الاثنين، 21 مارس 2011

أحمد المسلمانى يكتب: الأسطول السادس


قابلت الرئيس معمر القذافى ذات خريف قبل سنوات، كنت ضمن وفد مصرى ذهب للمشاركة فى احتفالات ثورية. وكان الراحل النبيل الدكتور محمد السيد سعيد قد كلفنى بعمل بحث عن «حقوق الإنسان فى ليبيا»، وقد نشرته لاحقاً فى كتاب صدر لى عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. أثناء إعداد البحث جاءتنى دعوة ليبيا وكنت أعرف أنى لن أدخلها بعد نشر البحث.. ومن ثم فإن هذه الدعوة هى فرصتى الأولى والأخيرة.

■ ■ كنت أفكر طيلة الوقت.. من هو القذافى هل يمكن لرجل بهذا المستوى أن يحكم دولة واسعة مثل ليبيا؟.. إن القذافى يبدو شخصاً غير طبيعى.. وهو يتحدث كثيراً ولا يقول شيئاً.. وهو يقدم حالة استعراضية من الكلام «قذافى شو» أكثر مما يقدم خطاباً سياسياً مسؤولاً أو موزوناً.. من يكون هذا الرجل؟.

إننى أتذكر الآن ذلك التعبير الأخاذ الذى صاغه الرئيس الكوبى فيدل كاسترو عن الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن «كل ما أخشاه أن يكون هذا الرجل بالغباء الذى يبدو عليه»!

(١)

أقمنا فى «الفندق الكبير» فى العاصمة طرابلس على شاطئ البحر المتوسط، وحين تجولت على كورنيش طرابلس.. كانت صدمتى كبيرة فى حالة الفقر الشديد الذى يعانيه عدد كبير من الليبيين هنا ليس بالخليج العربى، لا مظاهر للثراء ولا أثر للنفط.. وقد استقبلت فى ساعة واحدة عشرات المتسولين الليبيين الذين يطلبون الصدقات والإحسان!

كان ينبعى أن يكون الشعب الليبى أغنى شعوب العالم، إنه يملك أكبر ثروة على عدد قليل من السكان فى دولة ساحلية سياحية معتدلة المناخ والبشر.. كان ينبعى أن تكون ليبيا سويسرا العالم العربى حتى لو لم يفعل الشعب أى شىء غير الإنفاق والاستمتاع.

كان دخل ليبيا من البترول عام ١٩٨٠ يزيد على العشرين مليار دولار.. استقبلت ليبيا فى أكبر ثروة استقبلها شعب على مدى ثلث قرن، لكن نجاح القذافى كان مذهلاً فى تبديد أكبر ثروة فى التاريخ!

ضاعت وعود القذافى بتقسيم عائدات النفط وحلت محلها طوابير المتسولين أمام الجمعيات التعاونية.. وكلما بدأت ملامح طبقة وسطى أو ملامح طبقة من القادرين كان القذافى يدعهم حتى يصلوا إلى قرابة أهدافهم.. ثم يسحقهم ليعودوا إلى الصفر من جديد!

وفى عام ١٩٩٦، أعلن القذافى عن «عمليات التطهير» ألقى القبض على رجال الأعمال وأصحاب المحال والعقارات والمصانع، وأقام لذلك الهدف ألفاً ومائتى لجنة تطهير وإحدى وثمانين محكمة عسكرية!

(٢)

غادرت العاصمة طرابلس إلى مدينة سرت حزيناً على ما رأيت، وفى مطار سرت تضاعف ذلك الحزن.. دخلت إلى صالون الاستقبال من أجل بعض الراحة وبعض الشاى.. وكان الفيلسوف الفرنسى الشهير روجيه جارودى قد سبقنى إلى الشاى وإلى الجلوس.. كان من حظى أنى قضيت الوقت مستمعاً إلى جارودى.

كان جارودى يتحدث إلىّ بإنجليزية سهلة عن السياسة والسيايين.. ولقد صدمنى رأى جارودى فى القذافى.. قال لى: «إن القذافى سياسى ومفكر.. وهو صاحب رسالة صعبة فى زمن صعب» لم تكن ملامح جارودى بالصدق الكافى وهو يمتدح معمر القذافى، وقد قابلت جارودى مرة ثانية فى طريق العودة إلى مطار سرت وكان جارودى لايزال على موقفه.. وقد عرفت فيما بعد أن الفيلسوف الفرنسى الكبير كان يتقاضى أموالاً من القذافى.

(٣)

قابلنا الرئيس القذافى فى خيمة فاخرة.. ولو كانت الخيام كالفنادق تقاس بالنجوم.. لقلت إن خيمة القذافى مائة نجمة.. ولكن القذافى بدأ حديثه بالقول: إننى قائد بسيط أعيش فى خيمة متقشفة!

كانت تلك العبارة هى افتتاحية خطاب عبثى امتد ثلاث ساعات لم يكن هناك رابط واحد بين كل ما يقول إلا «العبث».. وبينما يواصل القذافى نوباته الكلامية.. توقف فجأة ثم قال: لماذا أنتم هنا؟.. ماذا تفعلون فى هذه الخيمة؟.. إن العدو أمامكم فلماذا لا تواجهونه؟.. لماذا جئتم بالطائرة من القاهرة إلى تونس ولماذا دخلتم إلى طرابلس عن طريق البّر؟.. الثائر الحقيقى لا يخاف.. عليكم أن تكسروا الحظر الجوى علينا.. الآن بعد أن تخرجوا من الخيمة عليكم أن تركبوا الطائرة من سرت إلى القاهرة.. وأن تواجهوا الأسطول السادس الأمريكى.. ماذا سيحدث لكم؟.. لا شىء.. سيضربكم الطيران الأمريكى.. ستموتون.. نعم سوف تموتون، ولكنكم ستموتون أبطالاً.. بدلاً من أن تعيشوا خائفين من أمريكا!

(٤)

لا يؤمن القذافى بقيمة الحياة إلّا له ولأبنائه.. الموت للشعب من أجل أن يعيش القائد.. بل الموت للوطن من أجل أن يحيا الزعيم.. إن أول ما يفكر فيه القذافى تجاه أى رأى مخالف هو الموت.

لا يعرف القذافى أى تدرج فى الخلاف أو العقاب.. وحين تولى السلطة فى عام ١٩٦٩ أصدر قانوناً بإعدام كل من تعتقد السلطة أنه يقاوم الثورة، وفى عام ١٩٧٢ أصدر قانون «تحريم الحزبية» والذى يقضى بإعدام كل من يشكل حزباً سياسياً، ثم أصدر قانوناً بإعدام كل من يخالف سعر الصرف السائد، ثم كان «قانون تعزيز الحربية».. والذى يقضى بإعدام كل من تشكل حياته خطراً على المجتمع!

كان القذافى مجرماً فى تنفيذ تلك الأحكام.. وكان يتوسع فيها بلا خوف أو رادع.. وفى عام ١٩٨٤ أمر القذافى بإعدام طالبين أمام زملائهما.. الأول فى فناء كلية الزراعة والثانى فى فناء كلية الصيدلة.. ولما تظاهر الطلاب أطلق عليهم الرصاص، وفى عام ١٩٩٦ أطلق الأمن الليبى النار على الجمهور الذى حضر مباراة لكرة القدم بين فريقى الأهلى والاتحاد بعد أن ردد الجمهور هتافات سياسية.. وكانت نتيجة المباراة مقتل خمسين وإصابة خمسمائه!

(٥)

أصبحت ليبيا جماهيرية بلا جماهير.. ودولة بلا رموز.. لا أغنياء ولا أقوياء ولا ساسة ولا مفكرون ولا نجوم.. تم إطفاء ليبيا بكاملها من أن أجل يضىء معمر القذافى.

ولقد نشر القذافى حالة من «السّفَهْ الفكرى».. مزيج من خرافات حول المؤتمرات الشعبية واللجان الثورية والقائد الملهم.. يرى القذافى فى نفسه زعيماً أكبر من بلاده، وكان يرى نفسه جديراً بحكم مصر.. ومنها يحكم العالم العربى.. ثم إنه رأى نفسه جديراً بحكم أفريقيا، فأعلن نفسه ملكاً على ملوكها.. ثم أنه رأى نفسه أميراً للمؤمنين، فكان يخطب الجمعة ويؤم الصلاة.. وزعيماً للصوفية العالمية.. ثم إنه زاد فى تسمين قدراته الدينية فراح ينافس بيت النبوة ذاته.. فألغى السنة النبوية والتقويم الهجرى واتهم عبدالمطلب جد النبى «صلى الله عليه وسلم» بالعمالة لأبرهة الحبشى!

■ ■ دارت السنوات اثنين وأربعين عاماً.. كان القذافى فى أولها يتحدث عن الثورة والثوار وعن مناهضة أمريكا والغرب.. ثم مضت السنون.. ليخرج جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة الأحد عشر من السلطة ومن الحياة.. ثم ها هو القذافى يواصل جدول أعماله.. «قَتَلَ الشعب فى بنغازى وطرابلس ومصراته ورأس لانوف.. وكل مكان.. ثم ها هو يأتى بالقوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية إلى بلاده من جديد.

■ ■ اثنان وأربعون عاماً.. لا ثروة ولا حرية ولا استقلال.. عاش القائد الأول ليعيش الأسطول السادس!