الأربعاء، 19 أغسطس 2009

سـليم حسـن عاشق المحروسة..بقلم سناء البيسي

قالت له أمه الملهوفة علي مستقبله بعد أن باعت مصاغها قطعة وراء الأخري ليتمم دراسته: اسمع يا سليم يابني لابد تكمل علامك والراجل بيعيش مرة واحدة ولاجل ده لازم يعيشها دكر.. وكان الملك فاروق يكرهه موت ويقول عنه: الفلاح ابن الـ..... أخد مال أبويا.. بينما قال عنه الملك فؤاد: سليم حسن شاب يعمل ويجتهد غير أنه لا يرغب أن يري افرنجيا في البلد, بل يريد أن يكون هو المسيطر علي المتاحف والآثار المصرية.. وإذا ما كان الدكتور سليم حسن عميد الأثريين المصريين قد سمع كلام أمه وعاش دكر, فإنه لم يغضبه كلام الملك فؤاد ولكن أخذه العجب منه كل العجب, لأنه وهو الملك الجالس علي عرش مصر لا يريد لأبناء بلده أن يكونوا هم المسيطرون علي وظائف الحكومة!!.. أما ما نطق به فاروق من سباب فقد كان عالمنا الأثري الجليل يتوقعه بعد أن دخل حربا خفية معه كان فيها يطلق علي فاروق لقب لص الآثار الجرئ, وأبدا لم يتنازل عن اتهامه له بسرقة آثار المحروسة ومنها عصا توت عنخ آمون, التي أذيع أنه لم يعثر لها علي أثر... قبل وفاة الملك فؤاد جاءني أحد أمناء القصر وأنا وكيل مصلحة الآثار ومعه مجموعة آثار كانت في حوزة فؤاد وقال لي إنه يرسلها هدية منه إلي المتحف المصري, وعندما أصبح فاروق ملكا أراد استرداد هذه المجموعة الثمينة فأرسل لي مراد محسن باشا ليقول لي إن الملك يريد آثار المغفور له والده, ولما كنت متوقعا أن يقدم فاروق علي هذه الخطوة فقد سجلت المجموعة في سجلات المتحف, وأصبحت بذلك ملكا للدولة لا تخرج من المتحف إلا بقرار من البرلمان, ورغم علم فاروق بذلك لم يكف عن المطالبة وأرسل لي محسن باشا مرة أخري فقلت له: أنا مستعد أسلم لكم الآثار بشرط أن تكتبوا إيصالا بأنكم تسلمتموها بصفة أمانة, ومنذ ذلك الوقت أعلن فاروق الحرب ضدي وأخذ يعمل علي إبعادي عن المتحف واتهمني بكل ما شاء من التهم التي تحولت إلي قضية أمام النائب العام ياسين أحمد باشا, ولما فحصها أدرك أنها باطلة ووصفها بأنها بنت سفاح ليس لها أب ولا أصل, وطار ياسين باشا النائب العام في هذه الزوبعة التي أثارها فاروق ضدي, وفي عام1939 حاول النقراشي باشا إعادتي إلي عملي فثار فاروق, وكان قرار الإعادة يوم الأربعاء فاجتمع مجلس الوزراء ليصدر قرار إبعادي يوم الخميس!!.ولا ينتهي الصراع الخفي بين الحرامي وحارس الكنز الذي وجد23000 قطعة مفقودة ومسجلة من المتحف عندما قام بجرد محتوياته في سبعة أشهر انتهت في أبريل1960, ويروي سليم حسن كيف أحرج فاروق في عام1946: كان المتحف المصري مغلقا بسبب الحرب, وفي هذه الأثناء كانت بعثة من الفرنسيين تعمل في( صان الحجر) لاكتشاف ملوك الأسرة الـ21, واكتشفت البعثة آثار كاهن مات في سن الثامنة رغم أنه كان كبير الكهان واسمه( حورنحت) وتقدر آثاره بنصف مليون جنيه, وكان مدير المتحف فرنسيا اسمه( دريتون) فاتفق مع البعثة علي نقل هذه الآثار إلي متحف اللوفر في فرنسا, وتم الاتفاق أيضا علي التقدم إلي الملك أثناء حفل افتتاح المتحف بعد الحرب ومشاهدة الآثار المكتشفة بطلب منحها لهم مكافأة علي اكتشافها, واستعانوا بامرأة حسناء أوقفوها عند جناح تلك الآثار في انتظار وصول الملك.. وجاءني كبير أمناء المتحف محمود علي حمزة ليبلغني بالمؤامرة, فطلبت منه الإسراع بتسجيل التحف فورا, وفي يوم الاحتفال فوجئ الجميع بحمزة يعلن أنه سجل تلك الآثار وأنها أصبحت ملكا للدولة.. وثار فاروق في وجه حمزة قائلا: هو أنا سألتك سجلتها ولا لأ.. لقد كان فاروق يريد إجابة البعثة إلي طلبها, ولكنه أحرج, ويومها جمعت مندوبي الصحف وأعلنت أمامهم أن مولانا المبجل يفتخر بهذه الآثار, وبأنها أصبحت ملكا للدولةفأحرج فاروق وقال يومها لرجال السراي: هو برضه الفلاح ابن الكلب اللي عملها فيه!.سليم حسن ابن قرية ميت ناجي بمركز ميت غمر من رأت عيناه النور في8 أبريل عام1893 من أبوين فقيرين: والدي فلاح يعمل بيديه وأسنانه ويكسب لقمة العيش بالعرق والدم والكثير من أعصابه.. وأمي الفلاحة الشامخة بجلابيتها السوداء التي قدمتها بفخر للسفير البريطاني السير مايلز لامبسون ــ اللورد كيرن فيما بعد ــ عندما كان يحلو له زيارتي أثناء عملي في الحفائر الأثرية فانحني لها ــ وهو من كان وقتها بمثابة نصف إله ــ شاكرا أمومتها التي أنجبتني عالما.. في السابعة تربع سليم أمام الشيخ محمد القادم من كفر الجهنمي ليعلم عيال الكفر فك الخط, وبعدها ذهب سليم مع لوح الاردواز للكتاب الذي خرج منه حافظا للقرآن الكريم.. ثم أكثر من مدرسة انتهت إلي مدرسة المعلمين العليا قسم آثار التي كان يتقاضي فيها جنيهين راتبا شهريا من وزارة المعارف يقتسمها مع شقيقته ــ راعيته الحنون في الغربة ــ ليتبقي له جنيه للأكل والمواصلات والكراريس وعشت أياما مريرة أنام علي الطوي يصفق الجوع بطني بينما أنتزع من الجنيه قروشا أشتري بها كتابا أحتضنه ككنز ثمين, وظلت مكتبتي التي تحوي آلاف الكتب تضم بعضا من كتب اشتريتها يوما بدلا من الطعام.. ويتخرج سليم في سن الـ23 مدرسا للتاريخ واللغة الإنجليزية متنقلا بين أسيوط وطنطا, ونتيجة لنبوغه في مادته طلبت منه وزارة المعارف القيام بتأليف كتب التاريخ لمراحل التعليم الثانوي, وكان وراء ذلك حكاية أنني كنت أشرح أحد الأحداث التاريخية للطلبة وإذا بالباب يقرع ويدخل منه رجل بوجه أحمر يرتدي البرنيطة ويمسك بنوتة صغيرة.. لقد كان مفتشا إنجليزيا.. ولم أظهر له اهتماما واستطردت أكمل الشرح, وخرج الرجل وهو يشد علي يدي بابتسامة عريضة, ومرت الأيام وتلقيت خطابا كان نقطة التحول في حياتي, فقد علمت أن ذلك المفتش قد أثني علي معلوماتي وشرحي وسعي ليجعلني أكتب تاريخ مصر وكنا في عام1915, وكتبت التاريخ المصري من بداية الفتح العثماني, وكتبت تاريخ أوروبا في جزءين, وتاريخ الدول العربية, ودرست كتبي في جميع المدارس الثانوية والعالية في ذلك الوقت المبكر.. وتقوم ثورة1919 وتمنعه السلطات هو وزميله فكري أباظة من مبارحة أسيوط لمدة سنة كاملة, ومع نهاية عام1921 يعين مع محمود علي حمزة أمينين مساعدين للمتحف المصري بإصرار من أحمد شفيق باشا وزير الأشغال صاحب موسوعة مذكراتي في نصف قرن.ولأن السفر كان حلما فقد ادخر سليم حسن كل قرش يأتيه من تأليف الكتب حتي توفر لديه ما يسر له السفر في عام1922 علي نفقته الخاصة لحضور الاحتفال بمرور مائة عام علي حل شامبليون لرموز اللغة الهيروغليفية, وهناك بدأ رحلة البحث والتسجيل للآثار المصرية في الخارج راصدا واصفا القطع المسروقة, وفي أحد المتاحف يقترب منه رجل ليهمس في أذنه ضاحكا: انظر إلي التحفة التي أمامك.. إنها رأس نفرتيتي, من آثار قدماء المصريين, إننا لم نعثر عليها في أوروبا, ولكنها من مصر.. أتعرف من الذي سرقها.. أنا الشخص الخبير الواقف أمامك.. إن المصريين لا يعرفون شيئا عن آثارهم.. إنهم لا يعلمون شيئا عن رأس نفرتيتي ومازالوا جهلة بقيمة آثارهم.. وفي اليوم التالي أخذ سليم صورة لرأس نفرتيتي ليرسلها للقاهرة مرفقة بعدة مقالات نارية نشرت في جريدة الأهرام تحت عنوان الآثار المصرية في المتاحف الأوروبية كشف فيها عن أسرار سرقة الآثار ودور الأجانب في ذلك, مما أثار حملة عالمية وقومية للوقوف ضد السرقات الفاضحة لثروتنا القومية, وكان لها رد فعل سلبي لدي المستشرقين وأصحاب المصلحة ــ من الأجانب والمصريين ــ في استمرار عمليات نهب الآثار وسرقتها,وكان مما كتبه من المضحكات المبكيات في تاريخنا المجيد أنه في عام1855 عندما كان الأمير النمساوي الأرشيدوق مكسمليان في زيارته إلي مصر قد اصطحبه الخديو عباس الأول إلي دار الدفتردار في الأزبكية ليشاهد مخزنا كان محمد علي قد خصصه للآثار.. وهنا يروي سليم حسن إن باشا مصر أراد أن يحتفل بالأرشيدوق فأعد له جوادا عربيا مطهما بلجام من الذهب الخالص وسرجه مطعم بالجواهر والأحجار الكريمة, فطلب الأرشيدوق بدلا من ذلك الجواد شيئا من الآثار المصرية القديمة, فقام عباس المعطاء بإهدائه جميع آثار الدفتردار, وخرج النمساوي بالهدية التي لا تقدر بمال وهو لا يكاد يصدق نفسه خاصة أن الجواد الذهبي قد تهادي في المقدمة ليركب السفينة مع الأرشيدوق في طريقه للنمسا.ويسافر العالم إلي فرنسا في بعثة ليمكث أربع سنوات ونصف لدراسة الآثار المصرية القديمة في السوربون, حيث اشتري بيتا بحوالي400 جنيه كان مهبطا وملاذا ومضيفة للطلبة المصريين الوافدين حتي أن أحمد الصاوي محمد كتب عنه أنه بيت الأمة في فرنسا.. وطوال مدتي هناك ــ كما يقول سليم حسن ــ لم أسهر في ملهي, وحدث مرة أن مكثت إحدي عشر شهرا دون أن أبرح بيتي استعدادا لامتحان السوربون, وكان الجيران يلاحظون اختفائي فخشوا أن أكون مريضا أو أصابني مكروه, فكانوا يدقون بابي ليجدونني جالسا بين الكتب.. وعدت لقاهرتي أحمل دبلوما من المعهد الكاثوليكي في اللغات الشرقية وهي المصرية والقبطية والعبرية والسريانية والحبشية, وأيضا دبلوما من السوربون في الديانة المصرية القديمة, ودبلوما آخر في الهيروغليفية.الأثري المكتشف الذي حصل علي الدكتوراه من جامعة فيينا عام1935, وفي يناير1936 أنعم عليه برتبة البكاوية لم تنله لعنة الفراعنة التي حذره منها الإنجليز لتكون الكشوف وكنوزها حكرا عليهم, فعندما رفع الفأس بيده ليبدأ الحفر بأول معول بجوار أبوالهول مباشرة وضرب الأرض وأزاح التراب التقي بالوعد.. حجر كبير باسم رع ور تحته أكبر مقبرة ظهرت في الدولة القديمة كلها, وظل الكشف حديث الصحافة العالمية عشر سنوات, واستمرت الكشوف لتبلغ171 مصطبة ومقبرة وكان يقول بصدد اكتشافاته: غايتي في الكشف أن أبلغ إلي أصل الشيء, والكشف عندي ليس مسألة تخمين أو مصادفة بل هي مسألة مبنية علي معلومات صحيحة, وكان يري أن الطريقة المثلي لكشف الآثار أن تكون بريئة من الجري وراء الكنوز الذهبية, بل يكون غرضها الأسمي إماطة اللثام عن الفجوات الناقصة في التاريخ وإظهار ما كان لمصر من حضارة. أما عن أسلوبه في التأريخ فقد وصفه في الصفحة الأولي من الجزء الأول من موسوعته العملاقة مصر القديمة: هذه محاولة جريئة أردت بها أن أجمع في مؤلف واحد تاريخ شعب عريق قديم, له عقيدته وفلسفته في الحياة. وله ثقافته ونظامه وطرائق معيشته. ولم أتخذ من تاريخ الملك الفرعون نموذجا لتاريخ شعبه كما جرت العادة بذلك في الكتب, ولم أجعل حياته وعاداته ونظمه وثروته ومعتقداته مقياسا للحكم علي أحوال رعيته, فقد يكون الفرق بينهما كبيرا والهوة سحيقة. بل جعلت حال الشعب أساسا لما كتبت, وفي ذلك ما يقربنا من الحقيقة ويجنبنا مزالق الخطأ والضلال.. لقد اختار سليم حسن أن يفسر تاريخ مصر تفسيرا شعبيا.. فالشعب يفسرالملوك, وليس الملوك هم الذين يفسرون حياة الشعوب.ولأنه درس التاريخ الذي كتب علينا أن نحياه لا أن نقرأه فقط من جديد, فقد دونه سليم حسن كما جاء في بردية ليدن مع نهاية الأسرة السادسة عام2500 قبل الميلاد الذي صور فيها الحكيم إيبو ـ ور عصر الفوضي والتدهور الداخلي.. عصر الانحلال: لقد اختفت مصر من الأعين فجأة وصارت في ظلمة كأن مصيبة عظمي قد نزلت بها.. قضي علي الضحك ولم يعد يسمع, بينما أخذ الحزن يتمشي في طول البلاد وعرضها ممزوجا بالأسي, وكره الناس الحياة حتي أصبح كل واحد منهم يقول: ليتني مت قبل هذا.. والأطفال الصغار يقولون: كان عليه ألا يجعلنا علي قيد الحياة.. والأطفال حديثو الولادة يلقون علي قارعة الطريق, وألقي المواطنون علي أحجار الطواحين الخامدة, وتولي الغوغاء مراكز الطبقات العليا, والقلوب صارت ثائرة, والمصريون أصبحوا أغرابا وأهملوا جانبا, وأصبحت الأرض تدور كما تدور عجلة الفخار, وفارق النبل الدنيا, وأصبحت ربات البيوت يقلن أني لنا ما نأكله, وذبلت أجسادهن في الأعمال, وتحطمت قلوبهن من ذل السؤال, وأصبح الذين كانوا يرتدون الكتان الجميل يجلدون بالسياط.. وأصبح اللص صاحب ثروة, وتحول النهر إلي دماء عافتها النفوس, وأصبحت البلاد مليئة بالعصابات حتي أن الرجل يذهب ليحرث أرضه حاملا درعه, وشحبت الوجوه وكثر المجرمون ولم يعد هناك رجال محترمون, وصارت النساء عاقرات.. ويوجه الحكيم إيبوــ ور في عام2500 ق.م رسالته في البردية التاريخية للحاكم: إن الصدق والقيادة والفطنة معك, ولكنك لا تنتفع بها, فالفوضي ضاربة أطنابها في طول البلاد وعرضها, ولكنك مع ذلك تتغذي بالأكاذيب التي تتلي عليك رغم أن البلاد أصبحت قشا ملتهبا.وفي محاولة لقراءة عالم الآثار الكبير ذهبت في جولة لزيارة مكتبته لأقترب من أوراق كتبها وقرأها وهضمها.. ذهبت إلي مكتبته التي انتقلت عن طريق ورثته للجامعة الأمريكية في عام1980 فوجدت مؤلفاته قد بلغت نحو53 مؤلفا بالعربية والفرنسية والإنجليزية تتصدرها موسوعته مصر القديمة.. هموم4 آلاف سنة, وخمسة آلاف صفحة في عشرة آلاف يوم إلي جانب موسوعة باللغة الإنجليزية من16 جزءا عن حفريات منطقة الجيزة لم تتم ترجمتها بعد..و مئات الكتب في الفن والأدب والفلسفة والشعر, ومما استوقفني في مكتبته من كتب التاريخ النادرة رحلة إلي بلاد النوبة من تأليف الفرنسي كلييود عام1826 المصحوب بالرسوم والخرائط التفصيلية التي استعان بها سليم حسن عندما أسندت إليه مهمة المشاركة في نقل آثار النوبة ومنها معبد فيلة وأبوسمبل أثناء بناء السد العالي ليجتمع بعدها المجلس الأعلي لأكاديمية العلوم في نيويورك وينتخبه بالإجماع عضوا في الأكاديمية التي تضم1500 عالم من57 دولة, وهي أكبر أكاديمية علمية في العالم, وجاء في قرار الانتخاب أن الأكاديمية قد رشحت الدكتور سليم حسن لعضويتها لما له من فضل علي العلم وما بذله من جهود متصلة لتنمية العلم وتقدمه, ويعد سليم حسن أول عالم عربي يدخل الأكاديمية العالمية التي أنشئت عام1817.. وخرجت من مكتبة سليم حسن مؤمنة بموسوعية المعرفة لدي الرائد الراحل عاتبة ألا تكون هذه الكنوز في الجامعة المصرية وليس الأمريكية, وابتلع عتابي عندما أعرف من السفير أحمد سليم حسن الابن والوريث الوحيد ــ من بعد وفاة شقيقه لواء الجيش وأربع شقيقات ــ أنه ظل يعرض مكتبة والده علي جامعة القاهرة عشر سنوات بلا مقابل فلم يلق ردا, وعندما عرضت علي الجامعة الأمريكية أتت في اليوم التالي مرحبة لتخصص لها قاعة كبري باسم سليم حسن الوحيد الذي لم يأت ذكره في الاحتفال بمرور مائة عام علي إنشاء المتحف المصري وكان أول مصري يعمل به في منصب الأمين, ولا يقبل مبدأ القسمة, أي قسمة جميع أعمال الحفر الذي يقوم بها الأجانب بينهم وبين مصر, وعندما أراد الإنجليز اقتسام آثار توت عنخ آمون وقف في وجههم مطالبا بتقدير المبلغ الذي أنفقوه في الحفر, فقدره كارتر بـ48ألف جنيه, دفعتها له مصر, وبقيت آثار عنخ آمون كاملة بدون قسمة, لم يفقد منها إلا العصا!!!العملاق طولا وقدرا عاش في بيت رومانسي صغير شيده بالقرب من الأهرامات مما يتيح له أن تكون علي مرأي من ناظريه, تحيطه حديقة صغيرة غناء يجمع فيها ألوانا من الزهور يرعاها ويسقيها بنفسه, يصحو مع الفجر للصلاة ويجلس ليكتب ويفتح كتبا قديمة صفراء ليكتب صفحات منيرة بيضاء, وفي الأنحاء نسخ من تماثيل فرعونية تردد وتجدد حكاياتها, وعلي الحوائط لوحات رائعة من نسيج ناعم طرزتها أنامل زوجة فنانة شاركته عشق التاريخ, ونقلت مواقعه ومعاركه بالتطريز في دقة بالغة... العالم الذي تزوج مرتين وعاش في دفء الاحتضان لم تكن العواطف مركزا لاهتمامه ولا كانت المرأة شاغله الشاغل, اللهم إلا إذا كانت مرتبطة بالتاريخ والأثر كاعتنائه بشخصيته كيلوباترا التي خرج برأي قاطع فيها بأنها لم تكن مبتذلة كما صورها خيال الأدب وإنما كانت سياسية داهية, وأعف نساء عصرها, وكانت تريد الخير لمصر الوطن الذي تأثرت بثقافته ونهضته وشربت من نيله المقدس..وعندما كتب سليم حسن عن الأدب المصري القديم في الجزء الثامن عشر من موسوعته العملاقة كان ولابد له من الاستغراق في ترجمة أشعار الغزل فكان أمينا بل كأنه بذاته العاشق الذي قال علي لسان الحبيب في عام1300 ق. م لساكنة الفؤاد:عندما تأتي الريح فإنها تتوق إلي شجرة الجميزوعندما تأتين... فإنك تتوقين إليحبيبتي إذا ضممتها وذراعاها مفتوحتان خيل إلي أني امرؤ من بلاد بنت نبع العطور.. آه ليتني خادمتها لأجلس عند قدميها.. خاتما في إصبعها.. ليتني الحارس حتي تؤنبني وعندها يمكنني سماع صوتها وهي غضبي لأكون أمامها كالطفل أرتعد فرقا..وإذا ما كان لابد من الأنثي المعاصرة في حياة مكتشف مقبرة الملكة خنت كاوس ــ آخر ملوك الأسرة الخامسة, وأول امرأة حملت لقب ملكة في التاريخ التي صممت مقبرتها علي هيئة تابوت أقيم فوق صخرة مما جعل مكتشفها يطلق عليها اسم الهرم الرابع ــ فقد كانت هناك الأنثي المعاصرة وإن كانت أيضا مسكونة بحب الفراعنة.. حسناء إنجليزية شغوفة بالفراعنة منذ الطفولة وقعت في صباها في حب مدرس مصري أثناء بعثته لإنجلترا, وتزوجت منه وأنجبت ابنها سيتي لتحقق أملها من بعد انتهاء البعثة في القدوم لمصر, ولما اشتد بها هوس الفراعنة, وظهر جموحها في عشق الحيوانات وتقديسها لآلهة قدماء المصريين ومنهم العجل أبيس, وتقديمها الطعام للثعابين, قام زوجها بتطليقها لتذهب يوميا لمنطقة الأهرامات لاستنشاق عبق التاريخ فتلتقي هناك بالدكتور سليم حسن لتعيش معه مرحلة حفائره في منطقة الجيزة بجوار بول حول الاسم الحقيقي لأبي الهول ومعناه مكان عبادة الشمس, وتعيش عاشقة الفراعنة في إحدي المقابر الأثرية وتقوم بعمل السكرتيرة للعالم الأثري المصري, وتغدو بمثابة ذراعه اليمني في مراجعة مسوداته وكتبه.. وبعد رحيل سليم بك تهجر أم سيتي مقبرتها وأهراماتها لتذهب إلي منطقة العرابة المدفونة في الصعيد لتحيا بقية أيامها وتموت لتدفن بها كما جاء في وصيتها.سألوه قبل رحيله بخمسة أيام وكان يعمل وقتها لمدة21 ساعة يوميا متي تنتهي من تأليف موسوعتك عن النيل التي طلبها منك جمال عبدالناصر.. فأجاب وابتسامة غامضة علي شفتيه: بعد أن أنتهي من كتاب كيلوباترا.* ومتي تتم كيلوباترا؟- لا أدري فهناك شعور داخلي يهمس لي بأني لن أتم كتابتها..* لماذا تشرد بعيدا.. هل هو التحليق مع روح أخناتون؟- لا وإنما أحلق مع أحزاني لما لاقيته من عقوق ومازلت ألاقيه من البعض, حتي من هم في سن أولادي يستدعونني الآن إلي مكاتبهم لأتلقي أوامرهم بطريقة فظة تشعرني بالمهانة.ويمسح الكبير جبهته بيده عند قوله: في أوروبا يحترمون العلماء إلي أقصي حد.. كنت أقف في صف طويل لأحد البنوك في باريس, وفي حديث عابر مع الرجل الذي يتقدمني عرف أني عالم الآثار المصري الذي قام بتأليف مجموعة من كتب الآثار المصرية, فما كان من الرجل وغيره من الواقفين إلا أن ألحوا لأتقدم الصف كي أنتهي وأنصرف لعملي.. وقبلت منهم هذا التكريم الذي أثر في نفسي.وتبقي كلمات سليم حسن التي قالها بسخرية مغموسة بالحزن: الحياة كوميديا للذين يضحكون, ومأساة للذين يتأثرون!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق