المقدسة فإنها المصابيح الهادية, وفيما عدا ذلك فكل مقولة من بني البشر قابلة للبحث والتمحيص والرفض إن لم تكن واقعا قانونيا لا يقبل الزعزعة.. ولسوف نظل طويلا نحمد للشيخ الباقوري مواقفه المستنيرة من أمور كثيرة كانت محل خلاف وجدل, وإن عاد الجدل العقيم القديم يطل برأسه من جديد مع هجمة فتاوي الفضائيات التي تعيد النظر في الدخول بالقدم اليمني من قبل اليسري, ورضاعة الكبير, وبول الجمال..الثائر الشيخ صاحب الـ22 كتابا ــ كان آخرها بقايا ذكريات الذي أوصي بنشره من بعد وفاته ــ كان يهز الجمود الفكري برفق بنظرة تري أنك مادمت لا تقول شيئا يناقض كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم فليس لك أن تفرض التشدد لتحتاط, لأن الاحتياط يوقعك في الحرج ولأن يتدين الناس بتتبع الرخص خير من أن يشقوا علي أنفسهم وعلي الناس, فينصرفوا عن التدين جملة.. ويقول: هذه هي الحقيقة التي أدعو إليها أبنائي وبناتي وزملائي وزميلاتي وشيوخي رضي الله عنهم أجمعين.. الباقوري رجل الإسلام الذي يرفض لقب رجل الدين لأنها كلمة وافدة وليس لها إسناد في الإسلام, وكان شيخنا الجليل لا يتحدث بفتوي أو برأي إلا ويدعمه بالسند والدليل الشرعي من الكتاب والسنة واجتهادات علماء الأئمة, ثم إن الشيخ كان يجتهد بترجيح رأي علي رأي أو النظر في مدي مطابقة الحكم وقدرته علي التكيف مع الواقع, وكان يري أن محاولة جر المسلمين إلي الوراء1400 عام ليعيشوا واقعا غير واقعهم وحياة غير حياتهم نوع من التهريج والاستهانة بالإسلام الذي جاء ليهذب الناس في كل زمان ومكان لا ليكون عبئا عليهم, ومن هنا كان شيخنا يقول ما يعتقده, ويفتي بما ييسر علي الناس حياتهم كي يعيشوا الإسلام كنعمة أنعم الله بها عليهم.. ولقد كان يري أن التشدد لم يشق علي المسلمين فقط في مجال السلوك بل لقد وصل أيضا إلي فهم القرآن وتفسيره حيث يقولون إن كل شيء سبق القرآن إليه. حتي عندما وصل الإنسان إلي القمر قالوا إن ذلك جاء في القرآن أيضا. حتي الأوكسجين والهيدروجين والتنفس يقولون إن القرآن سبق إلي الحديث عنها, ويسمون هذا اجتهادا ولكنه ليس اجتهادا, فهناك فرق بين أن تجتهد بالتخمين وبين أن تجتهد علي أصول, فالقرآن كتاب الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه جاء لتهذيب الإنسان وتعليمه ما يحتاج إليه وينتفع به.. لكن إذا حاول البعض أن يعتبر القرآن مصدرا للعلم المعملي فهذا خطأ, وفي رأيي أن هذه الظاهرة ترجع إلي محاولة البعض إثبات أفضلية له وسبق في فهم خاص للقرآن.الباقوري من ولد بلا شهادة ميلاد في التاسع من مايو عام1907 في قرية باقور بمركز أبوتيج محافظة أسيوط في أسرة ترجع أصولها إلي المغرب العربي زمان لم تكن شهادة الميلاد دقيقة فمكتوب في شهادة ميلادي( أحمد حسن أحمد) وهي شهادة شقيق لي ولد قبلي بعامين ومات إثر حقنة التطعيم بالجدري فلما ولدت لم يشأ أهلي أن أعيد الكرة في التطعيم فقالوا تكفيه شهادة شقيقه, ومعني ذلك أنهم أكلوا علي سنتين, ولو كان في إمكاني أن أرفع قضية تعويض لكنت رفعتها, وعندما طلبت تصحيح اسمي بعدها وأنا طالب في قسم التخصص كي تصدر شهادتي المتخصصة في البلاغة والأدب باسم أحمد حسن الباقوري وأرسلت الطلب إلي مديرية أسيوط في عام1936.. والله الذي لا إله إلا هو.. ردت علي المديرية عام1955 وأنا وزير للأوقاف.. صاحب القلب الكبير الذي ضجت له قاعة جمعية الشبان المسيحيين في ذكري القمص سرجيوس ليصفق له آلاف المجتمعين.. ما لا ينسي له أقباط مصر عندما كان مديرا لجامعة الأزهر أنه دعا صديقا له من كبار رجال الدين المسيحي وهو الكاردينال كوان من النمسا لإلقاء محاضرة في قاعة الإمام محمد عبده بالجامعة, وكان الرجل يحمل علي يديه زيه الكهنوتي فاستأذن في ارتدائه فقال الباقوري بل تفعل ولا ترتديه وحدك بل أعينك علي ارتدائه بيدي هاتين فدهش الكاردينال معقبا أنت متسامح كريم فأجابه فضيلته: إني عندما أسمح لك بارتداء زيك الكهنوتي وأعينك علي ذلك فليس هذا مخالفا لما ترشدني إليه عقيدتي وإنما أنا أقتدي بالرسول الكريم الذي جاءه وفد من نصاري الحبشة فأكرم وفادتهم وأنزلهم في المسجد مكرمين وقام علي خدمتهم بنفسه ورفض أن ينوب عنه في ذلك إنسان آخر, وتذكر منابر جمعيات شبرا القبطية التي كانت حريصة علي أن يكون زينة حفلاتها ـ كما يقول القمص بولس باسيلي عضو مجلس الشعب السابق ـ أن الشعب كان يهرع إليها ليسمعوا الشيخ الباقوري وهو يردد معهم هتافهم: الشيخ والقسيس قسيسان وإن تشأ فقل هما شيخان.. وتعود هذه القيم إلي الجذور: كان بقريتنا باقور عدد كبير من الأقباط, وكان بيتنا في موقع المسيحيين, وتفتحت عيناي في طفولتي وصباي علي أن ننادي المسيحيين بـيا عمي, وأتذكر أن جدتي كانت لها صديقة عزيزة جدا اسمها دميانة وكنت أناديها بـستي دميانة لأنني تعودت أن أنادي جدتي بـستي عزيزة, وكانت ستي دميانة تحبني جدا وتخصني بأهمية ورعاية خاصة في طعامي وفي منامي.. وأذكر جيدا أنها كانت ـ في الشتاء- تضع قدمي الباردتين بين قدميها لتدفئتي.وتكسب ثورة يوليو بالباقوري أراضي شعبية شاسعة بلباقته وقوة حجته وغزارة علمه وارتباط هذا العلم بمجريات الحياة كجزء لا يتجزأ منها, فيغدو خطيب الثورة الذي أيدها وطاف مع قياداتها في محافظات الجمهورية يخطب: أيها الناس جاءكم من حملوا أرواحهم علي أكفهم لينقذوا شعب مصر من حكم الإنجليز وطغيان القصر وفساد الحكم وإرهاقكم بالضرائب, فجاءوا ليقولوا لكل واحد منكم ارفع رأسك يا أخي فقد مضي عهد الظلم والاستبداد.. ويسافر الباقوري مع عبدالناصر في عام1955 إلي اندونيسيا لحضور مؤتمر باندونج فتخصه الجماهير وحده بتحية خاصة يقبلون فيها طرف الكاكولة ويتهافتون علي لمسة من يد رجل الإسلام القادم من الأزهر الشريف, ويعلق عبدالناصر بقوله إنه لابد وأن المراقبين في الشرق والغرب قد رأوا حب المسلمين والتفافهم حولك حتي أصبحت في رأيهم زعيما يؤيدك الغرب ويتملقك الشرق, وإنشاء الله تنتفع بك الثورة عالميا كما انتفعت بك داخل مصر!! وبقدر ما أسعدت شيخنا الكلمات بقدر ما أزعجته فهو العالم العارف بأنها تستهدف معني بعيدا وغاية خطيرة, ومن يومها بدأ الباقوري يتعامل بحرص شديد وحذر بالغ.. وتأتي زيارته الطويلة للصين بأوامر من عبدالناصر ليلقي فيها الزعيم الصيني ماوتسي تونج الذي يخترق الصفوف ليتجه إليه لتحيته في مكانه سعيدا كما قال بقدومه ليتفقد بنفسه أحوال50 مليون مسلم صيني.. ويعود الباقوري ليجد المطار غاصا بالمستقبلين, ويصطحب في اليوم التالي أسرته إلي مسرح الريحاني فيلمحه سراج منير الذي يوقف العرض لتحيته باسم الجماهير رجلا غاب عنا مائة يوم في زيارة لمصر والمصريين, وفي اليوم التالي يفاجأ بعبدالناصر يقول له: إن رحلتك الطويلة جعلتك زعيما يصفق له المواطنون في مسرح الريحاني. فيرد الباقوري بفورية: إن تصفيق المواطنين ليس من أجل شخصي ولكن من أجل أنني أمثل ثورة مصر.. وتكثر الألغام بين عبدالناصر والباقوري ويشمر كتاب التقارير الأكمام عن سواعد الجد.. ويزعق الباقوري لم أعد أطيق في أجواء أصبح الوالد فيها يتجسس علي ابنه.وحتي مساء13 فبراير عام1959 كان الشيخ الباقوري ملء السمع والبصر في طول مصر وعرضها.. وفجأة اختفي الشيخ.. خرج من الوزارة وكان ذلك بمثابة حكم بالانسحاب من الحياة كلها.! أين الباقوري.. ماذا فعل شيخنا؟!.. ما هي جريمته؟! خطؤه غير المغتفر؟.. لا أحد يعلم.. الرجل فص ملح وذاب.. ولم يسمع الناس عن جريمة ارتكبها الباقوري فهو لم يسرق ولم ينهب ولا سعي للفساد في الأرض ولا تاجر بالدين ولا أفتي بغير ما أحل الله وحرم الله, وعاش فقيرا ميراثه عن جدة أبيه أم علي نخلة ورثتها بدورها عن أبيها, حيث كانوا يأتون له في وزارة الأوقاف بنصيبه منها بما يسمي المنقطة وتضم سبع بلحات نصيبه الشرعي في الإرث.. رصيده العلم والفضيلة, وتاريخه العمل الوطني في رحاب الأزهر وخارجه من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا, وفي رحاب الأزهر بدأ دوره في النضال الوطني. قاد المظاهرات وهتف بمصر حرة مستقلة وطالب بالجلاء والدستور, وعرف السجون والمعتقلات, وعندما قامت الثورة وتولي فيها منصب وزير الأوقاف كان ذلك نقطة خلافه مع جماعة الإخوان المسلمين ليتم استبعاده منها, وعلي مدي السنوات السبع الأولي من الثورة أخطر سنواتها عاشها الباقوري قريبا من جمال متحمسا وداعيا وخطيبا.. أين الرجل؟!!.. وكان طبيعيا أن تتكفل الشائعات بالرد علي كل التساؤلات.. وأثمرت الشائعات في نفس عبدالناصر فلم يحضر حفل عقد قران ليلي الابنة الكبري للشيخ الباقوري مما جعله يندم علي موقفه من عبدالناصر ودفاعه عنه من المحيط الهادي شرقا إلي الأطلسي غربا, ومن البحر الأبيض شمالا إلي المحيط الهندي جنوبا!ويمضي ربع قرن من الزمان ليتكلم الشيخ الذي آثر الصمت مخافة زائر الفجر.. ذات يوم اجتمعنا في الندوة في دار محمود شاكر, ورن جرس التليفون وإذا بالمتكلم يحيي حقي, وكان يشكو إليه أنه نقل إلي عمل لا يناسبه وكان سفيرا لمصر في ليبيا لأن زوجته غير مصرية, فقال له محمود شاكر في حماسة عمياء, وما حيلتي يا أخ يحيي في هؤلاءالعساكر الذين يحكمون البلد, وعلي رأسهم جمال عبدالناصر ابن الـ... وكانت كلمة مع الأسف تستوجب إقامة حد القذف لو كان القانون يأخذ بالتشريع الإسلامي.. ومما تكمل به صورة هذا الموقف الأليم, أن العمارة التي كان يسكنها محمود شاكر في الدور الثالث, كان الدور الأرضي فيها قد خلا من قاطنيه وسكنه أحد رجال المخابرات. ولست أدري إلي الآن أكان هذا بعلم, أو بالاتفاق مع الأستاذ محمود شاكر أم كانت مصادفة.. واستدعاه عبدالناصر مساء ذلك اليوم13 فبراير1959 وأسمعه التسجيل وسأله.. هل كنت حاضرا؟.. وقال الشيخ: نعم.. وكادت الأرض أن تميد من تحت قدميه.. ولم يدر ماذا يقول ولا كيف يوضح من أن المخابرات قد سجلت حديثا جري في حضوره ولم يكن طرفا فيه وكان المتحدث يسب عبدالناصر موجها حديثه لشخص آخر, وفي نهاية الحديث قال له: انت جبان وخايف من عبدالناصر.. والشيخ الباقوري جنبي أهه وسامع الكلام.. وكان الباقوري يصلي وقتها, ولما فرغ من الصلاة قال للمتحدث معاتبا: يا أخي ذلك عيب ولا يصح.. لكن خبراء التسجيلات توقفوا بها عند كلام المتحدث الذي كان يسب!وكان الشيخ يدرك الهول الذي ينتظره بمجرد خروجه من بيت عبدالناصر, ولذلك كان رجاؤه له أن يؤمن خروجه من بيته.. قال الشيخ: العدل الذي أرجوه منك وأعتقده فيك أن تخرجني من بيتك كما أدخلتني فيه! وأدرك عبدالناصر مغزي الرجاء فقال له: ربنا يسهل.. واتصل بمدير مكتبه وطلب منه أن يدخل سيارة الشيخ, وكانت قد أوقفت بمعزل بعيدا علي غير العادة.. وعاد الباقوري إلي بيته لم يبرحه طوال خمس سنوات وخمسة أشهر وخمسة أيام.. عاشها مع أسرته في توجس مما كان يجري أيامها من هجمة زوار الفجر!وأسمع من الابنة عزة الباقوري ــ من كانت تعمل في المجال الاقتصادي ــ عن والدها وأستزيد:أب جميل كل ما يقوله جميل.. أجواء عائلية لا تعرف التعصب شعارها ما رفعه الأب بأن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده.. مرح ضاحك أكثر ما يسعده التفاف بناته وأحفاده من حوله يوم الجمعة يلعب مع الصغار الكرة والشطرنج الذي يجيده ومع هذا يتركهم يفوزون عليه, وكان يحب الطاولة والقراءة والمشي, وكان سباحا ماهرا ويركب الخيل قبل إصابته.. يرفض اجتماع صنفين من الطعام علي المائدة قائلا هذا تبذير, ويطلب من أصغر الأحفاد تذوق ثمرة طلائع موسم الفاكهة قائلا هذه سنة رسولنا صلي الله عليه وسلم, وكان يحب الأكل الصعيدي واللحم داخل الخضار والبطاطس في الطاجن بالبصل والثوم, والحمام بالفريك, والعيش الشمسي الذي كانت ترسله والدته في الزوادة التي يفرح بها هاتفا: هاتوها كما هي فطبيخ أمي لا يحتاج إلي طباخ, وسعادته بالغة بالقرع العسلي ويشرب كوبا فقط من الشاي كل صباح, وقبل النوم كوبا من اليانسون, ولا يطمئن لأدوات مائدته إلا إذا غسلتها ماما أو إحدانا.. كانت هناك علي الدوام صورتان فوق مكتبه, الأولي له مع عبدالناصر يشعل له فيها سيجارته والأخري مع السادات يستقبله بالأحضان.. عندما عاد والدي من لقاء عبدالناصر الذي استقال فيه من الوزارة أرسل في طلب زوج شقيقتي ليلي الدبلوماسي محمد سعيد الدسوقي الذي كان قد عقد قرانه عليها منذ خمسة أيام فقط, وروي له ما حدث بينه وبين الرئيس ليحله من الارتباط بتمام حريته وتقديره لمصلحته بعدما لم يصبح حماه وزيرا, فرد عليه زوج شقيقتي باكيا: انت تعرف يا عمي أنني متمسك بليلي بنت الشيخ الباقوري مش بنت وزير الأوقاف, وقد عقدنا القران وأنا مقتنع بها.. عندما انسحب والدي من الدنيا جاءته الدنيا حتي حجرة نومه فقد كان الفقهاء والأدباء يزورونه ليتحاوروا معه فيقول لهم: من أراد أن يزورني فلن أزيد علي قال الله وقال الرسول, وكان يأتينا الشيخان سيد سابق ومحمد الغزالي يزورانه ويصليان معه.. في أول الثورة عندما أفاق عبدالناصر من آثار التخدير بعد إجراء عملية الزائدة له طلب رؤية الباقوري فذهب إليه في صحبة والدتي وكانت المرة الأولي التي يقدم فيها الرئيس زوجته السيدة تحية لتسلم علي أحد الرجال خارج نطاق عائلتها.. كان يقدر ويحترم الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين ويحرص علي متابعة عموده اليومي في الأهرام قائلا لشقيقتي الصغيرة يمني التي أطلق عليها لقب زميلة المحنة لأنني وليلي كنا نعيش في منزل الزوجية, كان يقول لها: اقرئي لي بهاء كاتب إيه النهاردة, وإلي جانب متابعته لكتابات الأستاذ أنيس منصور كانت بينهما مداعبات كثيرة منها عندما ذهبا في عام1955 ليصلي الباقوري في المسجد الأقصي بالقدس الشرقية, وبعد الصلاة لاحظ والدي أن الأستاذ أنيس يمشي حافي القدمين بعد أن ضاع حذاؤه وابتل جوربه فنظم فيه شعرا يقول:تـقـول رعــــاك الله إنك شــفته يمـاشي وفود العرب في القـــدس حــافياأنيس فتي مصر وزينة وفدها إلي القدس يمشي في ربي القدس ساعياوليس بصوفي وليس بزاهــد ولا كـــان في الوادي المــقــــدس ســـاعــياوتعد والدتي السيدة كوكب كريمة الشيخ عبداللطيف دراز مرجعا لفكر أبي وهي من كان يملي عليها خواطره وأفكاره فتكتبها بخطها البديع, وعندما أراد استرضاءها ارتدي البدلة بدلا من الكاكولة في يوم الصباحية ودعاها لمسرح الريحاني.. قام والدي بتعليم نفسه الإنجليزية حتي أصبح ينطقها بإجادة الإنجليز.. أذكر كلبنا الضخم نجرو الذي كان يتمسح بكاكولة الوالد لحظة إطلالته فيقوم بالربت علي ظهره ومسح رأسه والتنبيه علي العناية به, وبعد وفاة والدي قبع نجرو في مكانه مضربا عن الطعام لمدة أسبوع حتي نفق.. وبعد محنة الثلاث خمسات ارتفع رنين التليفون في بيتنا: معالي الوزير موجود؟ وترد والدتي: مين حضرتك؟! أنا محمد أحمد يا فندم.. ويأتي والدي: ازيك يا محمد.. فينهي إليه الخبر: عقد قران هدي كريمة الرئيس يوم الخميس ــ وكان الحديث يوم الثلاثاء ــ واحنا عايزين نعرف هل إذا دعاك الرئيس تحضر أم تعتذر, فقال والدي هدي ابنتي مثل عزة وليلي ويمني بالضبط.. وأتي الموتوسيكل حاملا دعوة الرئاسة ليتعطل طابور التحية طويلا من خلف والدي فقد كانا يتعانقان طويلا هو وعبدالناصر..الشيخ الباقوري كان يحب سماع صوت وردة في قصيدة لعبة الأيام وفايزة في يا أمه القمر ع الباب ومطربه المفضل عبدالوهاب في أغانيه القديمة في الليل لما خلي, وعندما سألناه عن رأيه في قارئة الفنجان قال: أنا شخصيا وقع لي شيءغريب, فزمان وأنا في أسيوط قرأت لي ولأصدقائي البخت في الفنجان إحدي السيدات وحدث ما قالته لنا بالأسماء ويجوز أن تكون هناك قوي أخري في الكون لا نحيط بها علما وبشكل عام الغيب لا يعلمه إلا علام الغيوب, وكانت من أحب المسرحيات إلي قلب أبي مسرحية السلطان الحائر التي قال عنها لو عرضت علينا كل يوم لن أشعر بالملل لأداء سميحة أيوب الرائع ونطقها السليم للحروف وصوتها المنغوم المؤثر طبقا للموقف في المسرحية.. ولن أنسي نجاة عندما طلب منها والدي إحياء حفل زفافي الذي أقامه لي في حديقة بيتنا.. تجمعنا بالكاتبة الصحفية القديرة نعم الباز صداقة قديمة ومتينة, وتعد مرجعا متفردا لذكريات وآراء والدي فقد كانت تسجل معه بالساعات ولها كتابها القيم عنه وعنوانه ثائر تحت العمامة.. كان السبب الحقيقي وراء مرض أبي بعدما عاد للعمل مديرا لجامعة الأزهر وذهب لاستقبال الرئيس في المطاروبينما يقف ضمن المستقبلين اقترب منه أحد بطانة السوء ليقول له: ده مش مكانك ده كان زمان يا شيخ! وكأن الكلمة طعنة غادرة أصابت أبي في الصميم ليسقط مكانه في المطار مصابا بجلطة في المخ ترتب عليها شلل أصاب نصفه الأيسر ليحمل إلي مستشفي هليوبوليس, ويومها كنت في استقبال عبدالناصر عند قدومه لزيارته لأقول له الخير علي قدوم الواردين يصحبه عبدالحكيم عامر الذي قال له انت مسئول عن صحة الباقوري, واقترح الدكتور البنهاوي إزالة الجلطة بالجراحة ورفضت الوالدة وسافرنا إلي لندن ويعترض الدكتور مايكل كريمر أستاذ المخ بجامعة لندن علي الجراحة بقوله إن المخBoxofJewelery واقترح تذويب الجلطة بالعلاج لنمكث سبعة أشهر هناك, حيث كانت شقتنا الصغيرة مزارا لا ينقطع وفيها قام أشهر راقص باليه انجليزي بإشهار إسلامه علي يدي أبي بعد أن رأي نفسه يقود ناقة الرسول صلي الله عليه وسلم في المنام وسمي نفسه رشيد الأنصاري.. وعلي أرض المطار عند عودتنا استقبلنا بموكب كبير يرتدي الزي الكهنوتي أرسله البابا كرولس للتهنئة, ونزلنا في استراحة الرئيس في القناطر الخيريةحيث دعت أم كلثوم نفسها علي الغداء علي أكلة كشك وحضرت في صحبة كل من الأساتذة أحمد عبدالله طعيمة والطحاوي وزوجها الدكتور الحفناوي, والجدير بالذكر أن أبي كان من اقترح عليها غناء قصيدة أبي فراس الحمداني: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوي نهي عليك ولا أمر, وجلست أم كلثوم تحكي ظروفها مع النكسة التي حدثت والوالد في الإنعاش بلندن فقالت: تصور يا شيخ أنهم قالوا لي لازم تعملي غنوة تقول حننتصر وحغني في الليل في تل أبيب, وصدقتهم وعملتها وكل ما أسأل: حنذيع امتي يقولوا لي استني شوية.. استني شوية.. ولما بلغني ما جري سألتهم أمال كان فين القاهر والظافر؟! قالوا لي استخدمناهم لكنهم ضربوا في ولادنا, ووسط انهماك أم كلثوم في الحديث أطاحت أصابعها بطبق ماء غسيل الأصابع فأغرق المفرش,وبعد الغداء استأذن والدي ليرتاح قليلا فاقترحت أم كلثوم أن نلعب مع الأحفاد أيمن ويمني الكوتشينة لغاية ما يصحي, وأفخر أنني كنت الوحيدة مع أولادي التي لعبت مع ثومة لعبة صلح.. وبعدما عاد الباقوري للعمل رجاه صديق الأسرة يوسف الرويني أن يجد حلا في مشكلة جمال ابن عبدالحكيم عامر الذي لم يحصل علي مجموع يؤهله لدخول الجامعة فما كان من أبي وهو مدير لجامعة الأزهر إلا أن كتب علي الطلب يقبل علي مسئوليتي الخاصة وبعدها اتصل بمحمد أحمد سكرتير الرئيس ليبلغه الأمر, ولم تمض سوي خمس دقائق إلا وأتت المكالمة الهامة: متشكر فقد رفعت الحرج عني... ويمرض والدي من جديد بالكبد ونسافر إلي لندن من جديد وهناك في يوم الرحيل26 أغسطس1985 ظل لمدة الأربع وعشرين ساعة الأخيرة لا يلفظ سوي.. يا الله.. يا رحمن..يرحل المؤمن أحمد حسن الباقوري بعدما ألمت به محنة تحولت بإرادة الله سبحانه وتعالي إلي منحة للشيخ الداعية الفقيه المظلوم وكأني به يتمثل قول شيخ الإسلام ابن تيمية: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري, إن رحت فهي معي لا تفارقني, إن حبسي خلوة, وقتلي شهادة, وإخراجي من بلدي سياحة.. فالمحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالي, والمأسور من أسره هواه!

الغــزالي‏..‏ سـيد الدعـاة..بقلم سناء البيسي

لأن شيخنا الجليل محمد الغزالي كان رجل دعوة تنير العقول بالحقائق وتقدم الدين من ينابيعه الصافية خالصا من الزوائد والشوائب وآفات التدين الفاسد, لا يحب الرياء الديني ولا الرياء الاجتماعي ولا الرياء السياسي.. لأنه.. ولأنه فقد أزعج السلطات يوما فحذرته وعندما لم يستجب صدر القرار الوزاري عام1971 بمنعه من الخطابة في المساجد عامة.. ويأتي الحليم الذي يعرف قدره.. الدكتور عبدالحليم محمود.. وزيرا للأوقاف فيطالب بعودة الشيخ الغزالي فتلبي الجهات المعنية الطلب علي استحياء من الرجل الصوفي المسئول صاحب الشأن الكبير في العالم الإسلامي, ويرسل الدكتور عبدالحليم يدعو الغزالي في يوم أربعاء ليخبره: يا شيخ محمد ها قد عدت إلي المنبر, وستخطب بإذن الله الجمعة القادمة من منبر جامع عمرو بن العاص, وإني قد رأيته في الرؤيا يشكو من هجر مسجده..ويهبط القرار علي الغزالي بأحاسيس متضاربة مستهلها فرح لاستئناف ما وهب من أجله.. الدعوة. وحزن لأن القلب لا يحمل حبا لعمرو بن العاص لموقفه المعادي لعلي بن أبي طالب في حادثة التحكيم بعدما استخدم دهاءه السياسي مع أبي موسي الأشعري وجاء التحكيم لصالح معاوية, ويعلن الغزالي رفضه صراحة فيحاصره ويخجله الدكتور عبدالحليم: يا شيخ محمد أنت ستخطب بإذن الله الجمعة القادمة في جامع عمرو وستكون إماما وسوف أصلي من خلفك..ويسقط في يد الشيخ الغزالي لتأتي الجمعة ويصعد مكرها منبر عمرو بن العاص, لكنه في هبوطه ـ كما روي ــ كانت تغمره سعادة خفية لا يدري مصدرها فيقرر الاستمرار وينتعش الجامع الذي اجتمعت المحافظة والوزارة علي تجديده, ويقبل الناس علي خطب الشيخ حتي يبلغ الحاضرون عشرات الألوف.. ويتذكر الغزالي مجهشا بالبكاء نادما علي موقفه الأول من عمرو بن العاص استدعاء الشيخ الباقوري له في بيته لأمر مهم: عندما جلست علي المقعد القريب إذا بالشيخ الباقوريوكان المرض قد نال منه ليقعده يقربني أكثر ويبادرني بالسؤال: ماذا بينك وبين عمرو بن العاص؟.. فتعجبت وقلت: لا شيء!إنني أخطب الآن في مسجده.. فعاد ليقول لي: أنا أحكي لك ما رأيت, والتفسير لك, فبينما كنت نائما إذ شعرت بطارق يطرق الباب ويقول بصوت جهوري: الوالي قادم.. فسألت من هو الوالي القادم؟! فقال الطارق: عمرو بن العاص, فتأهبت للقاء صاحب رسول الله وشعرت بخفة في بدني, ودخل عمرو بن العاص وجلس مكانك هذا, رجل قصير القامة في عينيه عمق كأنهما أغوار محيطات, فقال لي: أبلغ الشيخ محمد الغزالي أنني غفرت له تطاوله علي لأنه أحيا مسجدي بعدي, وهذا المسجد رابع مسجد في الإسلام الذي اجتمع فيه الفاتحون الذين هزموا الرومان في مصر وأدخلوا الإسلام.ويكمل مسيرة الدعوة محمد الغزالي أحمد مرسي السقا.. المصري المولد والنشأة والنكهة ابن قرية نكلا العنب التابعة لمركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة, مسقط رأس الشاعر محمود سامي البارودي والشيخ محمود شلتوت والإمام حسن البنا, من ولد لأسرة ريفية فقيرة في يوم السبت22 من سبتمبر1917, واختار له والده اسمه المركب محمد الغزالي تيمنا بالإمام أبو حامد الغزالي, وكان الشيخ أكبر إخوته السبعة, وأتم حفظ القرآن الكريم في العاشرة والتحق بالمعهد الديني التابع للأزهر الشريف بمدينة الإسكندرية ليحصل علي الابتدائية والثانوية الأزهرية عام1937 وذلك في صحبة والده الذي باع أرضه وغير نشاطه ليشتري مكتبة كان الابن يجلس فيها يطالع الكتب وينسي عملية البيع والشراءومن بعدها ومعه والده سافرا إلي القاهرة للالتحاق بكلية أصول الدين ليتلقي العلم علي يد كوكبة من كبار العلماء منهم الإمام الأكبر الشيخ شلتوت, وينال شهادة العالمية عام1941 ثم علي إجازة الدعوة عام1943.. و.. يكمل سيد الدعاة مسيرة الدعوة برؤية تري أن الشهادة ليست نهاية العلم وأن الداعية المسلم في هذا العصر لابد وأن وأن يظل قارئا ما عاش ولايزال المرء عالما ما طلب العلم فإذا ظن أنه علم فقد جهل, ولا يجوز الخلط بين تعاليم الإسلام والتقاليد التي تسود بلدا ما, فللناس تقاليد ألبسوها الزي الإسلامي وهي من عند أنفسهم وليست من عند الله, والدعوة إلي هذه التقاليد علي أنها المنهج السلامي جهل قبيح, فمصادر الإسلام معروفة وميزانه في الحلال والحرام حساسوالأمم التي دخلت فيه كثيرة, وتاريخه تقلب بين مد وجزر, وفقهاؤه المجتهدون تعرضوا للصواب والخطأ, وحكامه علي اختلاف الأيام والدول فيهم من أحسن ومن أساء, ومن هنا علينا التحري في ميدان الدعوة فلا نصد عن سبيل الله بأمر نحسبه من مسلمات الدين وليس كذلك.. ويصادف الغزالي في طريق الدعوة المتحدثين الخطرين علي الإسلام ودعوته, الذين يؤثرون التعقيد, ومهمتهم تأويل النصوص أو الاصطياد من الشواهد النادرة ما تأباه الفطرة ويمجه العقل, وهناك ـ كما يري ـ أقطارا تشقي فيها النساء لأن التقاليد جعلت دما دون دم وأبا دون أب, أفهذا إسلام؟! إن العقل عند هؤلاءمتهم حتي تثبت براءته, والسيف لا الإقناع أساس نشر الدعوةوملابس البداوة إمارة علي التقوي, أما الأزياء الأخري فإن لم تدل علي التحلل فهي موضع ريبة, وعدم البصر لا غض البصر أساس العلاقة بين الجنسين, وقلما يعرف هؤلاء شيئا عن ضوابط الحكومة العادلة كمثال, ولو سألتهم لعادوا يبحثون في التاريخ عن أساليب الحكم في الكوفة أو بلخ ليعطوا صورة شرعية للحكم المطلوب!.. إنني أصادف هذه المناظر المؤذية في طريق الدعوة فأشعر بالنكد, وآخر ما لقيت من هؤلاء شاب يقول لي: أليس في الالتحاق بالجيش شيء من الوثنية؟ فقلت: ويحك كيف؟!! فض الله فاه قال: إنهم يحيون العلم كل يوم وهذه وثنية!.. وفي إحدي محاضرات الغزالي شاهد أحد الطلبة يمسك سواكا يحك به أسنانه فعاب عليهفقال الطالب: هذه سنة, فرد عليه: والاستنجاء أيضا سنة, ولكن السنن لها مواضع ومواقف.. ويعلق علي النقاب بقوله إنها عادة ولا أظن أنها من تعاليم الإسلام, لأن التعاليم تدعو إلي غض البصر عند النظر إلي المرأة الأجنبية, فإذا ما كان الوجه مغطي بالنقاب ففي هذه الحالة لا يكون هناك مجال لغض البصر, ولكن الغض يفترض أن يكون في حالة كشف الوجه وليس تغطيته.الغزالي صاحب الـ57كتابا من يعترف بالفضل لإخوانه ويشيد بمواهبهم ومواقفهم وفضائلهم فيثني كمثال علي الشيخ سيد سابق ويبرز مكانته في الفقه فيحيل عليه وعلي كتابه فقه السنة وكثيرا ما نوه بالقرضاوي في المؤتمرات والندوات قائلا: اسألوا يوسف فهو أولي مني, بل لقد صرح بقوله أمام الملأ من كبار الأساتذة: لقد كان يوسف تلميذي فيما مضي, وأما اليوم فأنا تلميذه.ويحمد لشيخنا الجليل أنه كان أوابا بمعني ناقدا للذات الذي لا يخجل من الاعتراف بخطئه والرجوع إلي الحق, وفي القرآن الكريم الثناء والجنة لمن كان أوابا وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد.. الغزالي الذي كان يداوم علي محاسبة النفس ملتزما بقول رسول الله صلي الله عليه وسلم حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.. ولقد ازدان تاريخ الأمة بعلماء حاسبوا أنفسهم ومنهم كمثال العز بن عبدالسلام1181 ــ1262 م أعظم علماء عصره الذي أفتي مرة بشيء ثم ظهر له خطأ فتواهفما كان منه إلا الطواف بالشوارع في القاهرة ينادي قائلا: من أفتي له العز بن عبدالسلام بكذا فلا يعمل به, فإنه قد أخطأ في فتواه.. ولقد كان الشيخ الغزالي من أوابي هذا العصر, وعندما راجع نفسه في خلافه مع الهضيبي في بداية حقبة الخمسينيات رأي أنه من الظلم تحميله أخطاء هيئة كبيرة مليئة بشتي النزعات, بل لقد عبر عن اعتذاره هذا إلي حد تقبيل يد الهضيبي أمام الجمع عندما التقيا أثناء تشييع إحدي الجنازات, وفي المؤتمر الوطني للقوي الشعبية الذي انعقد في مايو عام1962 كان للشيخ حديث طالب في ختامه بلباس موحد للرجال وآخر للنساء طلبا للحشمة الشرقية وإزالة الفوارق الصارخة في الأزياء بين الناسوعندما راجع الشيخ موقفه أدرك أنه لم يوفق في اختيار الموضوع المناسب للمقام: ولا أدري كيف وقعت في هذه الحفرة, ولا كيف انسقت إلي هذا الموضوع الثانوي وسمحت لنفسي بإطالة الكلام فيه, مما تسبب هذا الخطأ في أني لم أعط صورة كاملة لمكانة المرأة في الإسلام ففهم البعض أنني أريد العودة بالنساء إلي عهود الجمود والجهالة التي عاشت فيها خلال القرون الأخيرة.. وعندما اختلط الأمر علي الشيخ الغزالي في انتقاده للمنهج اليساري في تفسير التاريخ الإسلامي كان من بين الذين أشار إلي أنهم من كتاب اليسار الإسلامي الدكتور محمد عمارة الذي كان جميع ما قدمه للمكتبة الإسلامية من فكر ينقض ويهدم من الأساس مصداقية ما يسمي باليسار الإسلامي..ومن هنا.. قدم الغزالي اعتذاره لعمارة بكتاب هدية من مؤلفاته أرفقه بخطاب استهله بقوله: إن القليل الذي قرأته لك أخيرا ردني إلي الصواب في أمرك وجعلت أندم علي تعجلي... وعند أول فرصة سأنشر رأيي في حقك الذي يفرضه علي ديني... ومن بعد خروج خالد محمد خالد من المعتقل أصدر كتابه من هنا نبدأ ليتصدي له الغزالي في كتاب من هنا نعلم ينقد فيه خالد في رفق وأدب ورعاية لرابطة الود القديم مستنكرا أن يجرده الأزهر من شهادة العالمية كما نادي البعض ولم يقبل تدخل السلطة طرفا في الموضوع متكئة علي الأزهر..تلك الصداقة التي جمعت بين الشيخ الغزالي بالمفكر الإسلامي خالد محمد خالد كتب الأخير نبذة عنها في كتابه قصتي مع الحياة يقول فيها في صفحة(372): وقد حقق الله سبحانه أمنيتي ورجائي وصرنا صديقين حميمين ومرت بنا أيام, كأن أحدنا يقول فيها للآخر: يا.. أنا!! ويصحب خالد صديقه الشيخ سيد سابق لمسجد عزبان بالعتبة ليسمعا إمام المسجد وخطيبه محمد الغزالي, فيصلوا فريضة المغرب لينتقلوا بعدها إلي غرفة الإمام الملحقة بالمسجد: وفيما نحن جالسون نتهيأ لتبادل الحديثإذ صوت الموسيقار محمد عبدالوهاب يتهادي إلي أسماعنا من مذياع محل تجاري للملابس ملاصق للمسجد.. كان يردد إحدي أغنياته الجديدة ويقول: هذه ليلة حبي.. ورأيت الشيخ الغزالي يلامس صدره براحة يمينه, ويكتسي وجهه بشجن رقيق, ويقول سبحان الله.. إن هذه الأغنية تملأ نفسي بالشجن الجميل.. وابتسمت في رضا وانتشاء.. وأسررت إلي نفسي كلمات لم تتحرك بها شفتاي: نعم الصديق أنت.. فأنا كنت أهيم حبا للموسيقي وللفن الرفيعوها أنذا ألتقي بعالم فاضل نشط ومجتهد يصل الخفي بالظاهر لا ينأي عن تحريم الموسيقي والفن فحسب,بل ينفعل بهما وتهزه الأغنية الجميلة والصوت الرخيم, ورغم علم الشيخ الغزالي الغزير, وأسلوبه المتأنق والنضير, وذكائه المقتحم والجسور, فقد أضفت إلي هذا كله, وربما قبل هذا كله, انتشاءه الطروب بالموسيقي كلمة ولحنا وأداء كما تبدي لي في ذلك اللقاء, أما أخونا الجليل الشيخ سيد سابق فقد عقب علي المشهد قائلا: إن الإمام أبا حامد الغزالي رضي الله عنه يقول: من لم يطرب بالسماع فهو حمار يمشي علي ساقين, وهكذا استمرأنا الحديث في هذا الموضوع واتسعت أمامنا مبارح القول, حتي نادي المؤذن لصلاة العشاء فأقمناها, وعدنا نستأنف الحديث.الغزالي.. الذي قد قضي في معتقل الطور بسيناء قرابة العام سنة1949, وأقل من عام في سجن طرة عام1965, عندما أعيد إلي عمله وعين وكيلا لوزارة الأوقاف اعتبر المنصب نوعا من رد الاعتبار بعد الإبعاد والإقصاء, لكنه حين ذهب إلي الوزارة في يومه الأول اقترح عليه وزير الأوقاف أن يبعث ببرقية إلي الرئيس السادات ليشكره علي إعادته ورفع درجة وظيفته فوجئ الشيخ بطلب الوزير فقال له: إذا كان لابد من الشكر فالوحيد الذي يشكر علي ما تم هو الله سبحانه وتعالي الذي أراد فكان ما كان, وتشبث كل من الوزير والشيخ بموقفه وإزاء إصرار الوزير لم يكن أمام شيخنا المستغني إلا أن هب واقفا قائلا ناهيا: لاأريد وكالة ولا وزارة.. وقدم استقالته وعاد إلي بيته مستريح الضمير وهو يعلم أن مرتبه وهو دخله الوحيد قد انقطع.. وخلال سنوات مرضه الأخيرة عرض عليه ملوك ورؤساء وأمراء أن يقوموا بنفقات علاجه الباهظة في أي مصلحة عالمية لكنه ظل الرافض لأن يكون لأهل السلطان عليه فضل.الغزالي السمح.. من قال: أكره أصحاب الغلظة والشراسة, ولو كان أحدهم تاجرا واحتجت إلي سلعة عنده ما ذهبت إلي دكانه, ولو كان موظفا ولي عنده مصلحة ما ذهبت إلي ديوانه, لكن البلية العظمي أن يكون إمام صلاة أو خطيب جمعة أو مشتغلا بالدعوة. إنه يكون فتنة متحركة متجددة يصعب فيها العزاء... وإذا لم يكن الدين خلقا دمثا, ووجها طليقا وروحا سمحة, وجوارا رحبا, وسيرة جذابة فما يكون؟... إن الفكر الديني قد سمن ونما له كرش, في تلك القضايا التي أوجدها الفراغ أيام الفراغ, ولن تعود له صحته إلا إذا ذهبت هذه السمنة واختفي الكرش واشتغل المسلمون بعلوم الحياة, والسمنة في الفكر تعني الترهل في الفكر, وتعني تناول ما لا قيمة لهوغض البصر عما له قيمة... إن في المسلمين من لايزال يحفر في الدوسيهات القديمة ليتساءل أيهما كان علي حق عثمان أم علي, واعتبار الأعمال العامة والخدمات من التوافه التي يقبل فيها العبث والتسويف, حتي ليؤجل الموظف العمومي مصالح الخلق حتي يؤدي الصلاة, بينما أمامه وقت ممتد لأدائها.. هذا الخلل كله وصل بالمسلمين إلي الحال الذي صاروا إليه.... ورأيت صيدليا مشغولا ببحث قضية صلاة تحية المسجد ومهتما بترجيح مذهب علي مذهب, فقلت له: لماذا لا تنصر الإسلام في ميدانك وتدع هذا الموضوع؟ إن الإسلام في ميدان الدواءمهزوم, ولو أراد أعداء الإسلام أن يسمموا أمته في هذا الميدان لفعلوا ولعجزتم عن مقاومتهمفما كان الأولي بك وبإخوانك أن تصنعوا شيئا لدينكم في ميدان خلا منه, بدل الدخول في موازنة بين الشافعي ومالك... التطرف ممقوت والتشدد تدين الضعيف والفاشل فالإسلام أوسع وأرحب صدرا من السماء والأرض وفيه مساحات شاسعة للرحمة والتيسير علي العباد, إن رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا, وهو القائل: أوغلوا في الدين برفق فإن الدين متين... تسعون في المائة من الديمقراطية البريطانية إسلامي المنبع والوجهة ولولا أن مجلس العموم البريطاني ومجلس اللوردات قد اشتركا في إباحة بعض الرذائل التي يأباها الله كالشذوذ لكانت الديمقراطية الإنجليزية من أجمل صور الشوري التي نحبها لبلادنا...إن الشيطان لا يقيم عائقا ماديا أمام ذاهب إلي المسجد ولا يدفع سكرانا في قفاه ليتجرع الإثم من إحدي الحانات, إنه يملك الاحتيال والمخادعة ولا يقدر علي أكثر من ذلك, أما عن عملية لبس الشياطين للأجسام التي أراها منتشرة خاصة بين العامة فأقول: هل العفاريت متخصصة في ركوب المسلمين وحدهم؟ لماذا لم يشك ألماني أو ياباني أو أمريكي من احتلال الجن لأجسامهم؟!.... أهداني رجل طيب سبحة فاخرة لأختم بها الصلوات فتقبلتها منه شاكرا ثم عدت إلي بيتي وأهديتها إلي حفيدة لي, وبعد أيام قال لي الرجل: لم أرك تستخدم السبحة المهداة؟ فقلت له: إنني أقدر جميلك, ولكن الأذكار المطلوبة في أعقاب الصلوات لا تستغرق غير دقيقتين أو ثلاث فأوثر استخدام أصابعي ولا حاجة إلي جهاز إحصاء... ماذا علي الناس لو أراحوا الدين من عنت الأهواء الجامحة, فإذا أرادوا العصيان لم يلجأوا إلي فتوي تشرعه؟..الغزالي.. الذي خدم الدعوة في قطر خمس سنوات وثلاث سنوات في الجزائر أشرف فيها علي جامعة الأمير عبدالقادر الجزائري الجديدة ليجعل منها مثالا للأزهر الشريف, وكان الشارغ يخلو من المارة أثناء حديثه التليفزيوني الذي يشرح فيه الإسلام بأيسر الطرق وكأن الإسلام علي يديه بدأ يدخل الجزائر من جديد, وفي أحد المؤتمرات بالجزائر حاولت ثلاث فتيات سافرات بإلحاح دخول القاعة, ولكن شبابا واقفين بالباب منعوهن بطريقة فظة, وعندما علم الغزالي بالأمر قام غاضبا مستندا إلي عصاه متجها للشبان الذين منعوا الفتيات قائلا: من أدراكم أن هؤلاء لسن أقرب إلي الله منكم؟ فتراجعوا واحدا تلو الآخر وأفسحوا الطريق أمام الفتيات اللاتي أسرعن نحو الشيخ باكيات, وحين أسندن رءوسهن إلي صدره ربت عليهن في حنو وقد طفرت دمعة من عينه!.... ويضحك الغزالي وهو يروي عن اتساع المفارقة: قرأت أن وزير خارجية إحدي الدول الخليجية قد اجتمع مع نظيره الأمريكي... ويتساءل من أين بالله تأتي هذه المناظرة وأليس للتناظر شروطا؟!الغزالي في بحثي عنه أقترب منه.. أطرق الأبواب وأفتح الأدراج وأفض الأختام وأنصت لدبيب النمل لأحصل علي زادي وزوادي عن فضيلة الشيخ الذي أنجب تسعا فعاش منهم سبعا من البنين والبنات الذين استقي أسماءهم من قصيدة أحمد شوقي نهج البردة فجاءت الأسماء هدي وإلهام وسناء وعفاف ومني وضياء وعلاء.. الجميع جامعيون وجامعيات وضياء مهندس وعلاء أستاذ جامعي عميد أكاديمية السادات, وعفاف زوجة الكاتب الصحفي محمد عبدالقدوس.. عندما تقدم الشيخ المتخرج حديثا في أصول الدين لطلب يد فتاته الحسناء أمينة ابنة موظف السلك القضائي آثره الوالد علي جميع العرسان المتقدمين رغم ثرائهم وجاه عائلاتهم, فقد وقع حب محمد في قلبه لدرجة أنه أوسع للعروسين مكانا في بيته ليعيشا في كنفه, ورغم فارق السن كان يصلي من خلفه.. وكما احتضنه حماه وحماته في شبابه كان رد الجميل أن اصطحبهما يعيشان معه في بيته الأول بشارع الأزهر, وفي بيته الثاني10 شارع قمبيز سابقا الذي حمل اسم الغزالي من بعد وفاته..الشيخ المنضبط كالساعة كان لا ينام بعد صلاة الفجر ورغم التصاق جامع شركس بوزارة الأوقاف مقر عمله فلم يترك مكتبه لصلاة الظهر فيه فقد كان الوقت ممتدا ليلحق بالصلاة مع امرأته في البيت ليأخذ قيلولته ساعة بعد وجبة غداء لا يتناول بعدها طعاما حتي الصباح التالي, وكان دائب الاستماع لإذاعة الـBB.C البريطانية.. منصت شغوف لأم كلثوم ومحب لعبدالوهاب ومعجب بكلمات مرسي جميل عزيز, ويرفع له الأبناء صوت فيروز ليسعد بها تغني اعطني الناي وغني وينادي علي زوجته التي تهوي اقتناء اللوحات من بعيد: الربيع يا أمينة تعالي اسمعي فريد الأطرش في الراديو.. وعندما يستمع إلي عزف ابنه علاء علي البيانو يأتي ليجلس بجواره معطيا له اذنا صاغية.. وكانت جدران بيته تحنو وتداعب أكثر من كلب آخرها من فصيلة الجريفون الصغير.. ويعثر الابن المهندس ضياء في أوراق والده من بعد وفاته علي دفتر أشعاره فيطلب من الدكتور مصطفي الشكعة أن يقدم عنها ورقة تعرف القارئ بها, فإذا بالشكعة يكتب لها مقدمة من79 صفحة تعترف بجودتها وصدق احاسيسها... الغزالي الزوج الودود الباش الهاش سريع البديهة المرح كان حزنه بالغا لرحيل زوجته ــ التي توفيت متأثرة بمرض في الكبد وكان طبيبها المداوي الدكتور ياسين عبدالغفار ــ فحياتهما الزوجية كانت مثالا للمودة والرحمة علي مدي ما يقرب من أربعين عاما, وأبدا لم يفكر في حياتهما أو بعدها في أخري غيرها فهو الذي لم تجف دموعه عليها حتي في أحاديثه الإذاعية كان يذرفها مدرارا عندما تأتي سيرتها, وقد أبكي يوما المذيعة الراحلة آمال العمدة معه عندما سألته عنها, ومن فرط حساسيته كان أهل بيته يهرعون لخفض صوت فيروز عندما تغني بالذات لم لا أحيا الأغنية التي كانت تثير شجونه.. وإذا ما كان الغزالي قد دخل في اشتباك رأي مع صلاح جاهين في الستينيات فقد نسي من بعدها تلك الخصومة تماما,وأصبح الحريص علي الاطلاع علي نكتة جاهين اليومية في الأهرام يتفاعل معها ويضحك من قلبه لها.. وكان يعد نفسه من كتيبة الحرس الخاص لرسول الله صلي الله عليه وسلم, ومفتاح شخصيته حب الله ورسوله, وقد طبع من كتابه السنة النبوية11 طبعة في سنة واحدة فقط وعندما سألت السفارة الأمريكية في عام85 عما إذا كان الكتاب قد ترجم للإنجليزية للاستعانة به في رسالة دكتوراه عن الغزالي بإحدي جامعاتها اتضح أن بنظير بوتو في رئاستها الأولي للحكومة الباكستانية قد قامت بترجمته بالفعل, وقد ظل الغزالي محرما طيلة حياته عمل أي رسائل جامعية عنه, ومن بعد رحيله تدفقت الشهادات, بينما كتابه من هنا نعلم المترجم للإنجليزية قد اختير كأفضل كتاب عالمي صدر في عام53وكان قد كتب مؤلفه فقه السيرة عام1951 داخل الروضة الشريفة, وتشهد أصوله علي آثار دموعه المختلطة بمداد الحروف, وقد ضم هذا الكتاب1400 حديث وراجعه الشيخ الألباني, وترجم إلي جميع لغات الأرض ومنها السواحلية والأردية والفارسية والصينية والهندية وغيرها... وكان الغزالي لا ينصح بكثرة الحج والعمرة ويري أن التبرع بمصاريفها من بعد أداء فريضتها أجدي وأفضل.. ويسأل الابن ضياء أباه ــ الذي كان يأنس لوجوده معه ــ عن موقفه من رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ فيعرف منه أنه بعد أن ارتفعت الآراء المعارضة للرواية أحالها جمال عبدالناصر للتحقيق فتم انتداب كل من الشيخ الغزالي والشيخ سيد سابق والشيخ أبوزهرة لقراءتها, فوجد ثلاثتهم فيها تطاولا فكتبوا تقريرهم الذي أوقفها,وعندما حصل محفوظ علي نوبل عارض الشيخ أن تنسب الجائزة العالمية لتلك الرواية بالذات وإنما رأي أنها منحت للكاتب الكبير علي مجمل أعماله, وسارع الشيخ لمستشفي الشرطة للاطمئنان علي محفوظ بعد الاعتداء عليه وجلس إلي زوجته وكريماته مجيبا علي استفساراتهن الدينية.شيخنا الجليل أبدا لم تصحبه جوقة أو تجري في ركابه بطانة طيلة حياته, وعندما سرق سور مدفن الأسرة الحديدي في الإمام الشافعي وفكرت الأسرة في مدفن آخر قال إنه مكتفيا بجوار الإمام الشافعي, وكان وقتها في علم الغيب أين المستقر الذي انتهي به في يوم9 مارس1996 وقلمه في يده يدون نقاطا للدفاع عن الإسلام في مؤتمر الرياض.. كانت هناك رحلتان إحداهما للكويت والأخري لمهرجان الجنادرية الثقافي في الرياض ففضل رحلته إلي السعودية التي لم تكن ستستغرق سوي ثلاثة أياموكان علي غير عادته متعجلا للسفر حريصا علي أن تكون جميع ملابسه جديدة وهو من لم يكن يعنيه هذا الشأن.. ومن الرياض اتصل بابنه ضياء لانتظاره في مطار القاهرة غدا.. وغدا قضي الله أمرا كان مفعولا, وأذيع خبر الوفاة وأمر الملك عبدالله ـ ولي العهد وقتها ــ بطائرة خاصة لنقل أسرة الفقيد للصلاة عليه في المسجد النبوي, حيث حضر لتوديعه الآلاف بملابسهم البيضاء الذين قدموا من شعاب المملكة للمدينة المنورة ليقينهم بأن الغزالي لابد وأن يأتي إليها.... وتمطر السماء ويسأل من أوكل إليه مهمة أن يوسد جسد الشيخ في مثواه الأخير عن شخصية الراحل فيذكرون الاسم ليختصره في جلال موجز.. الواعظ.. ويدفن الشيخ الغزالي في الوسط ما بين الإمام مالك والإمام نافع من جهة, وبين إبراهيم ابن الرسول صلي الله عليه وسلم من الجهة الأخري.. ويزور البقيع الشيخ الشعراوي كلما أتي للصلاة في المسجد النبوي ليبكي فقد الغزالي.. و.. في الليلة الظلماء يفتقد البدر..