الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

انتحــار شـرعي‏!!‏--بقلم‏:‏ ســنـاء البيـــسي


أحمد فضل ماشي دماغه يزن‏..‏ ماشي علي دا الحال بقي له سنين‏..‏ الزن أصبح في الدماغ موال الأسية وموسيقي تصويرية مصاحبة لكل شيء في العيشة النكد‏..‏ اللقمة يرفعها لزوره وسط الزن‏..‏ يقول لمراته العواف مغمسة بالزن‏..‏ يشخط في العيل الزنان لأجل يخرسه هو كمان من الزن‏.‏ ينام يزن يقوم يزن وفي زحمة زن الخلق الزن الداخلي شغال‏,‏ والنحس عنكبوت ع الحيط والماهية قلعت برقع الحيا والفكر ما له نهاية والديانة عينه منهم للأرض وعذره أقبح من كل ذنب‏,‏ والقناعة خلاص فنت وأبدا لم تعد كنزا والهم ما له قرار والمسئولية جبال والزن علي الودن إبليس بيقول له طريقك سد‏,‏ والمسئول باع القضية بمفهوم هو أنا كنت خلفتك ونسيتك‏...‏ أحمد هذا الصباح بالذات‏,‏ وبالذات هذه كانت يوم الأربعاء الأخير من ديسمبر الذي ولي فقط بالأمس‏,‏ سحب له ورقة من دوسيه الشغل وشطب بقلمه المعضعض من ضروس الغل سطورا روتينية مطبوعة بالآلة الكاتبة لتغدو بقية مساحة الورقة مرتعا خاصا لكلماته التي مكثت طويلا تزن في نافوخه‏...‏ ولما انتهي من كتابة كلمتين يشرح بهما موقفه من الحياة طبق الورقة مرات كما الحجاب الصغير ودسها في جيبه الجواني الشمال‏,‏ وساعة ما نادي عليه زملاء وظيفة أمن الشركة يتعجلونه لتناول وجبة الطفح الجماعي قام يجر ساقيه بعدما فتح درج مكتبه الأخير لإلقاء نظرة أخيرة علي حلقة سلك الكهرباء الرابض هناك في انتظار إشارة منه للشروع في الالتفاف‏..‏أحمد‏..‏ رغم التعود علي طلعته المكتئبة التي تقطع الخميرة من البيت‏,‏ والزيادة المطردة في خطوط العبسة التي أتمت بهضابها غلق منطقة الحاجبين‏,‏ إلا أنه هذا الصباح بالذات‏,‏ وبالذات هذه كانت يوم الأربعاء الأخير من ديسمبر الماضي‏,‏ بدا وكأن وجهه والعياذ بالله كله قالب عبوس مما دفع مصطفي لسؤاله‏:‏ خير يا عم أحمد شايل طاجن ستك؟‏!..‏ وأحمد لم يرد عليه‏..‏ علي كتفه ربت محفوظ بمؤازرة مؤاخاة لكنه كمن يدق علي خواء صندوق‏.‏ سماعين قام يعزم عليه بسيجارة يتيمة في علبته حشوها من أوراق الشجر ومفعولها في رفص الهموم فعال‏.‏ شد صاحبنا نصفها بأصابع مرتعشة‏,‏ لكنه عاد يرجعها لمكمنها مرة أخري مع همهمة شبيهة بالامتنان‏..‏ الحاج زكي كبير القعدة من بعد مراقبته لشرود أحمد ساعة الغداء لعب في عبه الفار ولم يتفاءل للجدع خيرا‏,‏ وعندما قام رجب يزنق أحمد بتصميم خشن في أحد الأركان مطالبا للمرة الأخيرة بالعشرة جنيهات السلف الآن وكل جنيه يناطح جنيه وليس شقارة في نقاره‏,‏ إلا أن مواجهته لشحوب وجه الأخير المريب دفعه ليرخي قبضته ويذهب عنه بعيدا مستعيذا بالله مكتفيا بالتهديد في الهواء‏..‏ و‏..‏ أحمد سحب روحه من بين قلوب الزمالة التي تعطف بسيجارة أو بعبارة تفلسف فقر الغلابة الحار تحوله بردا وسلاما علي أحمد المأزوم‏:‏ يا صاحبي اللي خلق الأشداق متكفل بالأرزاق‏..‏ التدابير نص المعيشة‏..‏ وشعرة من هنا وشعرة من هنا يعملوا دقن‏..‏ وعويل قال لكفه اللي تفرقه سفه‏..‏ وكل لقمة في بطن جعان أفضل من بناية جامع‏..‏ وحيلة العاجز دموعه‏..‏ وقال يا نعمة رايحة فين قالت عند اللي يصونها‏..‏ وبعد العسر يسرا‏..‏ وإن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله‏..‏ و‏..‏ شد حيلك فرجه قريب‏..‏ لكن حيل الجدع مقطوع‏,‏ والمقطوع به في حكاية أحمد علي توفيق البالغ من العمر‏36‏ سنة الموظف بقطاع أمن شركة غاز تك الواقعة بالمبني رقم‏6‏ بشارع‏288‏ بالمعادي أنه من بعد تناول لقمة الغداء مع زملائه عاد لمكتبه ليوصد بابه من الداخل وقام بفتح درج مكتبه الأخير ليخرج بنية مبيتة أي مع سبق الإصرار والترصد لفة سلك الكهرباء النحاسي الذي اشتراه بالأمس ليصنع من طرفه طوقا بمحيط رقبته ثم سحب الكرسي لوسط الغرفة بعد أن ربط طرف السلك الآخر في ماسورة الصرف الصحي التي تمر في السقف‏..‏ و‏..‏ نطق بالشهادة وهو يدفع الكرسي بعيدا بطرف قدمه التي خلع منها الحذاء المهترئ وكأنه ذاهب للصلاة‏..‏ ولأن الحاج زكي كبير القعدة والأب الروحي للجميع بحكم السن والخبرة والقلب الكبير لم يكن مرتاحا لمظهر أحمد في يومه الأغبر‏,‏ من هنا قام وراءه ليواسيه بكلمتين مرهم يمكن تسكن جروحه التي زادت وعدت بانضمام أخته حديثة الترمل مع جوقة عيالها لقطيع الجوعي في بيته بما فيهم الأم العجوز التي تغسل كليتها مرتين في الأسبوع ولم تعد تعرف اسمها وكل ساعة والتانية يرجعوها تائهة من فوق شريط سكة حديد المزلقان‏..‏ظل خبط ورزع وطرق الحاج زكي علي الباب بلا طائل‏,‏ ولأن الدهن في العتاقي مع اندفاعة عزم الوغوشة ع الجدع بان المستخبي من وراء حطام الباب‏..‏ مشهد مسرحي ووحده الموت من قام بدور البطولة بين متفرجين لم يقطعوا تذاكر للحضور‏,‏ ولا دقات ثلاث سبقت رفع الستار‏,‏ ولم يكن في الحسبان أنه علي رأس الجمهور سيكون هناك بعد فترة وجيزة وفدا قادما للمشاهدة والتحري بالملابس الرسمية‏..‏ ابن توفيق رأسه مدلاة فوق صدره متأرجحا في السقف والكرسي هناك وشه للحيط ورجليه لفوق‏,‏ وفردة حذائه فمها مفتوح لليمين والأخري مصابة مثلها بفالج أطاح بوجهها كله للشمال‏.‏ مشهد انتحاري‏..‏ يعني أحمد يا ولداه عذاب في الدنيا والآخرة وهو من ظن بتنفيذ فعلته السودة أنه سيعلو فوق الأحداث وفوق المحن وفوق مسئوليته الجديدة تجاه شقيقته الأرملة اللاجئة لحبيبي يا خويا يا غالي علي يا ابن أمي وأبويا‏..‏أحمد‏..‏ طبعا كلكم تعرفوه لأنه ببساطة وبمواصفات قهره وغلبه وضيق حاله موجود في كل بر مصر منه الكثير والكثير مثل ورد النيل يسد كل مجري علي خريطة النيل المفدي من أسوان ونازل لوادي حوف والشلال‏,‏ وطالع لالتقاء الحلو بالمالح‏..‏ تلاقوه‏..‏ أحمد‏..‏ كمالة عدد وسط الجموع‏.‏ حبة رمان داخل شغاف تجمعات القلب‏.‏ واقف كما الملايين في صف انضباط صفوف كيزان الذرة العويجة‏.‏ قمحة داخلة مع غيرها تنسحق جوه الطابونة‏.‏ بحة سعال خارجة وسط نوبة صدر في نزلة شعبية‏.‏ جسد مصلوب في جوقه ضغط زحام أوتوبيس العاصمة‏..‏ أحمد في الريف والحضر وفي جبل الجيوشي وبين عيدان القصب وفي أبراج الحمام بعدما لم يصبح مرسالا للغرام‏.‏ أحمد ساكن جوه آهة الناي‏,‏ طاير مع الطير المهاجر لسواحل اليونان والترك‏,‏ قاعد علي طرف الرصيف يرتاح ويدردش‏..‏ أحمد موجود في بحري وقبلي وعنوانه باب الشعرية والجمالية ودرب الجماميز والمنوفية‏,‏ وله جذور عند جده لأمه في غرب طهطا‏,‏ وصلة نسب عند السيد البدوي في طنطا‏,‏ ومن إخوته العشرة في عين العدو واحد مقيم من زمن في رحاب المرسي أبوالعباس‏,‏ وله أبناء عمومة في كل من طلخا والسلوم‏..‏ سي أحمد المستوظف ساكن في شقة مطرحين وصالة وعفشة مية مع جماعة الأسطي برعي النجار والمعلم حسن بتاع المدبح وعبدالحفيظ أفندي مفتش السكة الحديد‏,‏ والشقة بابها ع الحارة وفي الوش دوغري ضهر الاستبالية بشاشها وصواتها‏,‏ والعيال داخلين خارجين من غير خشا ولا أدب‏..‏ أحمد مثل ملايين طفح انفجار الأرحام التي تمتلئ بروح الانتقام وعدم وجود تسلية أخري جاء إلي الدنيا بلا مبرر‏,‏ بلا حول ولا قوة جاء مع لزوم الطلق والدفع وظهور الرأس‏,‏ جاء ولا له في التور ولا في الطحين‏,‏ ومطرح ما يحطوه يقعد‏,‏ ومطرح ما يركنوه ينام‏,‏ ومكان ما يتعين يدور الساقية‏,‏ وبأي زغاريد يشيع يجيب عيال‏,‏ وبأي لقمة يسد زوره ويشبع ويتجشأ ويبلع بق شاي أسود من براد صاج يبقلل طول الوقت فوق النار‏..‏ أحمد توفيق المذكور أعلاه للأمانة حاصل علي شهادة‏,‏ وشهادته من حظه في زمن بطالة مزمنة زرعته وراء مكتب في شركة والشركة شغلها في الغاز‏,‏ أي أحد مشتقات البترول الذي نقرأ عنه مع كل طلعة فجر خبر اكتشاف بئر قد تفجر علي يد شركة الخواجات بالذهب الأسود في الصحراء الشرقية والغربية‏..‏ ولتوالي الأخبار السعيدة في تصريحات المؤتمرات الصحفية المتلاحقة للسيد الوزير المزمن قلنا لروحنا خلاص يا ولاد البلية لعبت معانا وعدينا‏.‏ خلاص بقينا قاب قوسين أو أدني من الفلوس وبالفلوس علي كل شيء تدوس والدراهم مراهم وكفاية سقط الكلام عن الكفن اللي مالهوش جيوب‏..‏ خلاص بقينا في عداد دول عربية مجاورة علي نفس خط طولنا وعرضنا انبدل حالها وكانت لغاية إمبارح تمشي في ركابنا فأصبحت ترفل في الثراء وحديثها النفط والبرميل والدينار‏..‏ و‏..‏ ننتظر ونشمشم أتاري ريحة الجاز التي تصلنا ليست نابعة من طبقات جيلوجيا الأرض وإنما من الشعر حيث وضعنا نقطتين جاز قبل ما نسرح فروة الرأس بالفلاية للقضاء علي الصئبان‏,‏ والدليل علي أن الجاز في الراس وليس في الكراس أن محمد توفيق موظف شركة الغاز ذات نفسه قد انتحر إملاقا من ضعف راتبه‏,‏ وقد يكون والعلم عند الله مع القلوب الحجر والجيوب التي تغطي العيوب أن هناك رئيسا لمجلس إدارة قد دعا لترشيد الاستهلاك وأغلق باب الاستدانة بالضبة والمفتاح بحجة نضوب ميزانية الشركة في المشروعات الجديدة‏,‏ والسحب ع المكشوف‏,‏ واحتساب ما لهم عند الغير من ملايين ديونا ميتة‏,‏ ده غير أزمة فرق العملة‏,‏ والساعي الذي تمت المساعي لإجراء عملية تغيير شرايين قلبه بشيء وشويات‏,‏ وبالتالي وتحصيل حاصل مافيش أرباح‏..!‏ولأنها موتة غير طبيعية هرول فيها عزرائيل علي عجل ليقبض الروح من السقف وليس من الفرش‏,‏ لهذا لم يجر علي أحمد ما يطبق عادة علي الميتين الأخر باتباع مقولة إكرام الميت دفنه‏,‏ فقد تدخلت هنا عدة عوامل خارجية منها عامل المفاجأة والكرسي والسلك والأرجحة في الأعالي‏,‏ هذا رغم غياب عشماوي وعدم إحلال البدلة الكالحة بالحمراء‏,‏ وغياب طاقم الوداع الرسمي المدعم برجل الدين‏,‏ وتلاوة الكبير حيثيات الحكم علي مسامع المحكوم عليه ليسأله من قبل فتح الطبلية‏:‏ نفسك في حاجة؟‏!!..‏ ولأن عند أحمد عشرات المطالب نفسه كمواطن فيها كلها إلا أنه حتما ووفقا لطبيعته الانهزامية غير القتالية أو التظاهرية أو الاعتصامية كان حتما سيجيب بالصمت الذي هو أبلغ من كل رد‏,‏ وإن كان سيدعمه برفع صباعه الداعي للسماء بمدلول حسبي الله في كل من أوصلنا للعوز‏.‏ لكل من جعل الرغيف عزيزا وكل من جعل عزيز قوم ذل‏,‏ وكل من شفر اللحم من حلم البشر‏,‏ وكل من أقام في كل حارة سد‏,‏ وكل من أعطي عمارة معطوبة تصريحا بالعلو‏,‏ وكل من جعل أحمد زي الحاج أحمد‏,‏ وكل من انتهك الأرض والأرض زي العرض‏,‏ وكل من دفعنا لحط صوابعنا العشرة في الشق‏,‏ وكل من لم ينقطنا بسكاته‏,‏ وكل من عاملة خضرة الشريفة‏,‏ وكل من قال إن يوم القيامة العصر‏,‏ وكل من أفتي برجم التماثيل ورضاع الكبير وبأن قراءة الفاتحة للمرحوم خارج الموضوع‏,‏ وكل من يوقف المراكب السايرة‏,‏ وكل اللي زعقته من نافوخه‏,‏ وكل اللي معاكم معاكم وعليكم عليكم‏,‏ وكل اللي جابنا لورا‏,‏ وكل اللي إداها الطرشة وودن من طين وودن من عجين‏,‏ وكله كوم وده كوم لوحده‏..‏ وحسبي الله علي من كان السبب في اتساع دائرة أولاد الشوارع ليصبح المواطنون مساكين وأبناء سبيل وأولاد شوارع لا يريدون غير وجه الله‏.‏هذا‏..‏ وعندما تلقي اللواء إسماعيل الشاعر مساعد الوزير لقطاع أمن القاهرة الإخطار بانتحار المواطن أحمد توفيق داخل مكتبه في شركة غاز تك بالمعادي تولت النيابة التحقيق الذي لابد وأن يكون قد أسفر عن وجود تسلخات وسحجات في منطقة الرقبة‏,‏ وقد تكون هناك أو ليست هناك ملحوظة عن عدم حلاقته لذقنه من مدة تتجاوز الـ‏48‏ساعة قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة لاستحالة نموها بعدها حيث يتوقف بيلوجيا نشاط الغدد عن العمل‏,‏ مع غلبة المشيب المبكر في عدة مواقع منها منطقة الرأس والذقن وسوالف الجانبين مع ظهور بوادر ميه بيضة علي حدقة العين اليسري‏,‏ وميه بيضة وزرقة تعتلي حدقة العين اليمني‏,‏ وقد تعود تلك الإصابة المزدوجة لمعاناة المنتحر المزمنة من حمي البحر الأبيض المتوسط‏,‏ وقد يأتي في الوصف القانوني لتوصيف الحادثة نفور جميع شرايين الجبهة والرقبة وهذا عائد لا محال من قوة الضغط والانسحاق وانحباس الدماء بداخلها‏,‏ وإن ذكر بعض الشهود أنها كانت بادية للعيان من قبل قدوم الأخ أحمد علي الانتحار بعدة سنوات‏,‏ ورغم عدم بلوغه من العمر عتيا فهو الذي لم يزل تبعا لبيانات الأوراق الشخصية في السادسة والثلاثين فقط إلا أنه بكشف الطبيب الشرعي وجد أن غالبية أسنان الفك العلوي والسفلي مفقودة اللهم إلا أحد القواطع الأمامية وإن بدا متآكلا داخل كهف لم يعد فيه عند نهايته بجوار اللهاة إلا ضرسين لا يكادان يظهران في العتمة أحدهما من ضروس العقل تتوسطه نقرة يسكنها السوس‏..‏ وبالتجول التشريحي في الجثمان قد يبين أن كل حاجة راحت عليها رجعت له‏,‏ حتي الدرن الذي انتهي التعامل الطبي معه منذ الثلاثينيات‏..‏ حتي الملاريا التي أعلنت منظمة الصحة العالمية أنها كانت تمثل وباء منذ قرن مضي‏..‏ حتي شلل الأطفال الذي احتفل برحيله مع التطعيم وودعناه عندما أخذ هدومه وسافر بدون رجعة وكسرنا القلة وراه‏..‏ الكل عاد‏..‏ الكل آب‏..‏ الكل عايز أحمد‏..‏ الكل سكن من جديد شقة جسد أحمد توفيق المتداعية بمنافعها التي لم يعد لها نفع‏.‏ حتي البهاق‏.‏ حتي الشقاء كلها لقوها جميعها أمراضا في ثوب جديد قد بلغت المراحل المستعصية عند المدعو أحمد‏.‏وجاء‏,‏ ولابد أنه قد جاء‏,‏ وقد لا يكون‏,‏ حتي لا نوقع أنفسنا في الخطأ حول صحة سرد النبأ في حادثة الانتحار التي جرت أحداثها في منطقة البين بين‏,‏ بين عام رحل وعام نضع أيدينا علي قلوبنا إذ دخل‏,‏ من أنه بعد تفتيش جميع أغراض المنتحر قد تم العثور في الجيب الجواني الشمال علي ورقة مطوية كالحجاب كان مقدرا لها السقوط من الفتق المتسع‏,‏ لكن الله أراد كشف المستور‏,‏ فما أن قام السادة المسئولون بفتح طياتها حتي كادوا لأول وهلة يلقونها جانبا كتحصيل حاصل للشطب البادي فوق سطورها الروتينية المطبوعة‏,‏ إلا أن كلمات مكتوبة بخط اليد في نهاية الصفحة قد لفتت النظر تضم سطرين أوجز فيهما المنتحر المسألة المصرية بلغة لها دلالتها الموجعة التي توجع القاعدة بينما تزيد أهل القمة ضجرا وقرفا وسأما واشمئناطا كبيرا من سخف ثلة من الناس لا تريد أن تعرف أن مصلحتها في إلغاء الدعم‏,‏ وأن صحتها المثالية في المشي كعابي والريجيم والنوم من غير غدا ولا عشا ولا فطار‏,‏ وأنه بتشفير اللحوم ــ وليس تشفيتها ــ قضاء علي الكوليسترول والدهون المشبعة التي تسد الشرايين‏,‏ وأن خفة الظل ليس لها علاقة بغلاء سكر البنجر أو قصب السكر‏,‏ وأن نصيحة خبراء الاقتصاد صرفما في الجيب بلا انتظار لما يأتيه الغيب كي لا ننزلق لمتاهة الغيبيات‏,‏ وأن جنيه أخف من عشرة لمجابهة التضخم والوزن الثقيل علي عضلة القلب ودوالي الساقين‏,‏ والتفويت أجدي من التبكيت‏,‏ والنق مكروه دينيا مثل النقد ويدخل كمان النار‏,‏ والاستسلام أنعم من الاعتصام‏,‏ والكركرة زي الدكترة‏,‏ والمساواة في الظلم عدل‏,‏ والفتنة أشد من القتل‏,‏ واحنا بنقري في سورة عبس‏,‏ والبرطمة عيب‏,‏ وصوابعكم مش زي بعضها‏,‏ والحكاية مش قفش‏,‏ والنهار له عينين‏,‏ والدنيا اتخلقت في سبع أيام‏,‏ والقرية الغبية أكثر التحاما من الذكية‏!‏كتب أحمد بيده التي ظل فيها أصبع السبابة مرفوعا بوضع الحسبنة للسماء حتي من بعد موته‏.‏ كتب بالقلم المعضعض من الغيظ‏.‏ كتب لأبنائه الثلاثة التوائم الذين أنجبتهم امرأته دفعة واحدة فأعانه الجيران وأهل الخير عند مولدهم‏,‏ لكنهم ما أن بلغوا الثالثة حتي تخلي الجميع عنهم لشقاوتهم التي تشيط عقول النساء‏,‏ وتفتح قرون الرجال مما يستدعي خياطة بالغرز في الاسبتالية‏..‏ ولأن أحمد الأب لم يكن يستدل علي من هو حامد من محمد من محمود في أبنائه التوائم فقد كان يقوم بعقاب ثلاثتهم معا الغالب علي المغلوب‏,‏ وعندما تهل السخونية والكحة يشتري الدواء مرة واحدة ثلاثيا‏,‏ ولم يكن حريصا علي أي زيارة متعلقة بزوجته قدر حرصه علي صحبتها في مشوارها الشهري الملزم للست الحكيمة للتأكد بنفسه من أن لولب تنظيم الأسرة في وضعه الإنساني الصحيح لسد فم الرحم كي لا يفاجأ بحمل جديد يفرخ مصائب جديدة‏,‏ فالنحس الذي يمشي في ركابه يأتي بها إليه زرافات وليس وحدانا‏.‏كتب أحمد في رسالته الأخيرة يقول بالحرف الواحد‏:‏ آسف قررت الانتحار‏,‏ فلم أستطع مواجهة الحياة أو تلبية مطالب أسرتي‏..‏ وتظل صورة جسد أحمد المتأرجح في سلك كهرباء في المخيلة أحاول أن أنئيها بلا طائل عن ناظري‏.‏ مشهدا أليما لوطأة الحياة علي البعض‏..‏ مثالا لانتحار شعب لم يدفعه الجوع يوما للانتحار فدائما كان هناك حد محتمل للفقر‏,‏ ودائما كان هناك محيط عائلي واجتماعي وديني يمد يد المساعدة لجعل الحياة أكثر سهولة‏,‏ ودائما كان رغيف العيش بديلا عن اللحم وساندوتش الفول يملأ المعدة‏,‏ وفي قروانة العدس الخلاص‏,‏ لكن ساندويتش الفول وشوربة العدس عندما انتقلا لكافيتريا فنادق النجوم الخمس‏,‏ وعندما أصبح الشبع بالخواء والهواء والهباء والغلاء مستحيلا‏,‏ والرغيف مستحيلا‏,‏ تأرجح أحمد في السقف بدلا من عنقود النور‏..‏ وبكي الرجال فليس البكاء شأنا نسائيا‏.‏ لابد للرجال من أن يستعيدوا حقهم في البكاء خاصة عندما يظن أحدهم أن الخلاص في لفة سلك كهرباء‏...‏ هذا وقد أعاد سيادة اللواء تطبيق ورقة أحمد توفيق علي حفنة رماد الكلمات وضمها لعهدة مخلفات التحقيق‏,‏ ربما للانتقال للتحقيق في أكثر من بلاغ مماثل في محافظات أخري‏,‏ وحملت أكتاف الحاج زكي النعش‏,‏ ولا تصدقوا أن الخشب غير موصل للحرارة‏,‏ فالموت هنا لا يعترف بنظريات الكيمياء فقد مال النعش يلثم خد الحاج الذي كان الود وده أن يأخذ أحمد في أحضانه‏.‏ يخلع عنه أكفانه‏.‏ يقبله تلك القبل التي توقظ الموتي‏..‏وأخاف من وطأة حضور خيال صورة أحمد في ذهني حتي لا تحفر هي الأخري علي جدران الذاكرة لتجاور مشاهد سجلتها عدسة الصحافة اللاإنسانية التي تبغي صورا بدم ساخن مما يجعل المصور دائم الخوف علي صوره أن تبرد‏,‏ أن يتخثر دمها ويجمد قبل طبعها لتغدو هناك الصورة الصفقة‏..‏ أخاف أن تجاور صورة أحمد لقطة جثمان السادات عاريا فيها مثقوبا بالرصاص‏,‏ ووجه كاميليا نجمة الإغراء عندما احترقت وتفحمت وانتفخت إثر حادث وقوع الطائرة بها‏,‏ ورأس السجين العربي الطائر بحد السيف في الهواء بعد الحكم عليه بالقصاص‏,‏ ولقطة للمطرب العذب المعذب محمد فوزي في أيامه الأخيرة بعدما نال منه المرض العضال ليتركه هيكلا عظميا إثر نكسته بتأميم شركة أحلامه الموسيقية‏,‏ وأخيرا صورة شهيدة باكستان بينظير بوتو المسلمة المحجبة التي يعني اسمها باللغة الأردية السيدة التي ليس لها نظير وذلك في لقطة شخصية تسللت فيها الكاميرا المتدنية لتظهرها شبه عارية لتعيد نشرها بدافع السبق الصحفي هذا الأسبوع صحافة بلا قلب‏,‏ وسبق بلا ضمير‏..‏ وحمدا لله أن أحمد توفيق دخل مكتبه وعقد سلكه وثبت مقعده وانتحر فقرا بعد أن أغلق عليه بابه‏..‏ و‏..‏ لعل بلدنا تقيس اهتزازاتها بمعيار ريخترها الاجتماعي‏..‏ لتتعرف علي الطبقات السفلية لشهقاتها‏.‏ لتعرف في أي من العهود تراكمت حفريات أساها‏..‏ لتسجل إلي أي بعد تسربت دموعها الجوفية‏..‏ وفي أي زمن استدار حزام زلازلها‏..‏ وعلي أي عمق تكمن براكين غضبتها‏..‏ وفي أي تاريخ جاع فيها المواطن لحد الانتحار‏.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق