الثلاثاء، 16 مارس 2010

حنين

وقفتْ علي مبعدة مني بعربة المترو سيدة مرسوم علي وجهها عناء عدة عقود وهي تنظر حولها في انبهار مشوب بخوفها علي ما تمسكه بيدها من أشياء تم جمعها بربطة محكمة في منديل كبير.. مع اقتراب محطة نزولي طلبت منها الجلوس فتمنعت علي غير عادة راكبات المترو فأخذت منها المنديل ووضعته مكاني بعدما قمت فما كان منها غير الإذعان والجلوس وهي تدعو لي بالصحة والعافية والخير الوفير ..إلخ من تلك الدعوات الطيبة .. مع نبرة دعائها تذكرت أمي وهي تصل الدعوة بأختها في أذني في أعقاب كل مكالمة هاتفية معها أوقفها بعبارة التوحيد فتفهم أن رصيدي أوشك علي النفاد فتكمل من جانبها لا إله إلا الله ..محمد رسول الله ..ثم تتركني لأغلق الخط من جانبي فهي لا تقوي علي قطع خط اتصالها بصغيرها الذي هو أنا .. ليست هذه هي المرة الأولي التي أشعر فيها بالاغتراب والحنين إلي أمي لكن شعوري هذه المرة مختلف لأنني أعاني بعض الدعة التي لم تكن متوفرة في سابقات تجاربي في الغربة ..فمثلا علي مدار اليومين الماضيين تناولت الفراخ واللحمة في وجبتي عشاء بنقابة الصحفيين بل إنني شعرت بالشبع المترف في كل مرة بينما قبل حوالي سبع سنوات وأنا في الثانوية العامة قضيت فترة وجيزة بأحد أحياء القاهرة بحثا عن عمل فكان طعامي خلالها الفول والطعمية إفطارا وغداءا وعشاءا ..لقد كان حنيني لأمي في حينها حنين إلي دفء الطعام والفراش وهو ما لا أفتقده جزئيا اليوم ..اليوم أشعر بالحنين لنظرة أمي الراضية لتشيع بداخلي كل التفاؤل والإصرار والمثابرة ..أحتاج إلي صدر أمي يضمني لأدفن في دفئه مواجعي ومرارات تجاربي مع أصناف من البشر عرفت فيهم معاني الوضاعة والصغار كما لم يفسر تلك المعاني قاموس أو معجم .. نزلت من المترو متوجها الي مقر عملي وهي مسافة أقطعها وأنا لا أريد لها نهاية فكل السيدات والفتيات والأطفال ممن ألتقيهم في هذا الشارع .. كلهم تقريبا .. يشكلون لوحة جميلة لا تثير بداخلي غير حب الحياة والتفاؤل فالفتيات يرسمن علي شفاههن الجميلة ابتسامة أجمل تجعل من متاعب الحياة بالنسبة لي ذرات رماد متفرقة أنفخها فتطير بعيدا في الهواء حتي تتلاشي تماما ..طبعا لا يبتسمن لي ولا لأحد من المارة لكنهن فيما أري وأحب أن أري يبتسمن لبعضهن في وجه الحياة حتى إذا فوجئن بي أو بغيري يشاهد جمالهن الأنثوي الرائق تحوّلت ابتساماتهن لغضب يكسبهن مزيدا من جمال آسر ..الأطفال حينما ألتقيهم في أحدي زوايا هذا الشارع العريق لا أمنع نفسي من مداعبتهم وفي الأغلب يستجيبون لي فتستمر المداعبة لتأتي الأم الجميلة معتذرة للعابر المجهول الذي هو أنا عن استكمال اللعب لأن لدي الأطفال ما يشغلهم !! أما سيدات الشارع اللاتي يقطعن أسفلت الشارع علي أرجلهن مثلي فهم أصناف فبائعات الخضار صديقاتي نتبادل معا السلام والكلام وبث الشكوي والآلآم من باب الفضفضة العابرة وربما استعنت بهم في بعض ما أكتبه من صحافة فأخبرهن بما كتبته علي ألسنتهن فيغضبن مني لأن الحكومة ورجالها ستترصد لهن وقد تتعسف إدارة المرافق ضدهن بسبب ما أنشره وكأن كتاباتي مقرؤة وكأنهن صرن أعلاما تعرفهن الحكومة بأم محمد وأم سعيد والحاجة محاسن حسب النبي .. الصنف الثاني من سيدات الشارع الأثير لدي هم سيدات أرستقراطيات فغالبا ما أصادفهن وهن يزاولن رياضة المشي فأنظر إليهن بعين المعجب بنشاطهن وقد أجد اثنتين بلغتا الستين أو أقل قليلا يواصلن المشي متوردات الخدود فأمازحهن بمغازلة قصيرة تنتهي بدعوة حثيثة لمواصلة المشي عبر الصراخ لهن ..واحد اتنين ..واحد تنين ..واحد اتنين ..هوب هوب ..وهكذا ..أما الصنف الأخير من هؤلاء النسوة فهن المتسولات وهؤلاء لا أتعاطف معهن قدر تعاطفي مع متسولات المناطق الشعبية علي الأقل حينما يتسولن في المناطق الشعبية يفعلن ذلك بكرامة أما في هذا الشارع المترف فالمعاملة جاهلية صرفة بين سيد أو سيدة وبين أمة أو عبد كلٌ يمارس جاهليته بإتقان مذهل ..لذلك لا أتعمد الاحتكاك بهن مطلقا فقط أنظر إليهن وكلي غضب مشوب بحسرة علي هذا المشهد اللإنساني المقيت ..وصلت لمقر عملي فلم اجد أحدا ممن تشغلني رؤيتهم فهاتفت أحدهم فاخبرني بأنه في منزله وسط أسرته الصغيرة ممددا علي سريره يشاهد فيلما كوميديا قديما ..أنهيت مكالمتي معه وأنا أغبطه علي واقعه الذي أفتقده بشدة في حياتي ..فمهما بلغ الإنسان من كمال زائف او ثراء برّاق كيف يمكنه أن يزرع نفسه وسط أسرة صغيرة يجد في صدر زوجته دفئا حلالا وفي شجاره مع صغاره حياة تنأي بنفسها عن صغار وزيف حياة المكاتب والكاميرات ؟!
عاودت السير من حيث أتيت متجها نحو المترو من جديد فلا أحد غير جدران الغرفة التي أؤجرها ينتظرني والجدران بطبيعتها لا تمل ولا يؤذيها كثيرا فراق ساكنيها فهناك دائما أناس يقومون بهذا الدور لديها ..صعدت المترو فسارعت إلي أحد الاماكن لأجلس فسبقتني إليه إحدي طالبات المدارس الإعدادية وهو ماعرفته من ملبسها ..بعد اعتدال جلستها علي المقعد ابتسمت في وجهي وهي ترسم علي قسماتها ملامح المنتصر في معركة خاض غمارها آلاف الجنود المدججين بالسلاح أجبت ابتسامتها بإيماءة لا مبالية ثم حوّلت بصري مواصلا ممارسة عادتي في قراءة وجوه خلق الله فوجدت فيهم جميعا شيئا من حنين ..فيهم من يحن لأمه مثلي ..وفيهم من يحن لمحبوبته ..وفيهم من يحن للقمة تسد جوعه ..وفيهم من يحن لوطن يحن إلينا فيحنو علينا جميعا بعد طول بعاد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق